طه بونيني - سلوى.. قصة قصيرة

أقفلتُ دكّاني باكرا وذهبتُ في نزهة إلى حديقة الحيوان. صرتُ ألتجئ إليها منذ أن تفاقمت مشكلتي مع موزّع منتجات الحليب.كانت الحديقةُ آهلةً بالحيوانات، شبه مهجورةٍ من الزوّار. اكتشفتُها في اليوم نفسه، الذي لاحظتُ فيه عزوفَ الزبائن عنّي، بحجّة عدم توفّر الزبادي! فهم يميلون إلى شراء كلّ حاجياتهم من محلّ واحد، وغيابُ منتجات الحليب من محلّي سببٌ لهجرانه كليّةً. حتّى زبائني الأوفياء تحجّجوا بهذا السبب، يا لسُخريةِ القدر! لم أتصوّر أنَّ وضعيتي المالية قد تنحدر بسبب علبة زبادي! ألهذه الدرجة لا يمكن توقّع مفاجآت الحياة؟!، النّاس نوعان، نوع يحبّ الحفلات ونوع يحبّ الحدائق، أنا من النوع الثاني. راق لي هدوء الحديقة، أستطيع بهذه الطريقة النفاذ إلى خلايا مخّي القاصية، تلك التي زرعَ فيها الماضي بعض الأفكار والرؤى والمشاعر البريئة، والتي أحتاج اليوم إلى أن تواسيني. ساعدني كوبُ الشّاي الصحراوي لضبط مخّي على إحدى الموجات، ولم تتوفّر حينها غير موجة الرثاء.
كانت الحديقة متوسّطة الحجم، لا تزيد عن هكتار. وكانت أبعدَ ما تكون عن الحدائق المحترفة. إنّك لتجدُ فيها النّسورَ والبطّ والنَّعامَ والضّباع، حتّى حيوان اللَّاما ألفيته! وعلى بعد خطوتين، قفصُ الرّيم، يجاوره الوعلُ البرّي، ثمّ الطاووس يحاذيه الحجل والحمام... أيُّ ترتيب هذا؟!!...» لا تبحث عن التناسق!» قُلتها لنفسي كنصيحة شخصية.، لا أدري! ربّما قد تضرّر الزجاج الذي أرى من خلاله العالم، بفعل الأزمة التي أكابدها، أو بفعل موجة الرثاء التي يركبُها وِجداني. ولهذا رأيتُ حديقة الحيوان، مقبرةً للحيوان. ربّما هو الواقع حقّا، وليس الأمر انعكاسا لحالتي المتردّية فقط!
تذكّرتُ صديقا كان يزهو بزهرة الحياة، إلى أن باغته المرض منذ أسابيع، فهو طريح الفراش. وإذ بقوافل العائدين والشامتين، يزورونه كما أزور هذا الغزال، وقد صار سجين الدّاء، كذلك الفقير هو حبيسُ العَوز، والمدمن رهينُ الإدمان... وكلّ البؤساء هم نزلاءُ الحديقة البائسة الكبرى التي نسمّيها: «دُنيا»، أمّا الأقوياء فهم زوّارها!.. واصلتُ المشي بتؤدة، فرأيتُ قفصا أكبر بقليل من الأقفاص التي تدانيه. أردتُ تحديدَ موقِعه فإذا هو قفصٌ بين حيوان الضّبع والقرد. لقد مررتُ عليه منذ دقائق، وقَدْ بدا فارغا، وها أنا الآن، أرى شيئا بل شيئين تحت الشبّاك الذي لا يكشف إلّا عن أخيلة، ثمّ ضجّ القفصُ الفارغ بحركةٍ رافقها صوتٌ لم أُميّزه، لقد كانت ذبذباته مزيجا بين الخوار والمواء والزئير. وفجأة ارتفع عن مستوى الأرض شيءٌ أصفرَ شاحب، فتكشَّف عن لبؤة، ثمّ ما لبث أن ظهر الأسد صاحبُ الصوت! اتّخذتُ مجلسا أمامه، ورحتُ أطالع هيأته. لقد وصَلَت موجة الرثاء إلى أوجها. ووجدتُ العزاء والسلوى التي أبحث عنها، أهكذا تُعامَلُ العظمة؟! نظرتُ في عينيه الذابلتين، وفي جسده الذي نَخره الكسل، وقلتُ له: «يا لها من دُنيا!! أنت تضحّي بكبريائك ولا مَن يزورك! أين النّاس؟! أين العالم؟!..» لم أُكمل كلامي حتّى دلف من بوّابة الحديقة مجموعةُ أطفال مع ذويهم. وفجأةً غصَّت الحديقة بالحياة. مرّ الأطفال قفصا بعد قفص إلى ان استقرّوا أمام الأسد، وسرعان ما قام هذا الملك، وراح يزأر وكأنّه يُقدّم عرضاً أمامهم، وفجأةً أحسستُ وكأنّ موجةً أخرى تعترض موجة الرثاء، لقد كانت موجة الكفاح. تعلّمتُ درساً! لملمتُ نفسي، وتوجّهتُ سريعا نحو الدكّان لأفتحه... تعافيتُ شيئا فشيئاً بعد ذلك، كما أنّي عدتُ بعد أيّام إلى الحديقة، لقد أعجبني الشاي...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى