شهادات خاصة عبد اللطيف شهبون / حسن بيريش - محمد شكـري كما عرفته.. الإنسان يعيش زمنه ولا يستعير أزمنة غيره (1)

هذه نُبذٌ وشذرات انطلق حسن في رصدها صيف 1995 بعد مصافحة أولى للمرحوم محمد شكري، وانتهى منها في يوم مشهود حمل فيه نعش إنسان ـ صادق مودة، وأعجب به ـ إلى مثواه الأخير يوم السابع عشر من نونبر 2003·
يروي حسن على لسان الأنا وقائع حدثت له مع شكري، يسمي أمكنة، ويأتي على ذكر دقائق وجزئيات وتفاصيل معيش يومي·· مما يجعل كلامه قائما على مرجعية صلبة وحقيقية تتنافى مع الاختلاق والتوهم والتخيل·

حرص حسن على التدوين المحيّن لهذه النبذ التي وضع لها بنيات عنوانية تلف المنتقى المقصور في شكل نقاط مضيئة في حياة شكري، تعكس أحواله ومقاماته التي كوّنت شخصيته الفريدة·· متوسّلا بلغة تزداد اقترابا من الواقع بالإفراط في محاكاته·· وتستحضر كل ما يُقنع بأن المحكي كان على النحو الذي ذكره·· تنهض إذن هذه الشذرات بوظيفة إكمال معالم هذا الكاتب/ الظاهرة والمثقف العضوي بمعنى من معاني غرامشي، إذ هو صاحب مشروع وتجربة ورغبة·· كما أنه خارج نطاق الكتاب والمثقفين الهزّل بتعبير شاتليه·· خارج الطبقة والتصنيف، داخل الطبقة والتصنيف··!

كُتب هذا النص برأسين، رأس شكري الذي عاش الحدث، وخبر الموقف، وعاش الواقعة، وتفاعل معها، ورأس حسن بيريش أحد أصفياء المرحوم شكري الذي عاش بدوره الأحداث والمواقف والوقائع وانفعل بها ذاتا متكلمة في هذه النبذ التي تعكس أبعادا حياتية وانطباعات وجوانب نفسية وثقافية في موضوعات شتى: الأم، الأصدقاء، الأسرة، الكُتّاب، السياسة النبيلة···

وفي هذا الصدد، يستوقفنا ما قاله المرحوم شكري في حكومة التناوب وفي أحد مهندسيها الكبار:
"لا أعرف حجم ما أنجزته، وما فشلت في تحقيقه·· لكني لا أشك أنها أزالتْ الكثير من الأوضاع المختلة، وأعادت الاعتبار لما هو ثقافي·· حكومة التناوب لم تستطع تحقيق كل ما نادت به، لكنها أنجزت الكثير وتبنت قضايا اجتماعية لم تكن الحكومات السابقة تعيرها أي اهتمام··"·

وبعد،
فقد قدم المرحوم محمد شكري للثقافة المغربية عملا باهرا·· وظلّت مع ذلك جوانب حياته مطموسة مجهولة رغم ما تؤكده من مكانته الإنسانية والإبداعية، ولم يكن المرحوم من التفاهة والبخس كما توهّم البعض·· و هذه هي الحقيقة التي تكشف عنها نبذ وشذرات حسن بيريش··


حسن بيريش
حـ "الرضا الشكري":
وتكرُّ سُبحة لقاءاتنا· وتتواصل· وتكثر جلساتنا· وأبدأ في الاقتراب أكثر فأكثر من كاتب طنجة الكبير· وأحظى بـ "الرضا الشكري"!
أكثر من ذلك: أصبحُ من "المقربين" الذين "يحقُّ" لهم التردُّد على شُقَّة الشحرور، ومشاركته ما يعده (أو تعده فتحية) من لذيذ الطواجين!
ــ حفاوة توارى مثيلها:
أجلس قبالته· بيننا فنجان قهوة وزجاجة شراب في منتصف العمر، ومنفضة ملأى بأعقاب سجائر مارلبورو والزرقاء· يجئ كاتب طنجاوي· يستقبله شكري مهللا، كعادته مع من يمحضهم وده:
ــ إيوا الزعيم، فاين هاذ الغيبة؟
الكاتب يفاجأ بـ( الحفاوة الشكرية)، التي وارى مثيلها في أغلب أدبائنا، يردِّد بامتنان بالغ:
ــ الله يبارك فيك آ أستاذ، الله يخليك·
يطلب منه أن يتناول شيئا· يتردَّد الكاتب قليلا· يقول شكري مازحا:
ــ أمولاي، اشرب شي حاجة وإلا سر فحالك!
أقول في نفسي: "هو ذا محمد شكري: عطاء يجلو العطش، ويغرس أشجار الكرم"·
ــ كلهم أحدهم: ذات جلسة في شُقَّته الجميلة، كان شكري يحدثني عن بعض علاقاته مع الأدباء العرب· وجدتني أسأله عفو الخاطر:
ــ سي محمد، ما هي أهم شخصية أدبية التقيتها في حياتك؟
توا· ودون أخذ فرصة للتفكير، تدفَّق شكري فصاحة:
ــ كلهم أحدهم· أحدهم كلهم·
طلبت منه أن يكتب عبارته المكثفة بخطه في مفكرتي لأضمها إلى كنوزي الأثيرة·
حين كان هو يكتب، كنت أنا أستحضر قول أنيس منصور عن العقاد:
"يخرج الكلام من فمه ورقا مطبوعا"·
ـ عش زمنك الخاص:
أقول لشكري، ذات عشية في مطعم (الريتز)، محاولا استدراجه إلى قول ما لا يقوله عادة عن كتاباته:
ــ عندما أقرأ "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء"، أتمنى لو أني عشت ذلك الزمن ـ زمنك·
يفكر للحظات · يقول:
ــ شوف· هذا خطأ، الإنسان يعيش زمنه ولا يستعير أزمنة غيره· (يبتسم): لكل منا زمنه الجميل والممسوخ·
أسأله بفضول تكشفه نبراتي:
ــ هل يلذ لك استعادة زمنك الماضي، في تطوان، طنجة، العرائش، ووهران؟
يشعل سيجارة، يأخذ منها نفسا خفيفا· يجيب:
ــ أنا لا أسترجع زمني للاستلذاذ به· أو لمجرد الحنين· بل للانتقاء منه ما يصلح موضوعا للكتابة الأدبية·
ـ الله ·· الله:
يرفض شكري أن يكون محور حديث جلسائه· تواضعه يأبى ذلك·
ُتحسُّه يستدرجك، بتلقائية متفوقة، إلى الإفصاح عن اهتماماتك· عن ذات نفسك· ويغتنمها فرصة ليطأطئ كلامه· ويواصل الاستماع إليك بانتباه نادر يغريك بمزيد إفصاح· بكثير إفضاء·
مرَّة، أذكر بإعجاب ما يزال يحتلني، أبدى عدم ارتياحه لقولي له، ذات حديث حميم:
ــ لا كلام إلا بك يبدأ، وإليك فقط يفضي!
قال بنبرة تتفجَّر صدقا و تواضعا: "كلامك، يا أخي، يُسبِّب لي إحراجا لا أحبه"·
مرة خاطبه أحدهم، وكان يسجل معه حديثا صحفيا، قائلا: "ما موقفكم من···"· قاطعه شكري في حسم دالّ على جوهر إنساني فريد: "قل ما موقفك· هذا يريحني أكثر"·
هنا لا تملك، أنت الماثل في حضرة هذا التواضع السامق، إلا أن تصيح مثل صوفي متولِّه:
"الله ·· الله"·
ـ شيء من نبله:
في ربيع العام 2001، أذكر، اقترح عليَّ الكاتب المسرحي الصديق الزبير بن بوشتى التقدم لطلب عضوية اتحاد كتاب المغرب· سألت شكري رأيه· رحب بالفكرة· وعرض كتابة تزكية لي·
حين استوى نصُّ الطلب، التقيته في (كران بوسط)· ذكرته بالتزكية· أخرج قلما من جيب قميصه العلوي· تناول مني الورقة، وكتب في ذيلها بخطه الجميل:
"العزيز حسن نجمي
حسن أحمد بيريش كسب كبير لاتحاد كتاب المغرب· من جانبي لا مناقشة في قبول عضويته· أرجو أن تتم الإجراءات في الوقت المناسب لانخراطه"·
محمد شكري


8/8/2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى