حوار مع السوسيولوجي أحمد المتمسك: الخطيبي والدرس الجامعي

«بعد فترة التكوين بباريس، وبمجرد عودتي إلى المغرب، عينت أستاذا-باحثا بجامعة محمد الخامس بالرباط. تحدوني الرغبة في المشاركة في التبصير، بمشروع مجتمعي ما بعد كولونيالي، سائر في طريق التحديث. إنه مشروع سياسي في جميع الأحوال.»
: «الناسخ وظله»



الأستاذ أحمد المتمسك أحد مؤسسي الدرس الفلسفي المغربي بعد الاستقلال. كان فاعلا نشيطا في مكتب جمعية مدرسي الفلسفة، ومساهما في التأليف الفلسفي في المنهاج المغربي. هو الآن متخصص في سوسيولوجيا المقاولة، وله أبحاث منها: دراسة حول النساء في ثلاث نقابات ، وأخرى حول الأجور، بالإضافة إلى دراسة اجتماعية- تنظيمية. كما أنه مازال منتجا في التخصص الذي يمارسه من خلال مقالاته المنشورة في الصحف والمجلات، ومكونا خبيرا في مختلف مجالات التسيير. أحمد المتمسك من جيل الاستقلال، عاش في فترة المد الفكري التقدمي. عاصر مثله مثل مجايليه، وهم طلبة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، هزيمة يونيو 1967، وإغلاق معهد السوسيولوجيا 1970، والصراع داخل الاتحاد لطلبة المغرب بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبين الحزب الشيوعي وقتئذ، وهي فترة تزامنت مع ثورة 68 بفرنسا، وغيرها من الحراكات في العالم كربيع براغ والثورة الجنسية وثورة الشباب. ففي هذه الظرفية العالمية والعربية والوطنية، نشأ جيل مغرب الاستقلال، تفاعلا وتأثرا واستلهاما. تتلمذ أحمد المتمسك على يد عبد الكبير الخطيبي، وفي هذا الحوار، يكشف لنا عن جوانب منسية من تاريخ تدريس السوسيولوجيا كما مارسه الخطيبي، من حيث المنهجية، وفضاء التكوين، وأساليب التقويم، والعلاقة بين الأستاذ والطالب. وهذا الجانب البيداغوجي بقي غير مطروق في مسار الخطيبي بوصفه أستاذا جامعيا.

– أستسمحك الصديق أحمد المتمسك، في عرض شهادة أوردها عبد الكبير الخطيبي، في كتابه الأخير قبل وفاته سنة 2009 « Le scribe et son ombre» (الناسخ وظله). ولعلك معني بها مثل طلبة جيلك منذ سنة 1967.
« تفترض السوسيولوجيا ممارسة للملاحظة، والإصغاء، طريقة إعداد للفكر التحليلي، والنقدي. العلم والسياسة مترابطان. مثلا، السوسيولوجيا والباثولوجيا في الفترة الكولونيالية (..) مجتمع يبدي مقاومة شديدة للفكر التحليلي والنقدي. كبح، وقمع، وصمت مفروض بقوة(…) توجس كبير إزاء وضع السوسيولوجيا، لا سيما بعد أحداث ماي 1968 بفرنسا. أحدثت الدولة لجنة لتتبع الانعكاسات على الجامعة المغربية. من هنا يأتي إغلاق معهد السوسيولوجيا في 1970 (وليس في 69)، وقتئذ كان المعهد يرتاده طلبة متزنون، أكثر اتزانا، لا يحشرون أنفسهم مع المضربين، ولم تكن رغبتهم سوى الحصول على تكوين، وشهادة جامعية. بجنوح إلى السلم، وسط هذه الحديقة المسيجة للمعهد. كوميديا سياسية، شاهدة على مقاومة الفكر التحليلي، الذي لا تخفى ضرورته لبلد ما دون تحديد. مم كانت تخاف منه الجهات العليا؟ «
– التحقت بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سنة 1967، وهناك درست عند الخطيبي، مدة أربع سنوات، تاريخ السوسيولوجيا (67-68). أما السنوات الجامعية من 68 إلى 70، فكانت عبارة عن ندوات، بالإضافة إلى السوسيولوجيا التربوية عند بورديو والسوسيولوجيا المغربية (70-71). لقد فتح لنا أبوابا فكرية جديدة، أساسها المعرفة، في طور التكون والنشأة، وليس الفكر الجاهز كما هو معهود في التدريس الجامعي. كانت الدروس باللغة الفرنسية طبعا، في هذه المرحلة من التعليم الجامعي المغربي.
وبعد إغلاق معهد السوسيولوجيا سنة 1970 سينتقل المدرسون الذين كانوا يؤطرون فيه إلى شعبة الفلسفة وهكذا استفدنا كثيرا من Gregory Lazaref و P. Pascon بالنسبة السوسيولوجيا القروية المغربية، وتاريخ السوسيولوجيا المغربية مع عبد الكبير الخطيبي وعلم الاجتماع الاغتراب aliénation مع Joseph Gabel الذي كان متأثرا بأستاذه Lukasch. أضف الى هذا دروس أستاذي J. Clement في انثروبولوجيا المجتمع المغربي.

– هل كان الانتماء الجهوي دافعا للقائك بالخطيبي؟
– كنت أعرف عائلته بالجديدة بحكم الجوار. كما أن أخاه سي محمد درسني اللغة العربية. ومن الطبيعي أن ينتابني شعور من الفخر، لما درسني بالجامعة. فأنا لست مشدودا إلى الجديدة مسقط رأسي، رغم ذكرياتي وطفولتي فيها.

– حدثنا عن الخطيبي في درسه الجامعي:
– لم يكتب الخطيبي في البيداغوجيا، كما لم يكتب أحد عن ممارسته البيداغوجية، فهو مظلوم من هذه الناحية، فطريقته في التدريس متقدمة في وقتها مثلما هو متقدم في زمانه. فهو لا يقدم درسا بالطريقة العمودية كما كان يتكلم خافتا على عكس بنسالم حميش مثلا. في أول حصة من مادة تاريخ السوسيولوجيا اقترح علينا، وكان عددنا ثمانية طلبة، للقراءة والمناقشة كتاب ريمون آرون: Les étapes de la pensée sociologique «مراحل السوسيولوجيا». وهذه الطريقة البيداغوجية تكسر الترديد، وتسعى إلى بناء جماعي للدرس، لم يكن أستاذا بل ميسرا، يكتفي بتقديم التلميحات، شخص مورد يصاحب ويرافق…يستدعي المعلومة في وقتها وفي الوضعيات المناسبة لها.

– أما على مستوى التقويم؟
كان يختزل الامتحان في سؤال واحد: ماذا استفدت من السوسيولوجيا؟
– لقد كان معلما كبيرا. وبالمناسبة فنحن احتفلنا قبل يومين اليوم العالمي للمدرس. (5 أكتوبر)
كان يثق في ذكاء طلبته، لا يتخذ مواقف، ولا يصدر أحكام قيمة، مسعاه تملك المعرفة كاستراتيجية. يخترق درسه تعدد الاختصاصات: التحليل النفسي، والأنثروبولوجيا، والرواية… منفتح على الفكر النقدي: فوكو، نيتشه…ولا ننسى انتماءه للحزب الشيوعي في فترة معينة من حياته.
كان يستقبلنا في بيته وسط الرباط: عبد الحي الديوري، وخديجة عكوري، وعبدالصمد السباعي، وأحمد المتمسك، وكنا آنذاك في السنة الرابعة. ولعل اختيار المكان تكسير لمفهوم الفضاء الجامعي الأكاديمي.

– ما هو الأثر الذي تركه الخطيبي فيك؟
– استفدت منه كثيرا في بناء درسي الفلسفي وتقييمه، فأنا مدين له في مساري كله، قدم لي أجوبة عملية عن اهتمامات وأسئلة خاصة. فالأثر الذي يتركه الخطيبي يحصل بالممارسة. لم أهتم قط بالفكر الجاهز بل اهتمامي ينصب دائما على الانتاج المعرفي الناشئ أو المبعد، المهمش لأسباب عدة. هذا المنحى جعلني أنأى عن الترديد، وتضييع الوقت في إعادة ما هو متاح للعموم.

– إذن كل شي في المنهج، المنهج أولا والبقية تأتي من بعد، les découvertes les plus» «précieuses, ce sont les méthodes الاكتشافات الأكثر قيمة هي المناهج. (نيتشه)
– في تلك الفترة، كان اهتمامنا ينصب الى حد الهوس بالمنهج والمنهجية. لم يكن الخطيبي مشدودا الى المنهجية ومرادفاتها. كان يستدعي مقاربة معينة عند الحاجة، ويحثنا على الأخذ بتقاطع المقاربات.

– الخطيبي مفكر أم فيلسوف؟
الخطيبي مفكر وليس فيلسوفا كما أنه لا يريد فكرا posture autoritaire، رصيده صفر سلطة. AUTORITE. المفاهيم يستدعيها، كما أنه ليس مدرسة فكرية، وليس له تلاميذ بل هو ممارسة ACTE. لا يوجد هناك تلميذ يشبه الخطيبي، وينسج على منواله. ليس له نسق، وليس رجل المفاهيم. يتمسك بالمنهجية وطرائق التفكير والبناء، وما عدا ذلك يقدم تلميحات، ولا يستعرض معلومات.

– لا ننسى حضور تيمة الجسد في منتج الخطيبي بدءا من « الذاكرة الموشومة»، وأنت تشتغل على سبينوزا ما الذي يجمع بينه وبين الخطيبي؟
– ينبغي أن أذكر أن سبينوزا لم يلتفت إليه إلا في القرن العشرين ولم يفهم إلا متأخرا. ما يجمع الخطيبي بسبينوزا هو إعادة الاعتبار الى الجسد Réhabiliter le corps او المصالحة مع أجسادنا.

-تكونت على يد الخطيبي أجيال مختلفة في المغرب منها فريد الزاهي وعبد السلام بنعبد العالي وحسن وهبي وعبد الغني فنان ومراد الخطيبي وموليم العروسي.. هل موليم والخطيبي نظيران؟ الخطيبي بين سطور موليم؟
– موليم شيء والخطيبي شيء آخر. صحيح أن موليم يستلهم منه، لكن هناك اختلافات بينهما، على المستوى التعليمي فموليم عصامي التكوين، وهذا أعطاه الحرية، بالإضافة إلى فارق السن بينهما لكن تبقى بين الإثنين تقاطعات وأفق مشترك.

– إذن Il ne s’est pas khatibisé.
– أحمد المتمسك (يبتسم).

– ألا يبدو هيدجر مرجعية فلسفية مشتركة بين موليم والخطيبي؟
– ليس هناك مرجعيات، هناك تقاطعات.

– هل هو تلميذ هيدجر؟
– لا، ليس تلميذا هيدجر، بل هو أكثر قربا من نيتشه زيادة على أن الخطيبي دائما خارج المرجعيات أو المدارس. لننفذ إلى عبقرياته، من الضروري أن نترك جانبا طرق مقولات تفكيرنا الحالية.

– كيف نقرأ الخطيبي؟
– تشترط قراءة الخطيبي، ثقافة القارئ، فهو يحمل معه، أثناء تلك القراءة، هما فكريا وحرقة سؤال. فيكون التعامل معه بوصفه أفقا، وبالتالي يصبح، من الضروري، تغيير الزاوية عند قراءته، والحرص على التفكير معه وبه. فهو رجل السؤال، والأسئلة عنده هي بمثابة استراتيجيات، وأفق بناء فكر المغايرة. فكر قابل للتجاوز ضد النسقية والقطعية. كان سابقا على الفيلسوف والسوسيولوجي الفرنسي «فرنسوا جوليان» . الخطيبي يكتب في كل شيء، والتفكير عنده ليس له تخصص، يستعمل المتاح لبناء بعد آخر للتفكير والإنتاج. أنت – قارئ الخطيبي- يتملكك إحساس بأنه يكلمك. Il te parle
من جهتيّ، كانت لي اهتمامات وأسئلة، وعثرت فيه على أجوبة، كما استفدت منه، كما أسلفت، اهتمامي بالأسئلة والمفاهيم الناشئة les questions et les concepts émergents.

الكاتب : حاوره: محمد معطسيم


بتاريخ : 02/04/2021


أعلى