نزار حسين راشد - حياة موازية

بعد بضعة أيام من العمل،قلت لنفسي لن أصمد في حمّام البخار هذا،وسأغادر بعد أيام،حاولت أن أقلد الإنجليز الذين يخرجون للسباحة في هذا الطقس المثقل بالحرارة والرطوبة،وقلت في نفسي لعلّ السرّ في القبعة،استعرت قبعة من أحدهم،أعارني إياها عن طيب خاطر لمّا شرحت له الظروف،ولكني ما كدت أخطو إلى الخارج حتى شعرت أن السماء سقطت على رأسي،فاستدرت موليّاً على عقبي،وما إن ّتخطّيت العتبة حتى ألقيت نفسي على بلاط الغرفة،وأنا أعُبُّ الهواء المكيف عبّاً،تحت هذا السقف المحفوظ،ولعلها من رحمة الله أن جعل لكل شيء سقفا!
أن تعمل في نفط الكويت،يعني أن تتقاضى راتباً عالياً،مما يثبط بالفعل رغبتك في الهروب،ويغريك بالصبر والإحتمال.
تذكرت حكمة والدي وهي بعض من حكمه التي كان يعظني بها أيام الطفولة،وهي خلاصة عمله مع الإنجليز،نعم الإنجليز مرّة أخرى،ويبدو أنه لا فكاك لنا منهم،قال لي إن الحياة بالنظام تصبح قابلة للاحتمال مهما كانت قسوة الظروف،قال: كنا نعمل مع الإنجليز في المعسكرات في أشد الظروف شظفاً وفي وسط الصحراء،ولكن كان لكل شيء وقته،وأقصد وقته المناسب،العمل ،الطعام،القيلولة،النوم،الخروج ،وحتى النشاطات الترفيهية أيام العطل،فمثلاً لا يمكنك أن تذهب إلى ملعب التنس في أي وقت أو إلى بركة السباحة أو صالة الجمنازيوم..

وهكذا اتّبعت حكمته شبراً بشبر وذراعاً بذراع،وحددت للخروج أوقات المساء فقط،أي بعد الغروب،وبالفعل كان الطقس محتملاً أو مقبولاً على الأقل،حين تكون الشمس قد توارت وراء الأفق،هذا إذا كان هناك أفق ،في هذه الصحراء المفتوحة.
ومن الحِِكَم الأخرى التي كان يتلوها علي والدي وهو يحكي حكايته في معسكرات الإنجليز،قال: لا تترك حجرتك أو بيتك أو مطبخك فراغاً،املأه بالأشياء،الأثاث يؤنس،هذه الأشياء لها روح،وحدهم الأغبياء والبلداء لا يدركون ذلك،وهذه كانت خصيصة من خصائص والدي في تعامله مع الناس،أنهم جميعاً أغبياء وبلداء،ما لم يثبت العكس،أو يثبتوا هم له العكس،ولا مانع لديه أن يضعهم موضع الإختبار،حتى يتيقن من ذلك.
وبالفعل بدَأَت حياتي تتخذ مساراً رتيباً مريحاً،بعد أن أخذتُ بنصائح والدي الثمينة.
كانت متربعة على عرشها كملكة في محل الأثاث الواسع،خلف المكتب الفاره،بسطحه الجلدي الأسود المشعشع وكأنه لُمّع للتو،ظننتها موظفة،مديرة ربما،ولم يخطر لي أنها صاحبة المحل،وحتى حين تكلّمت ظننتها موظفةعراقية،أشارت لي بلطف بالجلوس دون أن تتنازل عيناها عن تلك النظرة المتعالية:
- حسناً! ماذا تريد أن تشتري؟
- والله حسب أسعاركم يعني!
- لا تخف! سنراعيك-
- أنتم أيضا تقولون بنراعيك..تحيا الأخوة العربية.
- على هونك..نحن لا نقول بنراعيك..لكن معظم زبائننا وافدين شوام ونحن نخاطبهم بلهجتهم-
- يا عيني عالشطارة..وهل ينجح التكتيك التسويقي.
- بالطبع! وإلا لكنا أغلقنا المحل من زمان.
- لا سمح الله...الله يديم عليمم الرزق.
- مشكور على الدعوة الحلوة..والآن ندخل في الجد..ماذا تريد أن تشتري؟
كدت ألمح لها أن بودي لو أشتريها هي،ولكن ذلك سيكون عملاً أهوج ..وبدلاً من ذلك قلت:
- تقريباً كل إشي.
- حضرتك متزوج جديد او كدة!
- لا يا ريت، سكن أعازب بعيد عنك..حتى نافيينا بعيد ،حتى لا نشم ريح العوائل!
لم تتمالك نفسها من الضحك،واسترسلت في ضحكة طويلة:
- آه مظاليم الله..بس هيك أحوط الأعازب ما بنفلتلهم الحبل!
- ليش ان شاء الله..من المغضوب عليهم أو من الضالين ؟
وهذه المرة ضحكت حتى الدموع،ولتتدارك ذلك أمسكت ورقة وقلماً وقالت: سم،ماذا تريد أن تشتري.
وقاطعتها: هل لديكم خدمة توصيل؟
- بالطبع نحن شركة محترمة!
- والله باين من العنوان ومن صاحبة الأمر والشان!
علقت ابتسامة على شفتيها،وأخرجْتُ ورقة جاهزة من جيبي وسلمتها إياها،وضعتها أمامها وبدأت تقرأها على مهل وبجدية كاملة!
- كل شيء موجود حسب الطلب ،باستثناء الثلاجة أقل شي عندنا عشرين قدم.
- عشرين..عشرين..بلكي نتخبا فيها إذا تعطل الكوندشن ولا حاجة!
تتسع ابتسامتها كاتمة ضحكة على وشك الإفلات،وتسأل بوقار:
- العنوان من فضلك. والوقت الذي تكون فيه موجوداً في البيت،وعلى أية حال،بنكلمك قبل أن نحرك العمال،من باب الاحتياط!
كل ما دار في ذهني وأنا أغادر أنه ستكون لي حكاية قادمة مع هذه المخلوقة الظريفة.
ولن يتوقف الأمر عند شراء الأثاث.
وكأنّ الغربة خطيئة اقترفتها بيدي وما من شفيع،وحتى لقاءات المجاملة يفترض أن لا تسفر عن شيء، من مثل حكاية حب أو إعجاب،تنتظر استكمال خطوات المباركة والرضا،ولكن يبدو أن المغترب لا يحظى هنا إلا بالتنكر والجحود وحتى الإدانة!
كيف؟ كيف يعني تتزوج واحدة من بنات الديرة،حفلة النقر والنتف هذه التي تطوع للقيام بها الزملاء الموظفون،الغرض منها ثني عزيمتي،وكأني أسرق منهم شيئاً أثيراً، أو أختطف ابنة من بناتهم،رغم أن الفتاة لا تمت لهم بصلة،باستثناء أنها من بنات الديرة،تلك الصلة المقدسّة التي لا يتورعون عن انتهاكها بأنفسهم،حين يديرون ظهورهم بصلف لبنات الديرة ويتزوجون من أجنبيات.
ولكن يبدو أنه تقرر مصير حياتي،لقد كتب القدر العنوان،وما سيتبع مجرد تفاصيل،ارتسمت الحروف ولم يبق إلا التنقيط،المصير دائماً مصير فردي،لا علاقة للآخرين به،سواء المشجعين أوالمعارضين،لم يثن عزمي على التقدم لخطبتها كونها مطلقة،في الحقيقة لم يعنِ لي ذلك شيئاً كثيراً،وقلبت ُ شفتيّ ازدراءٍ على ما يفترض أن يصغّرها في عيني،أو يقلل من قيمتها،كخطوة افتتاحية ذهبت إليها وقلت:
- أعتقد والله أعلم أن اللقاء الأول فعل فعله،حتى وإن تم ذلك في جو رسمي فيه الكثير من التحفظ،استلطاف لا أدري إن كان متبادلاً؟!
- وهل تعرف عن ظروفي شيئاً،حتى تقدم على هذه الخطوة بمثل هذه السرعة؟!
- عملت تحرياتي،أعرف أنك مطلّقة،وفي الحقيقة لا يهمني ذلك في شيء،المهم أني شعرت نحوك بشيء،لم أشعر به منذ زمن طويل،حتى ظننت أنني لن أشعر به مرّةً أخرى؟
- يعني أنك مررت بالتجربة من قبل،هل أفهم من ذلك أنك مطلّق أنت أيضاً؟
- لا! لست مطلقاً،لقد كانت مجرّد قصة حُبّ فاشلة،من قصص أيام زمان،تعرفين العقول الجامدة وتحفظات الأهل،وما إلى ذلك!
- في الحقيقة لا أريد أن أكون ممثلة وأطلب منك مهلة للتفكير،وهذا لا يعني إشارة خضراء،ولكن زرنا في البيت،وقابل والدي،بالمناسبة أنا يتيمة أم،وخروف العائلة الأسود،ولكن والدي هو طراز قديم أيضاً،ويريد لابنته أقصى درجات الأمان،وكونك غربب وليس من أبناء البلد أو هل الديرة كما يقولون عندنا هنا،فربما يكون هناك بعض الصعوبات،ولكنه مثقف ومتفتح على أية حال،وفي كل الأحوال جرّب حظّك معه! شفعت ذلك بابتسامة وضربنا موعداً.
جلسنا في الصالون الوثير،وكان الشايب الأصلع يتأملني بنظرات مليئة بالشك والريبة،وبالرغم من أنه مثقف كما قالت وله باع حتى في كتابة المقالات في بعض الصحف،إلا أنه بدا لي من حرّاس الهيكل،بحّار قديم،أو صيّاد لؤلؤ،عمل على تطوير نفسه،وبذل جهداً في الحصول على شهادة علمية.
كان كرم الضيافة والترحيب المبالغ فيه،مناورة لستر ما يحيك في نفسه من شكوك:
- لماذا لم تتزوج من بلدك مثلاً،ألقى سؤاله مغلفاً بالفكاهة والتبسط،وكأنه يمازحني!
- حكم النصيب!
- وهكذا فأنت من المؤمنين بالنصيب،ولكن لا تؤاخذني يعني،مجتمعنا ينظر لمن يزوج ابنته من أجنبي،ولا تؤاخذني مرّة أخرى،بنوع من الدونية،لا بل أكثر من ذلك يرى فيه نوعاً من العار أو النقيصة!
ورأيت أن أرد عليه بنوع من القُحّة بدوري وأضع الكرة في مرماه:
- ولكن يبدو أن هذا العار مقتصر على الأنثى فقط،فرجالكم يتزوجون من أجنبيات، لا بل لا تؤاخذني يفضلونهن على بنات البلد!
ويبدو أن إجابتي لم تهزه ليردّ علي بهدوء:
: نعم نحن نبالغ في حماية بناتنا،ونحرص على أن يكن براحة وأمان وخاصة في مسألة الزواج هذه.
مرة أخرى رأيت أن أتبع تكتيك الهجوم:
- ولكن يبدو أن ذلك لم ينجح في حالة فوز،لا بل إنها تحملت كثيراً من الألم والمعاناة!
ويرد الرجل دون أن يؤثر كلامي في قناعاته الراسخة:
- مما يدفعني أن أكون أكثر حرصاً هذه المرة!
- على أية حال يا عم،أنا شاري في كل الأحوال،والقرار في النهاية لكم.أنهضُ مصافحاً ويشيعني الرجل إلى الباب بخطى متثاقلة بحكم السن والمفاجأة ربما والتي وضعته أمام الخيار الصعب فيما يخص مستقبل ابنته.
ألقي نحو فوز نظرة الوداع وتلتقي العيون في نظرة تفاهم أو تواطيء، توحي بأن الأمور ستسير على ما يرام،وأن الأمر كله ربما لا يتعدى طقوس إغلاء وإعزاز من رجل عجوز لابنته في عيني رجل .
هنا في هذا البلد النفطي فشلت أو قل لم أمنح الفرصة لإقامة علاقة صداقة واحدة،مع أي من أبناء البلد الذين أقضي ثلثي نهاري وبالتالي ثلثي عمري معهم بين جدران المكاتب.حائط الصد كان عالياً وعصياً على النقب أو التسلق.
وللمفارقة وقعت في الحب،مع مواطنة من خارج الوسط الوظيفي،طاوعها قلبها وتحدت الجميع بما فيهم عائلتهاوأعلنت لهم بالصوت الملآن،إذا لم توافقوا على زواجي به سأهرب معه وأفضحكم،أفلح التهديد،فليس أسوأ من الفضيحة في هذا المجتمع المحافظ الوارث للتقاليد البدوية،والتي يحافظ عليها شكلياً على الأقل بعد أن عصفت بها الفورة النفطية والذهب السائل بين الأصابع المتعطشة أن تشتري به كل شهوات الأرض المتاحة والمخبوءة بحرامها وحلالها،ولذا فهي تكتفي بإلقاء الستر على الفضائح التي تجترح في السر والعلن.
ومهما كان فالزواج لن يصل إلى حدود الفضيحة بل سيكون محلاً ربما للعتاب واللوم أو التوبيخ في أسوأ الحالات.
استقلينا قارب الحب،ولم نترك الدفّة لقبطان الرياح،حرصنا على توجيهها بأنفسنا،حتى لا نقع في المطبات التي ينصبها المجتمع الذي يحرس أعرافه في تجاهل تام للمشاعر والعواطف،حتى عاطفة الحب مستنكرة ومدانة إذا نبتت خارج أصصه،وعلى أية حال فقد كنا غافلين تماماً عما يثار حولنا من شغب،طافين وسط تلك البحيرة الهادئة التي بسطها حولنا الحب،بعيداً عن أصوات الصخب.
كل يوم أوصلها إلى عملها فرحين مبتهجين بكل ما حولنا،الناس المنتظرين وصول الحافلة،الأطفال الهارعين إلى المدارس،الباعة الذين يفتحون أبواب دكاكينهم محوقلين داعين بالرزق،وكأن الأشياء استردت روحها فجأة،حتى الحر لم نعد نشعر به كثيراً،فكل ما حولنا هو نعمة من نعم الله.
أمضينا الحياة على مهل،وعشنا فرحة ولادة الطفل الأول،ثم الثاني ثم الثالث،وكلهم ذكور،كبروا على رسلهم ثم تلقفتهم أحضان الخالات والقرابات،اللواتي كُنّ يُكبرن في فوز ما يبغضه المجتمع حولهن،الإستقلالية والعناد،وكأنها بالنسبة لهُنّ مثال ونموذج يحتذى، تجترح بطولةً عجزن هُنّ عن إحرازها، واخترن مضطرات التقولب بقالب المجتمع ،فهي بالتالي تعويض نفسي عمّا عانينه في حياتهن من إحباط.
ربما كان إحساساً كاذباً،من نوع الشك الذي يثيره انشغال الزوجة بالأولاد،الأمر الذي يثير قلق الزوج،المشفق من أن تكون الزوجة قد فقدت حُبّها له أو على الأقل خفت هذا الحب وخبا أواره ولم يعد يشتعل في صدرها.
ويساهم في تعزيز هذا الشعور،توثق علاقة فوز بأخواتها وقراباتها،وحرصها على تنمية هذه العلاقة،لأجل الأولاد كما قالت،ولكي لا يشعروا بأنهم غرباء عن مجتمعهم وهلهم وديرتهم،كون أبيهم ليس من هل الديرة،قالت ذلك وضحكت باستخفاف على الفكرة،ولكن ذلك لم يخفف من هواجسي شيئاً،لا بل عمّق قناعتي بأن فوز تعود إلى الحظيرة الإجتماعية،وتجدّف بعيداً عني،رغم أنها أعلنت أكثر من مرّة حين صارحتها بهواجسي: أنا أتوقّف عن حبّك يا مجنون؟
كيف يمكن أن يخطر ذلك لك على بال؟ وينتهي المشهد بقرص خدي في دلع،ومع ذلك فالأمور تواصل مسارها،التيار الذي ينسرب مبتعداً عن حياتي واهتماماتي.
وكان الإختبار الأول حين قررت زيارة الأهل في الوطن واصطحابها معي هي والأولاد،حتى يتعرفوا على أجدادهم،ولكنها تهربت بكل لطف ورقة وتحسباً من جرح مشاعري،قالت:
- هذه المرة إذهب لوحدك،لقد سجلت الأولاد في النادي الصيفي،وهم مشغوفون بالبرنامج،ولا أريد أن أفسد عليهم متعتهم،ربما سنرتب لذلك مرّة أخرى.
كان تعليقي مختصراً وموصلاً للرسالة،لم أزد على أن قلت:
- عودة الإبن الضال!
سهمت فوز واستغرقت في صمتها معتصمة بسكوت لا نهائي،ولعلها أدركت أنني كنت على حق على نحو ما،لم تحاول طمأنتي حتى،من طبع فوز،لا بل من فضائلها أنها لا تحب المغالطة،لم تغالط حين وقعت في حبي وقبلت الزواج بي ،والآن لا تغالط وتقرّ ولو بينها وبين نفسها على الأقل، بأن شيئاً ما قد تغير وأن طارئاً ما قد طرأ على حياتنا لا حيلة لنا في مدافعته.
لا جدوى من الإلحاح على زوجتي فوز، بمرافقتي في الرحلة لزيارة والدي،أومحاولة إقناعها حتى ،طالما أن الوشيجة العاطفية مع عائلتي ووالدي مقطوعة،أو لم تنشأ أصلاً،فالشجرة تظل مخلصة للأرض التي نبتت فيها،تتنسم هواءها وترضع من تربتها غذاءها،وهكذا سافرت لوحدي عائداً إلى بلدي في زيارة ربما تطول،الجلوس وحيداً على مقعد الطائرة أتاح لي فرصة للتأمل والتفكير في إلى أين وصلنا في علاقتنا أنا وفوز،و محاولة تقدير في أي إتجاه ستسير الأمور،وإلى أين يمكن أن نصل،وكان واضحاً أنني سأرخي لها العنان،ما دامت الرياح تهب لصالحها،وما دامت لن تتهيّأ لي فرصة ليّ زمام الفرس المنطلقة مع ريحها.
على أرض المطار كان العالم كله محتشداً بأجناسه وألوانه،وها هم مواطنون عائدون بصحبة زوجاتهم الأجنبيات من كافة الجنسيات،مما أشعرني بالإحباط قليلاً،وظننت أن فوز قد قصّرت بحقي قليلاً،أو أنها لم تحسن التقدير،وتركت التيار يسحبها في الاتجاه الخاطيءٌ!
عانقني والدي عناق شوق،وقرأت في عينيه تلك النظرة التي كنت أتوقعها،عتاب ممزوج بالخيبة،يحاكي نظرته للحياة نفسها،ولكنها مركزة نحوي هذه المرة،وانتظرت والدتي حتى يحل ذراعيه من حول عنقي،وعانقتها عناق الإبن لأمه حتى كدت أرفعها عن سطح الأرض،سألت أمي عن حال فوز والأولاد بينما تجنّب والدي السؤال تماماً.
لم يكد يستقر بي المقام حتى دعاني صديقي القديم محمود لحضور ندوة أدبية،استمعت بملل إلى الكلمات،حتى دعينا إلى الإستراحة،وتطوع محمود لتقديمي إلى الناس وكان آخرهم شابة جذّابة،ناورت في أسئلتها للتعرف علي أكثر،وكنت متاكداً أن محمود قد وافاها بالموجز عن أحوالي وربما أكثر من ذلك،ولما صارحتها بذلك،ابتسمت وأفضت بما يعتمل في نفسها:
- وهكذا ركٍبت هي القطار وتركتك على رصيف المحطة..ثم أوفت مازحة: والله بتستاهلوا إنتو الرجال،بتتركوا بنات البلد وبتروحوا للغريبات!
انتهى اللقاء بتبادل أرقام التلفونات،وانهلتُ على محمود لوماً وتقريعاً،فأسكتني بإشارة من يده فيها كل معاني الرجاء والتوسل، لا بل الإشفاق والعطف،قال شارحاً ومفسّراً:
- أبوك ترجاني..لا..لا..عيب أقول ترجاني عن الختيار،هذا لا يليق،الواجب حفظ المقامات،أبوك طلب إلي،وأردف متلطفاً ومستظرفاً:
- أبوك طلب إلي أن أبحث لك عن عروس،ولم أجد أنسب من لمياء..مثقفة..حلوة.. وخفيفة الظل.
- وحكيت لها قصة حياتي؟
- طببعي جداً الصراحة أفضل شيء في هذه الأمور!
أول مكالمة من لمياء،وعرفت أنها ستأخذ زمام المبادرة ولن تترك لي فرصة الهروب:
- شو.. ماحكيت يعني..ما بدك هيك تقعد تفضفض مع فتاة حلوة؟..ضحكة تودد،ثمّ بنتظرك في كافيه" أول همسةّ"!
- أول همسة..وين هذا؟
- معلهش ما انت مغترب...الساعة 10 صباحاً..ركّز..عشرة،شارع المدينة..حي الخالدين...عمارة صلاح الدين..أوع ما تيجي..ما بسامحك بالمرة..بخاصمك للأبد..وأقفلت..
يبدو أن لمياء سبقتني،وما إن دخلت حتى لمحتني وأشارت إلي،جلست، حييتها بابتسامة ومددت ساقي تحت الطاولة محاولاً الإسترخاء فلامست قدمي قدمها،شهقت محتجة في دلال:
- من أولها تحرش!
لم أتمالك من الضحك،ويبدو أن ذلك أسعدها،وأشاع جواً من المرح والألفة:
- قهوة؟أكيد! الصبح ما بيناسبه إلا القهوة؟
نددت موافقاً.
جلسنا نرتشف قهوتنا على مهل،ونتبادل نظرات طويلة صامتة،حتى دندن صوتها أخيراً:
- ماذا سيفعل آدم بعد خروجه من الجنة؟
وأهللت ضاحكاً من قلبي:
- لقد فاتتك حقيقة أن آدم ترك حواءه هناك،ولذا فليس أمامه إلا أن يبحث عن حواء جديدة،في الجنة الجديدة.
استرسلنا معاً ضاحكين،وختمت ضحكتها باسطة راحتيها في دلال ومعلنة:
- إبحث عن حواءك كما تشاء...أنا ما إلي دخل..بس مش رايحة أساعدك..إنت عارف،احنا النسوان غيورات جداً،طبيعتنا كدة!
- أحكيلك بصراحة،لقد وفّرتِ علي عناء البحث،أنت ومحمود ووالدي!
هذه المرة تضرج وجهها وانكشفت أنوثة عذبة حقيقية من تحت قناع الإملاءات الإجتماعية والجرأة المصطنعة، التي تفرض علينا التظاهر والمناورة،وحفظ الكرامة الذاتية!
بدت مستسلمة وسعيدة بعد هذا التصريح من جانبي،فتلقفتُ يديها من فوق الطاولة،وللحظة عبرت في ذهني صورة فوز وقلت في نفسي،لتعش حياتها وتتركني أعيش حياتي،ولننتظر ما تخبؤه لنا الأيام خلف هذا المنعطف.
عقدت قراني على لمياء على عجل،لم يكن في حياتها إلا أمها العجوز وأخوها الوحيد،لم أكن لأقدّر،أن المياه الراكدة في داخلي ستصطخب وتتموج وتستعيد طزاجتها ومرحها،وأن الأرض الموات،ستحيا وتينع،لم أكن لأدرك أصلاً أن حياتي قد تصحرّت لهذه الدرجة،لولا هذا الشعور بالتجدّد الذي استباح بلا إنذار سهوبي الجدباء،لمياء العذراء،فرقعت أصابعها كساحرة،وأعادتني إلى الحياة من جديد،كل التفاصيل تشعرني بالنشوة،من فنجان قهوة الصباح،حتى العشاء الخفيف على الشرفة الصغيرة.
القدر يرسم مسارات حياتنا بإصرارٍ غريب ،فما إن شرعتُ
مع لمياء في وضع اللمسات الأخيرة على خطة ما لترتيب حياتنا بين الكويت والأردن ،وحيث أعلنت بسخاء أنها ستقبل بأي حصة أو مساحة أمنحها إياها،المهم ألا أنساها،وأنها لن تكون أبداً سبباً في معاناة أولادي وزوجتي الأولى،حتى غزا صدّام الكويت واحتلها وتأجلت عودتي للكويت إلى إشعار آخر،وإلى أجلٍ غير مسمى.
كل يوم كنت أطمئن على فوز بالهاتف،فقد دمّر صدام كل شيء باستثناء خطوط الهاتف،لأنه يتواصل مع قواته من خلالها،همجيته وهمجية قواته طالت كل شيء مما أرعبني،ولكن صوت فوز على الجانب الآخر كان واثقاً حتى أنها داعبتني بالقول،أيها الخائنون وقفتم ضدنا مع صدام،لقد أخذتها الحمية الوطنية،وأنا لم أكن معنياً إلا بسلامتها وسلامة الأولاد،بعيداً عن مكائد السياسة ووحشيتها ودمويتها.
من المفارقات أن بشاعة الحرب وحرائقها،قابلتها تلك الفسحة الخضراء المديدة في حياتي مع لمياء،وذلك برغم قلقي الذي لا يخبو ولا يفتر له أوار على فوز والأولاد،وكنت حريصاً على أن لا يتسرّب ذلك القلق إلى حياتي مع لمياء.
بوسع الإنسان أن يفعل ذلك إذا اضطرته الظروف،وأن يتقلّب على الجانبين!
هذه هي غرابة الحياة وعبقريتها،صدّام يقلب حياة الكويتيين الآمنة الرخيّة في رمشة عين،ويلغي عملتهم ويهدم بنيتهم من اساسها،ويصادر وسائل عيشهم حتى الخبز والماء،كان هذا طغياناً حقيقياً،وكان في داخلي صوت احتجاج مكتوم،لا فرصة لي للتعبير عنه،فالكل يهلل ويطبل لصدّام هنا في الأردن،ولم أرد أن أدخل في اشتباك عبثي،وأزعج وتيرة حياتي المستقرة والمنسابة بلا أية عوائق!.
خيّل إلي أن الزمن توقف،واللحظة تأبدت،اللحظة التي وضعت الحاجز بيني وبين زوجتي وأبنائي،وأن ما يفصلني عنهم أشبه بسد ياجوج وما جوج،والذي سيبقى حائلاً حتى يجعله ربي دكا،ولكن متى يتحقق وعد الله،الله وحده أعلم،كنت أسرح كثيراً مع خيالي وأنا اتخيل ملامحهم واستحضر صورهم،وكيف يمضون يومهم وكيف يشعرون؟وكانت لمياء تلاحظ ذلك،ولكنها تتركني لخواطري،ولاتحاول إثارة الموضوع معي حتى ،رغم أني وددتُ لو تسألني حتى أفضفص عما بنفسي،ولكن يبدو أنها كانت متوجسة من ردة فعلي،أو أنها لا تريد أن تكون جزءاً من هذا الجانب من حياتي أو حياتي الاخرى بتعبيرٍ أدق.
عقب انسحاب صدام أو هزيمته على يد الأمريكان،بقيت عالقاً حيثُ أنا،ومنعت الحكومة الكويتية الأردنيين والفلسطينيين من دخول الكويت،وطردت المقيمين منهم ورحّلتهم،وفي حالتي لم يغير من الأمر شيئاً كوني متزوجاً من كويتية أو عاملاً في نفط الكويت.
وخلافاً للإحباط الذي كنت أعيشه،كانت فوز محلّقة على أجنحة الفرح ومنتشية بالتحرير وعودة الوطن لأصحابه كما قالت،وانفتحت شهيتها للكلام عبر الهاتف،وقالت اصبر يا حبيبي،المانع لن يدوم،ستتغير الأمور قريباً،ولكننا مأخوذون بنشوة التحرير وحلاوة النصر.
وحكت لي أنها افتتحت مؤسسة نسائية،وأطلقت شعارها،ارجعي أحسن من أول،أنت الأقوى والأجمل،المؤسسة تمارس نشاطات الموضة والتجميل والرياضة،وقد حصلت على قرض سخي حيث أن الحكومة تشجع كل نشاطات تساهم في إعادة التأهيل،المادي والمعنوي،وأضافت ضاحكة بالمناسبة أصابنا من بركاتك طرطوشة،خرج الأولاد إلى الحارة وعيّرهم الجيران : يا أولاد الأردني، وتطوع آخر لتصحيح المعلومة: ما هو الأردني يا اخوك:الفلسطيني،وتطوع مصري وقح بالتعليق: الفردة اليمين أخت الفردة اليسار،ففزعت كاللبوة التي تحمي أشبالها حين حكى لي الأولاد الحكاية،ومسحت في الكويتيين الأرض: أنا بنت المطير يا الخاسي انت واياه وغاصوا في ثبالهم خجلاً،أما المصري فتوعدته وانهار تماماً واصفرّت سحنته حين عرف أنني كويتية.
والله يا نجس ما تظل على أرض الكويت،واطهرها منك ومن أمثالك!
وبالفعل استعنت بواحدة من زبوناتي زوجها مدير في الداخلية وتم إبعاده الوقح.
في كل مكالمة كانت تطمئنني: اصبر علي حتى يلقط الشغل،ولو ما عطوك تصريح،أبنروح الإمارات!
اقترحت على فوز فكرة خطرت لي،أن تضيف لشعار مؤسستها النسائية: ساعدي زوجك على النهوض،كوني أنت المبادرة،قلوبنا خضراء نحن النساء،لا تذبل ولا تهمل.
فرحت كثيراً بالفكرة وطبقتها بالفعل كما صرّحت لي فيما بعد،عبر مكالمة أخرى!
فكرة أن نتلاقى في الإمارات،أيقظت لدي هواجساً غير مريحة،لماذا الإمارات وما الذي دفع فوز أن تقترحها.
واتضحت الامور فيما بعد حين كلمتني فوز،وقالت أن أعمالها ازدهرت وأنها افتتحت فرعاً في الإمارات،وستنتقل للإقامة هناك مع الأولاد،لتديره وتوقفه على قدميه وتترك إدارة فرع الكويت لأختها جميلة.
لم أرتح كثيراً لفكرة الإمارات،لا للإنتقال للإقامة فيها ولا حتى لقاء فوز هناك بالرغم من اشتياقي الكبير وتلهفي على رؤية الأولاد،وفي المكالمة التالية أوضحت لها ذلك برفق،وقلت لماذا لا نتقابل في العٌمرة خذي الأولاد واذهبي إلى هناك،ولنجعلها سياحة روحية،وشكراً لله على نعمائه بأن خرجتم سالمين، لم ترق الفكرة لفوز المتحمسة لتوسيع نشاطها حتى توفر للأولاد حياة سعيدة ومستقبلاً مضموناً،وتضع خطاهم على أول الطريق في عالم شديد التنافس.
ويبدو أن الجانب الروحي والديني كان غائباً تماماً عن تفكير فوز ومشاريعها ومخططاتها. وقلقت على مستقبل الاولاد من أن ينجرفوا داخل هذا الخضم،ويديروا ظهورهم للدين والمثل والأخلاق،فهذه حياة دبي،لهاث وراء الدنيا،كسب وإنفاق بلا أي هدف أو معنى،فقط متعة اللحظة واصطياد الفرصة،الأمر الذي كان بالنسبة لي سقوطاً في الهاوبة تجُرُّ فوز الأولاد إليه.
وككُل امرأة ناجحة ظنت فوز أنني أغار منها كرجل،لأنها أنثى ناجحة،كانت تلك الفترة فترة رواج مثل هذه الأفكار بتأثير الحركات النسوية والفيمينست والتي تنفخ وسائل الإعلام في نارها وتذكي أوارها بلا هوادة،لتُرسّخ تصوراً للحياة يتبناه المجتمع بأسره أو الجيل الناشيء على الأقل!
وهكذا افترق طريقانا،وكانت اللمسة الاخيرة حين ذهبتُ للقائهم في دبي،كان لقاء فاتراً بارداً ،ويبدو أن الأولاد انساقوا وراء أفكار أمهم وتبنوا رؤيتها للحياة،وكما أوضح لي ابني الاكبر فراس: نحن يا والدي نعيش في عالم الوافع وليس المثاليات،المثاليات لا تطعم خبزاً!
لم أرد أن أمارس معه دور الواعظ هو أو إخوته الأصغر الذين استمعوا للحوار بصمت واكتفيت بالقول:
- أنت تعيش داخل المحارة وحين تخرج إلى البحر الكبير ستغير نظرتك للعالم.النظرة التي ارتسمت في عينيه أحيت في نفسي بعض الأمل وكأنه فهم ما أقول أو ما أرمي إليه.
خرجنا معاً في جولات ،الأولاد فقط،ففوز منشغلة بأعمالها ومؤسستها،وكنا نراها حين نعود للبيت فقط،ولا حديث لها إلا شؤون مؤسياتها،وتقطع حديثها المتفاخر لتجري مكالماتها التي تخص العمل أيضاً.
وهكذا افترقت الدروب ولا ندري متى وأين ستلتقي أو تتقاطع مرّةً أخرى


صرتُ أتردّد على دبي بين الشهور والشهور،وللحقيقة كنت لا أزال آنس بالجلوس لفوز وتبادل الحديث معها،وأستمتع بمداعبة الأولاد ومشاكستهم،وحين نخلوا إلى أنفسنا كنا نتعاشر كأزواج،و يتخلل هذه الخلوات مداعبات كلامية وتوددات،كأن تقول لي:
- يبدو أن رحلاتك إلى الأردن هي للتعبئة والإعادة.
- صححي مصطلحاتك با سيدتي،التعبئة للنسوان..الشحن والإعادة للرجال.
وتضحك طويلاً بجذل،نفس الشخصية البسيطة التي قابلتها وتزوجتها على عجل،لا ضغائن،ما دامت حبال الود موصولة،ولا أعرف متى سيجيء اليوم الذي سأصارحها فيه أنني تزوجت بامرأة أخرى،ولن أحزر مهما حاولت كيف ستكون ردّة فعلها!
وفي مرّة راهنت على ثقتها المطلقة في ومسايرتها لظروفي وتفضيلاتي،واصطحبت لمياء معي،وأقمنا معاً في فندق كزوج وزوجة،وزعمت لفوز أنني قدِمتُ بصحبة وفد وأنني مضطر للمبيت معهم في الفندق بسبب الاستدعاءات الطارئة والاجتماعات الليلية،التي نعقدها في قاعة الفندق،أخَذَت كلامي على محمل التسليم،ولم تسألني عن اسم الفندق حتى،لهذه الدرجة يخلو طبعها من الفضول،وهذا غريب جدّاً أو نادر على جنس الأنثى.
حين كنت أعود إلى الفندق،ونتمدد أنا ولمياء جنباً إلى جنب على السرير لا تفوّت لمياء الفرصة بدورها،وتلمزني بالقول:
حلوة العيشة بين نارين أو ببن جنّتين،يعتمد كيف تراها... آىىىىى؟.مبسوط انت وأنا خلي النار تاكلني،هل أخذت دوش بعد اللل..وللا مش سائل،والله إذا ما حلفت ما أخليك تقربني!
وتدير ظهرها مغاضبة حتى أحلف.
جميلة الحيوات المتوازية هذي،ما دام لا أحد يحاسبك،طرف مغضي الطرف والآخر غائب عنها تماماً.
في مرة ذهبت عند فوز واصطحبتني لمشاهدة مؤسستها،وكانت تلمحني بطرف عينها بين الحين والحين لتقيس مدى الإعجاب والأثر الذي تركته المشاهدة في نفسي وهي تتجول بي بين مرافق المؤسسة منبهة النساء إلى الإحتشام وهي تعلن لهن مازحة قبيل أن نصلهن بخطوات:
- في بيتنا رجل...في ببتنا رجل!
كان ذوقها عالياً يشعرك بالألفة أكثر من الفخامة،وقد اختارت للمدخل جذوع وسعف النخيل وكان هذا اختياراً موفقاُ تماماً وكأنّك دالفٌ إلى حلم وأنت تعبر المدخل ،أما الداخل فكان مريحاً وفسيحاً وتراوحت الألوان ببن الأخضر الفاتح والأزرق البحري والأحمر الناري حيث اقتضى المنظر ،وتوقفت عند صورة بعرض الحائط،ظهر فيها الشيخ زايد على خلفية مدينة صحراوية تتزاحم على صفحتها بيوت واطئة السقوف من اللبن الأبيض تتخللها شوارع وأزقة رملية ضيّقة،والتفتُّ إلى فوز:
- أية مدينة هذي؟
- هذه هي دبي قبل خمسين عاماً.
بقيتُ مُسمّراً أمام الصورة،سابحاً مع أفكاري في الرمزية والتحول التاريخي الذي طرأ على هذه المدينة على يد رجل واحد طارد حلمه،رجل بدوي بأحلام كبيرة،وها نحن هنا محاطون بالأبراج والعمارات الشاهقة والشوارع الواسعة والأضواء الساطعة،وكأننا في عاصمة متروبوليتان!
نبهني صوت فوز:
- مالك يا رجل؟ إنها مجرد صورة بالأبيض والأسود!
وهززت سبابتي أمامها مؤكدا ً: فكرة تحوم في ذهني:
- هذه هي القصة، ألأبيض والأسود،الرمزية الكونية الكبيرة،ويبدو أن هذا الرجل،وخلافاً لما ظننا طوال عمرنا،قد بيّض الأسود ولم يسوّد الأبيض كما كنا نظن،لقد رسم لوحة كبيرة بكل الألوان الزاهية!
- يصدح صوت فوز معبّأً بالسخربة والدهشة:
- وماذا كنتم تظنون سلمكم الله؟
- كنا نظن أنّ هؤلاء القوم باعوا أنفسهم للشيطان،وأنهم أجّروا أوطانهم وفرّطوا في ثروة بلدهم وباعوها للاستعمار مقابل حياة شخصية مترفة وثروات طاىلة لهم ولأبناءهم ولعوائلهم،ولكن يبدو وأنه خلافاً لما كنا نظن ،يبدو أنه كان لديهم رؤيا،هذا الرجل بالذات،فباقي بلدان الخليج جاءتهم الفرصة لعندهم تسعى، وتهيّأت لحكامهم الظروف،أما هذا الرجل فقدعشق حلمه وطارده حتى أمسكه،أحب هذه الفكرة،أحب الرجال الذين يطاردون أحلامهم حتى يدركوها!
أظن أنني سأصنع فلماً حول ذلك.
- لا تتعب نفسك هناك الكثير من الأفلام،سبقك لصنعها كثيرون!
- نعم صحيح ولكن ليس بالتعليق الصحيح الذي يضيء الفكرة، يقول الصحافيون وصُناع الأفلام أن الصورة وحدها تتكلم،وهذا خطأ فادح،الصورة ينطقها التعليق الذي يضيء الفكرة ،ويوصلها وخلاف ذلك تبقى إما صامتة وإما باهتة!
أصمت قليلاً لأتابع من جديد بحماس طاريء:
- فوز لقد أصبح لدي مشروع.
- على بركة الله،حقيقة الفكرة جميلة وسأدعمك بكل ما أستطيع! ولكن علي أن تحذرك لقد سبقك كثيرون على هذا الدرب،وتحتما الفشل قائم،ضع ذلك في حسابك!
- سأدلي بدلوي بطريقتي الخاصة،ولعلي أقدم شيئاً جديداً.
عدت للفندق متأخراً،قابلتني لمياء مغاضبة ومعرضة بجانبها،كأنثى طائر منفوشة الريش!
هدّأتُ من روعها ،وحكيت لها الحكاية بكل حذافيرها،وما لم أبح به لفوز بحت به للمياء:
- كنا نحن اليساريين نخرج في مظاهرات نشتم هؤلاء الرجال،ونخوّنهم وأذكر من بين الهتافات التي كنا نرددها:
- أخونا في الكويت امم آبار الزيت،اخونا في الرياضِ أمّم آبار الكازِ.
- وهكذا حصل لك غسيل دماغ بمجرد نظرك إلى صورة بالابيص والأسود،أنت شخص غريب الأطوار يا حبيبي،وربما هذا أحد أسباب عشقي لك.
تطوقني بذراعيها بحنان لا حدود له،وقد تبخّر من صدرها كل أثرٍ لضغية سابقة، كانت تنفث في صدرها منذ هنيهة،هكذا هن النساء وهذا أجمل ما فيهن،سريعات الغضب،سريعات الإسترضاء.
وأخيراً حصلت على عمل في سلطة المصادر الطبيعية،كانت فورة تشجيع الإستثمار،وقدّروا خبرتي في نفط الكويت تقديراً عالياً،كنا نعمل كخبراء لتقييم أعمال الشركات الأجنبية التي تتولى أعمال التنقيب عن المعادن بموجب عقود مع حكومة المملكة،قبل ذلك كنت أنفق من مدخراتي التي جمعتها إبان عملي بنفط الكويت،مطبقاً نصيحة والدي" خبيء قرشك الأبيض ليومك الأسود،ولكن بالمقلوب هذه المرّة،حيث خبّأت قرش النفط الأسود لأيامي البيض التي أعيشها يوماً بيوم مع لمياء،التي أنجبت لي حوريتين صغيرتين سناء وإيمان،أو زهرتين جميلتين تملآن أصص حياتي بالبهجة والسرور،وكأن القدر يكمل صورة حياتي أو يوازنها على هذا الجانب الآخر،ثلاثة ذكور عند فوز وأنثيان عند لمياء،وهكذا يستكمل النقص.وتتكامل الصورة مستوفية جمالها ورونقها.
رغم تسارع وتيرة الأحداث حولنا وكأنها تهرول نحو المجهول أو نحو الهاوية،كنا نجلس أمام التلفزيون أنا ولمياء ونتابع ما يجري ونعلق بما يحلو لنا:
- معقول الذي يعمله عرفات،يوقع مع اليهود على هذه الاتفاقية المخزية؟
- ماذا تريده أن يفغل؟ طرده الأعراب من كُل مضاربهم،لا بل طاردوه في أرجاء الدنيا مكراً وتآمراً،على الأقل وطنه سيتسع له ولجماعته مهما ضاق،تريد وجهة نظري،إسرائيل هي الخاسرة في كل الأحوال مهما وضعت من شروط،وجود الشعب على أرضه يكفي ليهدّد مستقبلها وستندم على ذلك!
صدّقت الأيام حدس لمياء،واغتال الإسرائيليون كبيرهم وسيدهم،حبرهم الأكبر إسحق راببن،واتهموه بالخيانة.
أحيانا يكون الحدس الأنثوي أكثر استبصاراً من العقل الرجّالي! هل كان عرفات يفكر بغريزة الأنثى؟ضحكت للفكرة!
سيل الأحداث الجارف،ينهال تحت أعيننا،ونحن على مقاعد المتفرجين ننفس عما يختلج في نفوسنا بالنقاشات والجدل،يكبر الأولاد على الضفة الأخرى وتكبر البنات هنا،وعما قريب سيخوضون غمار الحياة،ولكن بعقليتين مختلفتين،الأولاد هناك معنيون بتأمين مستقبلهم أكثر من اي شيء آخر،البنات هنا أكثر وعياً والتصاقاً بالقضايا الوطنية بحكم جوّنا الأسري وحتى الجو العام في الأردن،الذي يتفاعل بحماس وحرارة مع ما يجري في فلسطين ويعتبرها قضيته الخاصة وبالذات التيار الإسلامي.
ولكن يبدو أن حكمي على الأمور لم يكن صائبا ً تماماً،أو أن شيئاً ما فاتني،ربما بحكم زياراتي المتباعدة لعائلتي في الإمارات،والتي كنا معنيبن فيها بإطفاء نار الشوق وتبادل العواطف والحميمية،أكثر من عنايتنا بالخوض في الشؤون العامة وبحكم ضيق الفسحة وااوقت المتاح،وخاصة حين تتابع الايام مقربة يوم مغادرتي عائداً.
كنت مُسلّماً بجريان الأمور على هذا النحو،لأفاجأ بمقال لابني الأكبر فراس على صفحات جريدة إماراتية،يندد فيه بألم وغضب بمقتل الطفل محمد الدرة في غزة على يد الجيش الإسرائيلي،سطوره تقطر ألماً وانفعالاً،وكلماته مشبعة بالاستنكار والتحقير لهذا السلوك المشين،كلّمته تلفونياً لأهنئه،وأسعَدَته مكالمتي كثيراً وتبادلنا بعض الكلام:
- كيف حال أمك واخوانك؟
- بخير! متى ستحضر لزبارتنا،كلنا مشتاقين لك يا بابا.
- قريب قربب ان شاء الله.
كانت الانتفاضة في فلسطين قد اندلعت واتقد أوارها،حرب بكل ما في الكلمة من معنى،لمياء النابلسية الأصل كانت مغتبطة بوقوف الشرطة الفلسطينية إلى جانب الثوار،وفخورة بمشاركة حي قصبة نابلس في الانتفاضة:
- شفت جبل النار شو بعملوا!
- كل فلسطين جبل نار!
أعلق مستدركاً ومعقباً على كلامها،وتؤمّن على تعليقي:
- صدقت كلها جبل نار،والله لنحرق الارض من تحتهم.
لا توفر لمياء دموعها حزناً على الشهداء ولكن مستمسكة بيقينها أنهم شهداء عند الله في الجنة يقيناً لا يتطرق إليه الشك،هذا اليقين الذي يمسح على الألم ويعيد للنفوس الإيمان والسكينة،،وأكثر ما أثار انفعالها هو منظر الطفل الذي قذف دبابة بحجر وقتله اليهود وانتشرت صورته في كل صحف العالم،لم تستطع مغالبة عواطفها وبكت بشدة مازجة الحزن بالكبرياء:
- إنه طفل ..مجرد طفل يا سامي ..لماذا يقتلونه؟
وأجيبها بقناعة راسخة لم يتطرق اليها الشك يوماً:
هؤلاء هم اليهود يا عزبزتي..لم يتغيروا على مدى التاريخ
تهز رأسها مؤمنة ،وتعود للانشغال بشؤون الصغار،وكأنها تصنع جيلاً للمستقبل،ربما يحول مجرى التاريخ.

وأخيراً حصلتُ على عمل في سلطة المصادر الطبيعية،كانت فورة تشجيع الإستثمار،وقدّروا خبرتي في نفط الكويت تقديراً عالياً،كنا نعمل كخبراء لتقييم أعمال الشركات الأجنبية التي تتولى أعمال التنقيب عن المعادن بموجب عقود مع حكومة المملكة،قبل ذلك كنت أنفق من مدخراتي التي جمعتها إبان عملي بنفط الكويت،مطبقاً نصيحة والدي" خبيء قرشك الأبيض ليومك الأسودّ"،ولكن بالمقلوب هذه المرّة،حيث خبّأت قرش النفط الأسود لأيامي البيض التي أعيشها يوماً بيوم مع لمياء،التي أنجبت لي حوريتين صغيرتين سناء وإيمان،أو زهرتين جميلتين تملآن أصص حياتي بالبهجة والسرور،وكأن القدر يكمل صورة حياتي أو يوازنها على هذا الجانب الآخر،ثلاثة ذكور عند فوز وأنثيان عند لمياء،وهكذا يستكمل النقص.وتتكامل الصورة مستوفية جمالها ورونقها.
رغم تسارع وتيرة الأحداث حولنا وكأنها تهرول نحو المجهول أو نحو الهاوية،كنا نجلس أمام التلفزيون أنا ولمياء ونتابع ما يجري ونعلّق بما يحلو لنا:
- معقول الذي يعمله عرفات،يوقع مع اليهود على هذه الاتفاقية المخزية؟
- ماذا تريده أن يفغل؟ طرده الأعراب من كُل مضاربهم،لا بل طاردوه في أرجاء الدنيا مكراً وتآمراً،على الأقل وطنه سيتسع له ولجماعته مهما ضاق،تريد وجهة نظري،إسرائيل هي الخاسرة في كل الأحوال مهما وضعت من شروط،وجود الشعب على أرضه يكفي ليهدّد مستقبلها وستندم على ذلك!
صدّقت الأيام حدس لمياء،واغتال الإسرائيليون كبيرهم وسيدهم،حبرهم الأعظم إسحق راببن،واتهموه بالخيانة.
أحيانا يكون الحدس الأنثوي أكثر استبصاراً من العقل الرجّالي! هل كان عرفات يفكر بغريزة الأنثى؟ضحكت للفكرة!
سيل الأحداث الجارف،ينهال تحت أعيننا،ونحن على مقاعد المتفرجين ننفّس عما يختلج في نفوسنا بالنقاشات والجدل،يكبر الأولاد على الضفة الأخرى وتكبر البنات هنا،وعما قريب سيخوضون غمار الحياة،ولكن بعقليتين مختلفتين،الأولاد هناك معنيون بتأمين مستقبلهم أكثر من أي شيء آخر،البنات هنا أكثر وعياً والتصاقاً بالقضايا الوطنية بحكم جوّنا الأسري وحتى الجو العام في الأردن،الذي يتفاعل بحماس وحرارة مع ما يجري في فلسطين ويعتبرها قضيته الخاصة وبالذات التيار الإسلامي.
ولكن يبدو أن حكمي على الأمور لم يكن صائبا ً تماماً،أو أن شيئاً ما فاتني،ربما بحكم زياراتي المتباعدة لعائلتي في الإمارات،والتي كنا معنيبن فيها بإطفاء نار الشوق وتبادل العواطف والحميمية،أكثر من عنايتنا بالخوض في الشؤون العامة وبحكم ضيق الفسحة والوقت المتاح،وخاصة حين تتابع الايام مقربة يوم مغادرتي عائداً للأردن.
كنت مُسلّماً بجريان الأمور على هذا النحو،لأفاجأ بمقال لابني الأكبر فراس على صفحات جريدة إماراتية،يندد فيه بألم وغضب بمقتل الطفل محمد الدرة في غزة على يد الجيش الإسرائيلي،سطوره تقطر ألماً وانفعالاً،وكلماته مشبعة بالاستنكار والتحقير لهذا السلوك المشين،كلّمته تلفونياً لأهنئه،وأسعَدَته مكالمتي كثيراً وتبادلنا بعض الكلام:
- كيف حال أمك واخوانك؟
- بخير! متى ستحضر لزيارتنا،كلنا مشتاقين لك يا بابا.
- قريب قربب ان شاء الله.
كانت الانتفاضة في فلسطين قد اندلعت واتقد أوارها،حرب بكل ما في الكلمة من معنى،لمياء النابلسية الأصل كانت مغتبطة بوقوف الشرطة الفلسطينية إلى جانب الثوار،وفخورة بمشاركة حي قصبة نابلس في الانتفاضة:
- شفت جبل النار شو بعملوا!
- كل فلسطين جبل نار!
أعلق مستدركاً ومعقباً على كلامها،وتؤمّن على تعليقي:
- صدقت كلها جبل نار،والله لنحرق الارض من تحتهم.
لا توفر لمياء دموعها حزناً على الشهداء ولكن مستمسكة بيقينها أنهم شهداء عند الله في الجنة يقيناً لا يتطرق إليه الشك،هذا اليقين الذي يمسح على الألم ويعيد للنفوس الإيمان والسكينة،،وأكثر ما أثار انفعالها هو منظر الطفل الذي قذف دبابة بحجر وقتله اليهود وانتشرت صورته في كل صحف العالم،لم تستطع مغالبة عواطفها وبكت بشدة مازجة الحزن بالكبرياء:
- إنه طفل ..مجرد طفل يا سامي ..لماذا يقتلونه؟
وأجيبها بقناعة راسخة لم بتطرق اليها الشك يوماً:
هؤلاء هم اليهود يا عزبزتي..لم يتغيروا على مدى التاريخ
تهز رأسها مؤمنة ،وتعود للانشغال بشؤون الصغار،وكأنها تصنع جيلاً للمستقبل،ربما يحول مجرى التاريخ.
كمساء كل يوم كنا مشدودين لشاشة التلفزيون نتابع أخبار الانتفاضة في فلسطين،حين سمعنا خبر انتقال الشيخ زايد إلى رحمة الله،غمرني شعور غريب،وصارحت لمياء بأفكاري،قلت لها التاريخ يقلب صفحاته من الأبيض إلى الأسود،الآن سيطغى جانب الصورة الأسود على الأبيض،لم تعلق بالشيء الكثير واكتفت بالقول: إن شا الله خير،!
ساورني شعور غربب بأن القادم لن يكون على غرار ما مضى أبداً،وأن الأحداث يتبدّل مسارها و تتخذ مساراً جديداً،أخيراً قالت بتقطيبة بادية على جببيها: لم هذا التشاؤم؟
- إنها الحكاية المكررة حين ينتفل إرث الآباء إلى الأبناء،يفرغون الخزائن القدي١مة من ثياب الراحل،ويظنون أنهم يسايرون روح العصر،ويذرّون قشهم باتجاه هبوب الريح،يعشي عيونهم بريق التجديد الخادع،وهناك من أصحاب المصالح الكبرى من يزين لهم"يسول لهم ويملي لهم!
تلتقط لمياء بذكائها مضمون الرسالة:
- تقصد الشيطان!
- ليس شيطاناً واحداً بل شياطين الأرض،انظري لما فعلوه بالعراق،فجور سافر،تقف وراءه إسرائيل وأذرعها وأشياعها،ما سيحدث من فظاعات سيكون بالتوازي مع ترتكبه من فظاعات،على أرض فلسطين!
لم يمهلنا القدر كثيراً،وتلقينا نبأ وفاة ياسر عرفات،عبر الشاشات ذاتها،ويبدو أن حياتنا تحولت إلى استراحات بين الحروب الدائرة الرحى حولنا،والتي تهب رياحها الحامية من كل الجهات،وكأننا نشق طريقنا بين الحرائق.
يوم سقوط بغداد،قلت في نفسي،هذه أول الضحايا الكبار،كانت الأمور مضطربة،ولم يكن سفري إلى الإمارات متاحاً،وتحدثت إلى فوز عبر الهاتف،لم يكن في صوتها شماتة،ولكن كأن نبرتها تقول لقد نال ما يستحق،أحياناً تعمينا الحقائق الصغيرة عن الحقائق الكبيرة وتحجب الشجرة الصغيرة عن أعيننا الغابة الكببرة،وككويتية كان ذلك طبيعباً في حالة فوز،وبعد ذلك عتّمتُ على الحدث في الذاكرة وأطفأت الأنوار فقد كان سقوط بغداد أكبر مما أحتمل وظننت أن تتار العصر قد اجتاحوا بغداد مرة أخرى،وكأن التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة لا مهزلة كما زعم ماركس.
ولم يلبث شارون أن انسحب من غزة بقرار مفاجيء وسحب أصابعه من عش الدبابير،ثم وقّع اتفاقية هدنة مع الخليفة الجديد،وهدأت العاصفة في فلسطين إلى إشعار آخر،وغيض الماء،واستوت سفينة فلسطين على جبل قلق،بخبيء في بطنه ألف زلزال قادم!
أحسست بالتغيير يدب في دبي،روائح غريبة تمخر صفاء الجو المعهود،العاهرات القادمات من روسيا وأوكرانيا يساومن المارّة على الأرصفة وفي ردهات المولات،يبدو أن أسوأ توقعاتي تتحقق،وبلا أي تحفظ أوتلطف أعلنت لفوز:
- لن تمكثي في هذا الجو ولا يوم واحد،فإما أن تصفي أعمالك وتعودي إلى الكويت أو تأتي معي إلى الأردن،بكل ما أمكنها من ترقق وتحبب تجيب:
- الأخبار تنتقل يا ابو فراس،الفضاء المفتوح لا يخبيء شيئاً،أنا أعرف أنك متزوج في الأردن،ومع ذلك تغافلتُ وتسامحت.
تفاجأت قليلاً إذ أخذتني على حين غرّة، ولكن الموقف لم يهُزّني ،غَلَبت علي غيرة الرجل على زوجته وحميّته وحمائيته،ولكن ذلك لم يخفف من حدّة لهجتي:
- الظروف حكمتنا يا أم فراس،وأنت لم تتخذي أي خطوة لتحولي بيني وبين ذلك،على العكس سهّلتِ الأمور،رفضتٍ مرافقتي لبلدي والتعرف إلى والدي،وأنت تعرفين عاطفة الأجداد ولهفتهم على رؤية أحفادهم واحتضانهم،تلك العاطفة المقدسة،التي ضربتِ بها عرض الحائط، ولم تقدري قيمتها ابداً،الامر الذي اثار حفيظة والدي وشجعهم على ألبحث عن بديل لك، بينما انشغلتِ بأعمالكِ وأشغالكِ بدلاً من ذلك.
وتجيب بكياسة وبكثير من التماسك:
- كبرنا على الهوشات يا ابو فراس ،خلي كل شي محله،وما يزعل حدا ولا يعتب حدا!مقلدة فيرروز على سبيل التحبب،وعقّبت بدلال: أنا لحبيبي وحبيبي إلي!
- كبرنا نعم ولكن ليس على المباديء والأخلاق والدين،هذه البلد تسير نحو الانحلال،وعما قريب ستصبح وكراً خالصاً للشيطان!
- ربما فات الوقت قليلاً على المراجعة.تقول برصانة وتستأنف:
- لقد تشاركت مع رجل من هل الديرة،واستثمرت نصف رأس مالي في مشروع جديد وحتى لا يوسوس لك الشيطان الساكن عندنا،المشروع نادي لياقة للسيدات فقط.
وبحدة لم تخفت أجيب:
- لعلمكِ أنا لست قلقاً عليك،ليس فقط لثقتي المطلقة فيكِ فقط،وهذا شي تعرفينه" تبتسم وأنا أقلد لهجتهم" ولكن لأنكِ قادرة على حساب خطواتك،ولكن ماذا عن الأولاد؟ سيسحبهم التيار،وسيسقطون في دوامة الغواية هذه،وتجرفهم الموجة الإستهلاكية المدمرة ،التي لن تبقي ولن تذر،لا أخلاق ولا أعراف ولا دين...الله يرحم الشيخ زايد! !
- دعنا نجرب على الأقل،حتى في أسوأ المجتمعات يستطيع الإنسان أن يُحدّد مساحته الخاصة ويحصّنها،وأعدك يا ابو عيالي اذا حدث ما تخشاه سنغادر على الفور ولن ننتظر ولا ليوم آخر!
- على أية حال،ضعي في حسابك أن" هل الديرة" هذا قد يتكشف عن نصّاب وقد تخسرين كل ما استثمرتيه،هذه الفورات خطرة وتخبيء الكثير من الحفر والمزالق!
- بس أنا ما انا صغيرة يا ابو فراس،وهذه بَعَد لعبتي،البزنس!
- هذا ما أحاول أن افهمك إياه،قواعد اللعبة تغيرت،هنا اللعب بلا قواعد ولا تحكيم ولاصفّارة ولا شي،إنهب واهرب،وهذا ما ستثبته لك الأيام! على أية حال أنا مسافر،نادي الاولاد اودعهم!
وفي محاولة أخيرة لاستمالتي،لا اعرف إن كانت الاستمالة الإقناعية او العاطفية التي التي يمارسها رجال الاعمال،أم أنها هبّة حنان بحكم العشرة والمودة الزوجية،فقد أصبح مخي غائماً بالشكوك والريبة تجاه ما يستجد في هذا البلد،تقول:
- بهالسرعة،خلنا نشبع من شوفتك،قيّل عنا يوم ولا يومين نستانس ونروق وتاخذ راحتك!
لم أرد أن أضعف أمام هذه الرقّة وأرخي لعواطفي الزمام،كنت عازماً على إيصال رسالتي بقوة وبدون أدنى تنازل حتى تظل الفكرة تلح عليها ،فأنا فعلاً كاره لهذه البيئة،ومُتعجّل على إخراجهم منها.
وهكذا حزمت حقائبي عائداً إلى عشي الصغير وعصفورتي الأليفة،لمياء!
بعد آخر زيارة للإمارات،وما دار بيني وبين فوز،أصبح من المستحيل أن أواصل حياتي بالرتابة والاطمئنان المعتادين ،والركون إلى تيار الحياة،ليجري بي حيث يشاء،استحوذ علي القلق،وبدأت تؤرقني الأفكار،فالمساحة البيضاء بدأت تتراجع على خارطة حياتي وتنحسر شيئاً فشيئاً،وتحتل مكانها المساحة السوداء ،وكأننا بانتظار كسوف كلي يخفي وجه الشمس تماماً تحت ظله القاتم،وكأن كارثة على وشك الوقوع،في الحقيقة لم يطل انتظاري كثيراً،وفي كل مرة أكلم فيها فوز.،وبالرغم من ترددها ومحاولتها الظهور بمظهر الثقة،إلا أن حديثها عن تراجع الأعمال بدا منذراً بشيء سيء،حتى اتصلت بي هي مرّة آخذة زمام المبادرة على غير العادة،وأبلغتني أنها ستصفي أعمالها في دبي وتعود إلى الكويت في أقرب وقت،ولما سألتها عن السبب قالت أن المنافسة كبيرة،وأن رؤوس الأموال الكبيرة دخلت إلى السوق،وأن الكبير هنا يأكل الصغير،لم أعلق بكلام كثير واكتفيت بالقول:
- على بركة الله،سأراكم هناك إذن ،إذا تمكنت من تحصيل كرت زيارة لي،إكراماً لرباط الزوجية ،أو على على الأقل الاعتراف به كزواج شرعي من قبل السلطات الرسمية،لم تستطع أن تكتم ضحكتها على الجانب الآخر،وأنهينا المكالمة بالتمنيات الطيبة.
وأخيرا جاءت المكالمة التي أثلجت صدري وأفرحتني كثيراً،ابني فراس قال أنه سيجيء إلى عمّان،بعد أن يرتبوا أو يعيدوا ترتيب أمورهم في الكويت!
فراس ابني الحبيب الذي ربّيته بالتقسيط وعلى دفعات،وفي كل مرّة كنت أزورهم فيها،تكون قامته قد علت أكثر من آخر زيارة،وانفردت ملامحه واتسعت صفحة وجهه،واتضح شبهه بي أكثر فأكثر.
حرصتُ على أن نذهب كلنا لاستقباله في المطار،كان استقبالاً حافلاً وعلت صرخات الفرحة والترحيب والاحتضان والقبلات،كان مشهداً احتفالياً بامتياز.
فراس الشخصية الودودة الذي يألف ويؤلف،أرخى لعواطفه العنان،كان يحتضن أخواته بشغف وحنان،الصغيرتان اللتان شبّتا عن الطوق، ونما وعيهما،تقبلتا هذه العلاقة بلا أية ممانعة وأسقطتا الحواجز بتلقائية وسرعة عجيبتين،كان لديهما فضول كبير تجاه أخيهما الوافد الجديد،الضيف الذي دخل العائلة بصفة أخ لم نعرفه من قبل،وسرعان ما شرعتا تمطرانه بالأسئلة:
- هل تعرف فلسطين؟
- ومن لا يعرف فلسطين يا إيمان!
وتدخل سناء على الخط:
- هل تعرف القدس؟
- بالطبع! من لا يعرف القدس؟
- هل تعرف أنها بلد أبي؟
- ليست بلد أبينا وحده،إنها بلدنا كلنا،بلدك.. بلدي ..بلد إيمان.
- بس أمي مش من القدس،من نابلس! هل تعرف نابلس؟
يضحك فراس:
- أعرف كل فلسطين،ارتحتِ!
يجذبها إليه ويقبلها،ونظرة في عيني إيمان تقول أنها تنتظر دورها هي الأخرى..



انشرح صدري لمواظبة فراس على الصلاة،يقضي معظم وقته مع أختيه،نبّه امرأة أبيه أنه لاداعي لكل هذه المبالغة في التكريم الرسمي،فهو ليس ضيفاً بل من أهل الدار!
بعد انقضاء سورة الشوق جلسنا في استرخاء بعد ظهيرة يوم قائظ،سألته عن أحوال أمه،هز راسه علامة عدم الرضا وقال:
- تعرف يا والدي،أحوال الأخوات والإخوة،ما وكلناهم به في الكويت اعتبروه" كومون ويلث": تقريباً أكلوا الأخضر وأبقوا اليابس،ولكن بحسن نية طبعاً،أمي الآن تلملم نفسها،وأجبته بشيء من السخرية: بين الإخوة ما فيه حساب،إن كنتم إخوة فتقاسموا.
ذكر لي أنهم حصلوا على الجنسية الكويتية ،بعد التحرير مباشرة،ذهبت فوز وأقامت القيامة في الداخلية،اللي فيه دم كويتي هو كويتي،واللي جده المطيري هو كويتي،وفي سكرة النصر وبفضل علاقاتها استجابوا له،جاءت الفكرة بعد السكرة واعترض بعض المسؤولين على القرار،ولكن التاريخ حفر مجراه،قرارات ذكرى الانتصار والتحرير،ما يقبل أحد يمحاها!
قطع حديثه رفع بصره إلي وأكمل حديثه:
- للأمانة يا والدي العبارة التي قطعت قول كل خطيب،كانت:
- هذولة اللي باقونا ما نبي جنسيتهم،نقطها في وجوههم،تعرف يا والدي مجرد ابتزاز للمشاعر تكتيك تتقنه أمي،تعرف أنها تحبك،ولكن مصلحة اللبوة في حياة أشبالها.
ابتسم كلانا في وجه الآخر:
- والله أمك ما هي قليلة!ولهذا تجنبت ذكر الموضوع للآن،تصور كهن النساء!
وأخيرا و
وجّهنا دفة الحديث لوجهة أخرى:
:اسمعني زين يا فراس،أنا كان في بالي مشروع أن أكتب عن الشيخ زايد أو أجمع شريطا سينمائيا عنه،وقد استلهمت الفكرة من صورة معلقة في نادي والدتك،بالأبيض والأسود،ترتفع فيها قامته على خلفية دبي القديمة وبيوت اللبن والطوب الواطئة،ولكني بدلاً من ذلك كتبت مقالاً،أريدك أن تعدل عليه وتنشره باسمك فقد قرأت مقالك الذي نشرته وأعجبني كثيراً،تناولت ورقة من بين دفتي كتاب وناولتها لفراس: تعلو قامته في فضاء دبي،مشعة بالبساطة والأصالة،في عهده تغيرت وسائل الحياة،وسمقت الأبنية ولكن لم تتغير القلوب،وكأن ريح الصحراء النقية تهب من من بين دفتي عباءته،الآن ننظر من فوق أكتافنا محاولبن تنسم هواء ذلك العهد،ولكن النسمات همدت وتشبّع الهواء بأنفاس غريبة. حتى تلك الألفة تبددت وأصبحنا غرباء بعضنا عن بعضن،وحين يشدنا الحنين نطفؤه بتأمل صورته تلك بالأبيض والأسود مستشرفاً ذلك الزمان وذلك المكان الذي بدأت معالمه بالتلاشي.
مقالة طويلة بنفس النبرة والإيقاع،وعد فراس بنقلها إلى جواله ونشرها.
مقالة طويلة على هذا المنوال.
ودعناه بالدموع وبعاطفة جياشة،وكأننا لا نود فراقه،وانحدرت دموعنا وهو يلوح لنا تلويحته الأخيرة دالفاً إلى قاعة الترانزيت.
جاءني صوت فوز عبر الموبايل متهدّجاً يشي بالهلع قالت متلجلجة والكلمات تتدافع من فيها:
- فراس أوقفوه في دبي،أرسلته ليستكمل لي بعض المعاملات واعتقلوه،والسبب مقال سخيف نشره في صحيفة والغريب أنه يمتدح الشيخ زايد،هل بإمكانك ان تلاقيني هناك؟
- لا تقلقي سأوافيك بأسرع ما يمكن الفيز السياحية متوفرة!
- الحقه قبل أن يحولوه للمحكمة،عند المدعي العام يمكن تتدبر،الله يجيب العواقب سليمة
بالفعل حصلت على فيزا سياحية وطرت إلى الإمارات على عجل،استعلمت من شرطة دبي عن مكان توقيفه،وهرعت إلى مكتب المدعي العام،فوجئت وفرحت كان المدعي العام هندياً،وانفرجت أساريري،حادثته بالهندية قليلاً،ثم استحضرت أقذع شتيمة سمعتها في الهند ابان دراستي هناك، قلت له:
- "كُطة تشود" لن اغادر مكتبك إلا" ميرا بتشا يده في يدي في يدي،ومعناها يا طيز الكلبة لن أغادر إلا ويدي في يد ولدي،انفجر ضاحكاً وظل يترجرج غير قادر على التماسك،حتى سألني أخيراً:
- أين تعلمت كل هذه السفالة؟
- في شوارع الهند طبعاً،ماجستير سفالة وسباب وشتائم.
طلب الملف،نظر متعجباً، قلب شفتيه ليقول متعجباً:
- الولد يمدح الشيخ زايد رحمه الله،لا بد أن خطأ ما قد حدث،تناول قلمه وانحنى ليكتب شيئاً،استدعى حاجب الباب،وقال آمراً :
- سلم هذه للملازم زعل،ودعه يفرج عنه فوراً.
نهض وصافحني بحرارة وابتسامة واسعة وقال ضاحكاًُ:
- هل تعرف شتيمة أخرى؟
- بالطبع ولكنها مخجلة ولذلك لن أقولها في مكان "ساركاري".
شكرته ونزلت لأستلم فراس،وأنا أتنفس الصعداء،استغرق إتمام الإجراءات دهراً كما خيل إلي،وأخيراً أحضروا فراس الذي ما إن رآني حتى حشرج صوته هاتفاً؟:
- بابا!
لم تكن فوز قد حضرت بعد،وزفّ إليها فراس البشارة،أذهلتها المفاجأة:
- أبوك خرّجك؟ الحمد لله! والله ما يهونله فيكم،سبقني حتى! ترى أنا اللي دزيته! ورنّت ضحكتها عبر الهاتف،كانت سعيدة بفرج الله القريب،واطمأنت نفسها.
البيروقراطية في البلدان المتخلفة قاتلة،فما بالك إذا بدأت تستقي من ماء الكراهية غير المعقولة،عندئذ تتحول إلى سلاح أعمى،منعي من دخول الكويت للالتحاق بأولادي وزوجتي الكويتية،والذي استمر طيلة هذه السنوات،صار نوعاً من العبث والتشفي الكريه الذي لا يبرره أي شيء!
أخيراً قلت لفوز أن تذهب إلى صديقي الإنجليزي السابق في نفط الكويت روجر هيوم وتشرح له القضية،ولن يقولوا لإنجليزي لا،لأنه طرف في التحالف ومن أبطال التحرير، أو هكذا يبدو الخواجة الآن في نظر الكويتيين،وخاصة أن كل التماساتها وتظلماتها هي شخصياً ذهبت أدراج الرياح.
وهكذا كان،سرعان ما رفعوا الحظر وأصدروا لي كرت الزيارة،بلا منّة ولا تفضّل،بل بأمرٍ من السيد الإنجليزي،نفط الكويت هي الدولة؟ وشريان حياة الكويت،ورؤوسها بالطبع هم الخويا الإنجليز الذي لا يقول لهم عاقل لا،ليس من قببل التصاغر وترخيص الجنب فقط،ولكن بحسابات المصلحة،فالرفاهية التي عاشتها الكويت الفضل فيها بعد الله هي لعوائد هذه الشركة،فما بالك بعد تجربة الحرمان المريرة التي ذاقوها إبان الإحتلال العراقي،حتماً كان سيكون لها رجفة ارتدادية،تدفعهم للالتصاق بهذا الركن والتمسك فيه!
ويأبى الله سبحانه وتعالى إلا أن تستقبلني الكويت بأبرز ملامحها الراسخة في الذاكرة التي تؤكد لك بلا أدنى شك أنك على أرض الكويت وأن الطائرة لم تخطيء وجهتها،فقبل أن تحُطّ الطائرة على أرض المطار بدأ برج المراقبة يحذرنا من عاصفة رملية والتي لها اسم مميز باللهجة الكويتية"الطوز".
هبطنا بحذر من على سلم الطائرة قديمة الطراز،مطأطئي الرؤوس اتقاء للغبار،التفتُّ ورائي ولم أميز إلا منقار الطائرة الأبيض المخروطي من بين سحب الغبار الكثيفة الحمراء،أحيانا هذه الملامح المزعجة تحيي في نفسك الألفة القديمة عوضاً عن الإمتعاض والتذمر،ولذا تقبلت الأمور بروح مرحة،خاصة و أنا أفكر بأن عائلتي الحبيبة ستكون بانتظاري.
تلقوني بالأحضان والقبلات مهللين بفرح جامح عبّروا عنه بكل الطرق التي تتيحها الحواس البشرية.
كان الطوز أقل حدّة في الشوارع الداخلية التي تشق بطن المدينة،وقاد فراس بحذر حتى بلغنا باب بيتنا بأمان.
لم أتلكّأ كثيراً في الذهاب إلى مقر نفط الكويت،لأشكر روجر،والذي تلقاني بترحاب صادق،وفزع قدماء الزملاء أو من بقي منهم وعبّروا عن ترحيبهم بجملة قصيرة: ابو نسب...أبو نسب،إلا واحداً هو عايد الماجد،والذي أعرب عن ترحيبه بطريقة لامزة غامزة مغلفة بالمزاح:
- إنت منين طلعتلي يا رجل؟
وأجبته بما وسعني من برود: أنا ما طلعتلك طلوع يا رجل،أنا نزلت عليك من فوق نزول بالطائرة.
تلاعبت على زوايا شفتيه ابتسامة،ودّ لو استطاع كتمها، لكن طرافة الرد جعلتها تفلت منه رغماً عنه ،كان معروفاً عن عايد أنه لا يوفر فرصة في استفزاز الآخرين،ولكن المشهد انتهى عند هذا الحد،وجلست مع روبرت لوحدنا،قال:
- لقد تغيرت المشاعر نحوكم أنتم الأردنيون والفلسطينيون،ولكن الحدّة تخف بمرور الزمن،حتى أن البعض بدأ يحنُّ إلى أيامكم بعد ما رأو من انتهازية المصريين والفلبينيين والهنود،أنتم كان لديكم ولاء تجاه هذا البلد وحصلتم على بركاته بالمقابل دعماً لقضيتكم ثم يجيء عرفات ليفسد كل شيء بكلمتين،إضافة لإخلاصكم في العمل لدرجة التفاني،بينما يؤدي المصري والآسيوي عمله بأقل ما يستطيع من الجهد،وكأنه يقدم تبرعاً،الكويتيون شعب ذكي،وحساسون تجاه كل شيء،استثنِ البعض طبعاً من المغرضين و المعتاشين على الإثارة وقذف الحصى في الماء الساكن!
- روب! وكأنك أجريت دراسة حول الموضوع! أقول ضاحكاً.
- لا داعي لذلك،كل ما عليك هو أن تصيخ لأحاديث الناس،إنهم يصرّحون بكل ما يدور في دواخلهم.
- بالضبط! هذه طبيعتنا نحن العرب!
أراحني حديثي مع روبرت كثيراً،كسيّد لا بد أن يعرف معطيات ساحته بدقة حتى يديرها بنجاح، مآمنها ومكامنها ،مهادها ومطباتها،وهذا بالضبط ما كان يفعله روبرت!
مع العائلة قضينا اياماً حميمية،كأننا نريد ان نشبع من بعضنا بعد هذا الحرمان القسري،ساحت العواطف وتبودلت المشاعر،وطغت على المشهد مظاهر الإحتفال،الطعام والشراب والحلوى،حتى خروجاتنا كانت قليلة وقصيرة وسرعان ما نحنُّ للعودة إلى جو البيت!
أثناء تجوالاتي القليلة لوحدي في الأسواق والمولات،كان واضحاً أن الناس مقبلون على الحياة بنهم وشره شديدين،وكأنهم خائفون أن يفوتهم قطار الحياة قبل أن يظفروا منها بشيء،النساء مقبلات على الحلي والذهب،والرجال يبحثون عن صيد نسائي في الزنقة!
جذبت عيني إسورة ذهبية في واجهة محل،وطلبت إلى البائع الهندي أن يريني إياها،وعندما قربت يدي لألتقطها ضرب على ظاهر يدي بخفة بأطراف أصابعه بما يعني ممنوع اللمس،الأمر الذي أغضبني واستكبرتها منه، وكدت أثور في وجهه،ولكنني كتمت غيظي وانصرفت،في الكويت البنطلون والقميص هي رخصة للتجرؤ عليك حتى من عامل هندي بسيط،هذه أحد ضرائب الحياة في دول الخليج العربي!
كان المساء لطيفاً وفكرت أن أتناول شيئاً في كافيه أحد الفنادق،وأخلو قليلاً لنفسي وأفكاري في فسحة من زمن منسي!
طلبت قهوة،ولم أكد أصلح جلستي حتى جاء النادل المصري حاملاً إياها،وكأنني قدمت طلباً مستعجلاً، أراحها أمامي برفق ثم تناول قطعة جاتوه شهية المنظر وأقعدها إلى جانب القهوة،ولم ينتظر حتى أستفسر،استدار جانباً وهو يشير إلى سيدة جالسة في الركنّ: هذه من المدام،نظرت نحوها فحيتني بابتسامة وخلخلة أصابع خفيفة،رددت التحية ولم تلبث أن لملمت أشياءها وسارت باتجاه طاولتي،وقبل أن أجري حساباتي الذهنية كانت قد تمجلست أمامي:
- أنت مو من هل الديرة؟
- واضح،العلامة التجارية: القميص والبنطلون.
- أحلى قميص وبنطلون،تدري ما احبهم،ما عندهم سالفة!
- أنت مقيمة هنا في الفندق!
- لا ضيفة بس،أنا عندي شقتي الخاصة...وبنبرة ذات مغزى:
ساكنة لوحدي!
قلت متبسّطاً ومتشفعاً بحس الدعابة:
- إذا عينك عزواج...أنا محجوز!
راوحت رأسها علامة اليأس،وباللهجة المصرية:
- باين عليك دقة قديمة...تدري..غرف الفندق كلها شباب وبنات كويتيين..كبلز ولا زواج ولا من شاف ولا من دَرَى!
شهقتُ متفاجئاً:
- معقول!
- نادي سيّد واسأله!
- مين سيّد!
- الجرسون!
نادته بإشارة من يدها،وجاء سيّد مهرولاً:
- قول لهالمسكين البريء مين اللي حاجز الغرف يمكم!
يضع يده على فيه ويغمغم:
- بلاش فضايح يا مدام
- فضايح ايش يا ولد،ما ظل ستر ما انكشفٌ...وباللغة الفصحى" عصر اللامبالاة" هذه بركات الحرب،ما أحد يريد ارتباط،عويش يحط القيد في إيده!
تنتصب واقفة على مهل،تتريث تسحب كرتاً من حقيبة يدها تناولني إياه:
- إذا وسوسلك الشيطان عطني رنّة!
كأني كنت نائماً فاستيقظت،عصر اللامبالاة،هذا عنوان كتاب،لا بد ان هذه سيدّة مثقفة،لقد قرعت في رأسي جرساً قديماً آخر"جاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجيرالد ،جنون ما بعد الحرب ،سقوط القيم وطغيان الموجة الاستهلاكية،وصيد المتع العابرة،التي حاول جاتسبي أن ينتشل منها حبه القديم فغرِقت وأغرقته!
يبدو أنه كما قال مورافيا" الحرب هي الحرب" صغُرت أم كبُرت،عالمية أم محلية، وفكّرت مستدركاً حرب العراق هي أيضا حرب عالمية بكل المقاييس!
عدت إلى البيت ساهماً شارداً وبقيت على حالي من الوجوم مستغرقاً في أفكاري،ولم أصح إلا على بخار فنجان قهوة امتدت به نحوي يد فوز،فرفعت بصري وابتسمت في وجهها..ثم نهضت فجأة كالملدوغ،ماذا لو عثرت فوز على الكرت،ثم تراجعت لاجلس مكاني،ليس من الحكمة أن أذهب لأفتش في جبوب ملابسي،حتماً سيثير ذلك شكوكها،وتضبطني من حيث لا أحتسب.
- ما لك يا رجل؟ اش بلاك؟ ماشي متلخبط في بعضك!
اللهجة المصرية أعادت إلى مخيلتي صورة المرأة التي كنت أجالسها قبل قليل ،ضحكتُ في وجهها،وكأنني أدافع بالقهقهة ما يمكن أن تبديه تعابير وجهي!
تقبّلَت ذلك كعربون براءة،و جلسنا نفضفض كصديقين قديمين،التقيا بعد غياب طويل!




تتواثب الأيام بنا تواثب الغزلان،ولا تترك لنا مجالاً للتوقف والمراجعة وكأننا في سباق محموم،أما أنا فأراوح الأمكنة على متن أرجوحة الزمن ،تدفعني يد القدر المقدور،ذاهبة آيبة،ببن عمّان والكويت ولِماماً الإمارات،استرخت الأوضاع قليلاً،وأصبح كرت الزيارة متاحاً للكويت،والفيز السياحية لدبي بالمثل،وفي الحقيقة فإن ما يحملني للذهاب للإمارات،هو لقاء ابني فراس على انفراد،والأحاديث الطويلة التي نجريها كوالد وولده،والتي أعود منها بذخيرة عاطفية،وشعور عمبق بمقاصد الحياة وحكمة الله في الخلق ،بل أذهب إلى أبعد من ذلك لأفسر على ضوئها آيات القرآن " كل يوم هو في شان"،وحتى الأحاديث السائرة مثل" ولله في خلقه شؤون"
قفزت السنوات بنا لتوقفنا اخيراً وعلى حين غفلة،على أبواب حيوات جديدة للأبناء والبنات فسناء وإيمان تتهيآن لدخول الجامعة،وحائرات في اختيار تخصصهن،ومثل هذه الأمور أتركها للمياء لأنها الاقدر والأصبر على متابعتها،أما أنا فمتفرغ لمتابعة أخبار الربيع العربي،وإلى أين وصل في تونس وليبيا ومصر،وتأتي لمياء بعد أن تفرغ من القيام بشؤونها،لتجلس إلى جانبي وتسخر مني ولكن بكثير من التحبب:
- ماذا ستفعلون أنتم حزب الكنبة،دع المقادير تجري في أعنتها وطب نفساً بما حكم القضاء ،وأرُدّ لها السخرية:
- يعني الصدر من بلد والعجز من بلد!
- وما الصحيح يا موسوعة الشعر؟
- الصحيح يا حمدانة الأندلسية هو كما يلي،واسألوا اهل الشعر إن كنتم لا تعلمون:
دع الأيام تفعل ما تساء
وطب نفساً إذا حكم القضاء
أولاً..وثانياً كما يلي:
دع المقاديرَ تجري في أعَنّتها
ولا تبيتنّ إلا خاليَ البال
ما بين غَمضةِ عَين وانتباهتها
يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ
لا تكترث لمياء للأحداث كثيراً ولا تتفاعل معها إلا بشكل عابر،تتجاهل ملاحظاتي وتعليقاتي،وبدلاً من المضي في المساجلة تقترب وتلصق جسدها بجسدي،وتدخلني في لعبة أخرى مختلفة تماماً!
تلتقط حواسي المستنفرة المستفزة بعض الصور بالذات،من زخم العرض الحافل الذي تبثه المحطات بلا انقطاع ولا توانٍ،ليل نهار،وتستحضر الماضي بالأبيض والأسود لتوفر خلفية للحاضر وتلأمه به،صورة الشاب الإفريقي الصغيرالذي التقط تاج ملك ملوك إفريقيا إبان اقتحام قصر العزيزية في طرابلس،وظهر على الشاشة في قمة الجذل والسعادة وهو يضعه على رأسه ويخلعه، مرّة بعد مرّة،مشهد يسجل بامتياز انتهاء المهزلة وابتداء الملحمة، مشهد لا يفوت ذكائي أن وراءه مُخرج ما أراد أن يسجل التاريخ بطريقته الخاصة وقد نجح في ذلك كما أرى،فقد بدا اامشهد عفوياً تماماً ولم تخفف الصناعة من رمزيته،فتاج الإمبراطور المنتحل الصفة القافز على عرشٍ ليس له ولا يصلح له اصلاً، أصبح لعبة صبيان،هذه هي الرسالة التي أراد إيصالها،وقد نجح تماماً.
في مصر المشهد مختلف فالمهزلة لم تنته بل سحبت ذيولها وراءها على صفحات التاريخ،وتضرّجت بدماء الملحمة!
دونت أفكاري على ورقة وتركتها على الطربيزة،التقطتها لمياء وقرأتها وأعلنت بجدية تامة ظاهرة في نبرتها:
- لا أدري لماذا أصبحتَ مهندساً ولم تصبح كاتباً،والله لأصبحت كاتباً لامعاً يشار له بالبنان أو على الأقل صحفياً معروفاً!
في تونس قدم البوعزيزي نفسه كقربان،وعلى رائحة اللحم المحترق وسحب الدخان أنجزت الثورة التونسية طبختها،وركب "شين العابدين"طائرته وجمع ثروته وهرب إلى وجهته!
صرت أدون ملاحظاتي وتتابع لمياء قراءتها بإعجاب لا تخفيه لا بل تحرص على إبداءه وإسماعي إياه.
وهكذا نعيش ايامنا ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة،وكأننا على متن سفينة نوح،متوجسين هل ستغرق أم سترسو أخيراً وعلى أي جبل!

سَرَت أمواج الربيع العربي لتضرب الشواطيء الأردنية،واحتشدت الجماهير على دوار الداخلية،الذي استعاد اسمه القديم" دوار مكسيمُ"، طاغياً على اسمه الجديد" دوار جمال عبد الناصرُ"،ولا يخفى ما للاسم من رمزية،والذي سرّبه اليساريون بذكاء وقبل به الإخوان المسلمون الذين كانوا على رأس الحشد وطيفه الغالب،وكان هذا من الإبداعات الثورية التي تتجلى في مثل هذه اللحظات التاريخية الحاسمة،أن تمتزج الإرادات وتتوحد الشعارات وتذوب الفوارق، ويتوحد المجرى مندفعاً نحو هدف واحد،استدعاء التاريخ،وإعارة الزخم لتياره بوصله براس النبع.
ولكن نظرة أخرى عبر الحدود،التي انمحا خطها أمام تدفق أمواج اللاجئين السوريين،أصيب الجميع بالرعب من هذا المصير الوحشي الذي آلت إليه الأمور في سوريا،كان المشهد مريعاً وفظيعاً بأكثر مما يحتمله أشد الكوابيس رعباً ودموية،ففض الثائرون جمعهم وآثروا الأمان للوطن قبل أشخاصهم،وهذا أيضاً من بركات الحس الشعبي،الذي يقدم الوعي ويرفض تقديم القرابين على مذبح عابث،وكأنه فقط يؤجل الموعد إلى توقيت تاريخي يوفر تلك الكلفة الدموية الباهظة،بالرغم من أنه يعلم جيداً أنه لن يتلقى مكافأة من الدولة على قراره هذا،فالدول لا تغفر لمن يتمرد عليها حتى ولو تراجع عن ذلك،فهي تعلم أن النية مبيتة،وأن هذا السجال مع الشعب لن ينتهي،لأنها لا تملك أصلاً وسائل إنهائه.
عادت القدس ومسجدها الأقصى لتحتل قلب الحدث،بعد إنحسار موجات الربيع،وعلى حين غرّة قرّرت أنا ولمياء أخذ البنات في زيارة للقدس،والطريقة المتاحة أمامنا كأردنيين هو الحصول على فيزا إسرائيلية والدخول عبر جسر الشيخ حسين إلى داخل ما يسمى الخط الأخضر أو مناطق ال٤٨،ورغم أن السلطات الأردنية تصرف جوازات سفر مؤقتة حتى لا يختم الجواز الأصلي بالختم الإسرائيلي إلا أنني ولمياء وجدنا غضاضة كبيرة في ذلك وكأننا نرتكب خيانة،وترددنا وناقشنا الأمر بيننا طويلاً،وأخيراً قررنا الذهاب،لأجل عيون فلسطين والقدس كما قالت لمياء.على الجسر عاملنا الجنود الإسرائيليون باحترام بالغ، سياسة موجهة سياسيا تجاه الأردنيبن،بهدف استرضائهم أو إبقائهم في حالة الحياد وربما النأي بهم عن التعاطف مع القضية الفلسطينية أو على الأقل كبح اندفاعهم في هذا الإتجاه!
فلسطين على حالها بالرغم من كل ما عاثت به فساداً السياسة الإسرائيلية،من تزوير للملامح أو تبديل لأسماء القرى،هي هي فلسطين وكأنها فلاحة فلسطينية بكل ملامحها الأصيلة وتعابير وجهها المترواحة بين السماحة والصرامة،وليس الإسم فقط كما قال درويش،فكل من يرى فلسطين يتولد لديه الإنطباع على الفور أن ما يفعله الإسرائيليون أو اليهود هو الخربشة على السطح وأنهم لن يفلحوا أبداً في الوصول إلى الأعماق او اختراق الأحشاء،فهي مناطق محرمة عليهم بحكم رباني،لن يتسنى لهم اقتحامه ولا حتى التحايل عليه!
ترددنا بين يافا وحيفا وتل أبيب، تناولنا الإفطار والغداء في المطاعم العربية أثناء النهار،وتحدثنا بالعربية مع أصحابها،ولكننا لم نتمهل كثيراً،كنا متلهفين للذهاب سريعاً إلى القدس،والوصول إلى ساحات الأقصى وقُبّة الصخرة فقلوبنا وعقولنا وأرواحنا معلقة هناك.
كان لا بد من إبلاغ السلطات الإسرائيلية للسماح لنا و ترتيب وصولنا بحافلات مخصصة،فالقدس لها خصوصية بكل المعايير حتى بالمعيار الإسرائيلي،حتى أنهم اقترحوا علينا رفقة أمنية،وقالوا أنها بؤرة متوترة وخطرة،ولم نصارحهم بالطبع بما يدور في عقولنا من أنهم هم سبب هذا التوتر ومصدر هذا الخطر .
أوصلتنا الحافلة إلى باب العمود وحططنا على أرض الوطن فنحن لسنا سُيّاحاً كما يفترض الإسرائيليون بل أصحاب أرض ومواطنون.
عبرنا إلى باب العمود ومن ثم إلى ساحات الأقصى،وصعدنا الدرجات الحجرية وصولاً لقبة الصخرة،وحذرتني لمياء:
- لا تفعل شيئاً يلفت الإنتباه،فهؤلاء الجنود مجانين ولا تعرف كيف يكون رد فعلهم.
- مثل ماذا؟
- مثل تقبيل الأرض مثلاً خارج وضع الصلاة،لا بد أن يفهموا ما تفعل وإلا فإن أي حركة لا يفهمونها قد تستفزهم لآطلاق النار عليك،وهم مسكونون أصلاً بالخوف والريبة!
حاولنا تجنب الإحتكاك بهم قدر الإمكان،والتظاهر بالتصوير بالموبايل،ولكن المشهد كما تنقله الشاشات لنا كل يوم ،مشهد مواجهة وتوتر وكر وفر،ولم نستطع مقاومة الرغبة في التوقف ومراقبة ما يجري،تتطور الأمور على حين غرّة مثل زوبعة تفور على وجه الأرض،وشاهدنا جندياً يهرع نحو فتاة كانت تهتف للحرية وبرحيل الاحتلال ويجُرّها من شعرها دون مراعاة لأية حرمة، فهم لا يعرفون الحرمات هنا، لا بل يتعمدون انتهاكها،استفزني المشهد كثيرا ،وثارت الحميّة في داخلي وكنت على وشك الاندفاع نحو الجندي لأحول بينه وبين الفتاة،إلا أن شاباً اندفع نحوه كالبرق لنفس الهدف ،وقبل أن أفكر في أي شيء كان الجندي قد رفع بندقيته وأطلق عليه النار وتهاوى الشاب أمام عيني واندفعت نحوه بلا تفكير وتهاويت مقرفصاً إلى جانبه، ودفعت مرفقي للوراء محاولاً إخراج منديل من جيبي لأوقف فيه نزيف الدماء،شعرت بحرارة وتيار كهربائي يسري في مرفقي،ولم أدرك أنّ الجندي أطلق علي النار،إلا حين أحسستُ بلمياء واقفة فوق رأسي وهي تصرخ في وجه الجندي رافعة جواز السفر الاردني:
- أردني...أردني. jordanian.. tourist..visa ..visa..
ويبدو أن كلمة فيزا هي التي جعلت الجندي يتوقف ليراجع موقفه،بدل أن يكمل مهمته في الإجهاز علي،وحينها فقط أدركت أنه من لطف الله ولأنه ربما لم يحِن أ الدخان جلي بعد،دفعت بيدي إلى الوراء فأصابت الرصاصة جانب كوعي بدل أن تخترق خاصرتي ،ويبدو أن الجندي فهم أخيراً وأجرى مكالمة عبر جهازه،وهرعت لمياء لإحضار البنات اللاتي تركتهن وراءها حين اندفعت نحوي،وبقين مسمرات في أماكنهن مشدوهات، وجاءت سيارة إسعاف صعدت إليها مع لمياء رافضاً التمدد على النقالة ليهتف المسعف بالعربية:
- عربي..عربي..عنيد..ما فيه عقل..ما فيه عقل..
وفي الطريق إلى مستشفى هداسا،فكرت أن هذا الشاب افتداني بروحه،ولم أعرف تماما إن كان قد استشهد أم لا...


جاء اثنان من المحققين الإسرائليين لاستجوابي:
- أنت أردني...ما الذي ورطك بهذه الورطة!
- لكي تتورط هذه الورطة...لا حاجة لأن تكون أردني أو فلسطيني.. أو حتى إسرائيلي..يكفي أن تكون إنساناً لتحاول منع جندي مدجج بالسلاح من الإعتداء على فتاة عزلاء لا حيلة لها.
يصمت المحققان كلاهما فأنتهز الفرصة لأضيف :
- " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"!
- ماذا يعني ذلك؟يهمهم أحدهما!
- يعني" أترجم له بالإنجليزية" أن كل ما ترتكبه بحق غير اليهودي ليس جريمة!
يجأر مستنكراً:
- هل أنت متطرف إسلامي؟
- لا بل مسيحي؟
يرفع حاجبيه في استغراب:
- كيف ذلك أنت مسلم؟
- ألم يقل لكم المسيح يا أولاد الأفاعي أنتم لستم فريسين وكتبة بل أنتم بائعو حمام وتجار!
يبتسم ساخراً:
- المسيح لم ينزل بعد!
- قل ذلك للرئيس الأمريكي!
- إسمع! لا تتحاذق،ولا تدفعنا لإرسالك إلى السجن! لأي مستسفى تريد أن نرسلك في الأردن؟
- مستشفى الأردن.
- لك ما تريد أيها الأردني المشاغب!سعدنا بالتعرف عليك،مع السلامة...شلوم...شلوم...
في أقل من ربع ساعة كنا متجهين إلى الأردن في سيارة الإسعاف التابعة للصليب الأحمر،ومرة أخرى عبر جسر الشيخ حسين،ولكن بالاتجاه المعاكس!
حديث هامس جرى بيني وبين الخبيرة الأجنبية،ونحن نقوم بمسح تلك الفلوات المفروشة بأحجار البازلت والصوان:
: هل تعتقدين أن هذا العراء يخبيء كنوزاً ثمينة؟
تبتسم:
- لا أدري!لننتظر نتائج المسح.
أنحني على الأرض ،أزيح كومة الحجار من على السطح،وألمُّ بين كفي حفنة تراب،أنهض وأقربها من أنفها:
- ماذا تشمّين؟
- رائحة بترول!
- أرأيتِ! الحواس الخمس أصدق من كل المسابر!
- تمنحك المعلومة الأولية ولكنها لا تنبئك عن الكمية والعمق،وهل هي تجارية أم لا!
- هناك منطق للأشياء،لا تستطيع أن نسأل البركان الذي يقذف حمماً هل في جوفك نار أم لا،حين تفيض الأرض بما فيها،لا نعود بحاجة لاستفتاء الآلة،يصبح دورها فقط أن تحفر وتستخرج،لا أن تحسّ وتجس.
نشأ بيننا ما يشبه الصداقة أو أنها العلاقة التي تولّدها الألفة،أو أنها الجاذبية الشخصية،خيارات الروح،التي هي مثل الطير،لا تدري لأي سببٍ غامض تحُطّ على غضنٍ دون آخر!
صرنا نجلس في الاستراحات متقابلين عبر الطاولة الصغيرة،صرنا نأنس ببعضنا،أنا لدي ما أقوله وهي لديها فضول تريد أن تشبعه بالمعلومة،والمعلومة أنا مصدرها الذي ترتاح إليه،
وأخيراً تُقاطع أسئلتي المُلحّة حول عمليات المسح الجيولوجي وتلهُّفي للحصول على النتائج من خلالها هي،مستغلاً ما نما بيننا من الألفة.
هي تعي ذلك جيّداً،ولكن هؤلاء الأجانب مهنيون ملتزمون،لا يمنحونك المعلومة مجاناً،إلا عبر القنوات الرسمية،بعكسنا نحن الذين نثرثر حول كل شيء.
أخيراً تقاطع فضولي هذا برفق وتحبُّب وبكثير من اللطف:
- لا تقلق حول نتائج التتقيب،ستسير في مساراتها الرسمية،هل تذكر حفنة التراب التي أشممتني إياها؟
- ماذا عنها؟
- هناك روائح أزكى وأكثر عبقاً تفوح منكم هنا؟
- أية روائح تقصدين؟
- الصدق..النزاهة..أنتم على درجات أعلى على هذا السُّلم منا نحن،وهذه أهم من رائحة الكاز،نحن طاردنا وراء المادة،أنجزنا الشيء الكثير ولكننا بالمقابل فقدنا أشياء كثيرة!
- مثل ماذا؟ اشرحي لي بالضبط.
- لا أدري كيف أوضح لك،لقد أصبح لنا مدراء تنفيذيون في كل شيء،حتى في عالم الروح،أو الترفيه او حتى اللهو والمتعة،إذا أردنا التحاور مع الله، ذهبنا إلى الكاهن!
وإذا أردنا الاستمتاع بالموسيقى ذهبنا الى المسرح أو دار الأويرا.. وللمتع العابرة او حتى للتعرف على الأصدقاء،نذهب إلى حانة،لكل شيء منجره الخاص أو معقله المعتقل فيه ،الأمور عندكم أبسط بكثير،تُصلّون لله مباشرة وتخاطبونه دون وسيط وتدندنون بأغانيكم،او تصدحون بها في أعراسكم وحفلاتكم على لسان أي كان،الفرح متاح دائماً.
- وماذا عن الخبز والزبد..نحن نعيش ضائقة مالية كبيرة
- أعرف ذلك...ولكن اطمئن..هذه الارض ستجود لكم بما فيها ستتفجر ينابيعا ويفيض الخير على حوافها،ولكن كل شيء مرهون بوقته.
في رحلة ترفيهية الى جبال عجلون،وفي جلسة مسترخية،نوجه دفة الحديث الى الجانب الشخصي،تضحك سوزي:
- لماذا أنت متوتر دائماً؟
- أشعر أن العالم يتهدم من حولي.
تتضاحك سوزي:
- لهذه الدرجة؟
-وأكثر من ذلك ربما!
هذا هو الشرق الأوسط،عاضٌّ على جذع الأزمة،منذ أطلقوا عليه هذه التسمية!
- هل أنت مدمن سياسة؟
- لقد تحوّلَت الى شيء شخصي ،تصوري أنا وزوجتي لا نتابع إلا نشرات الأخبار،لا أغاني،لا أفلام،لا مسلسلات،لا شيء!
تهز سوزي رأسها بتعجب:
- أعرف أنك مسلم والا لكنت نصحتك أن تتناول كاساً أو اثنين قبل النوم.
أصبح انفرادنا يلفت أنظار الموظفين،ولكنهم لا يجرؤون على قول أي شيء،أو إبداء أية ملاحظة،فللأجنبي قداسة لا تنتهك!
- إسمع هون عليك،أنا لدي طفل معاق،تركته برعابة أبيه،ولكني أتقبل قدري على أية حال، أحياناً تبدو خياراتنا محدودة في هذه الحياة،هذه هي الحياة يا عزيزي،وكلنا بشر،وكلنا نعاني!
- هذا صحيح إلى حدٍّ كبير،ولكن من منا لا يودُّ أن يكون بطلاً أو منقذ؟
-أنا لا أود ذلك..أريد ان أعيش حياتي ببساطة هكذا،والأهم من ذلك أن أتقبلها!
ننهض ونندمج مع أعضاء الفريق الآخرين،ونطلق العنان للثرثرة..الثرثرة حول لاشيء أمر مريح للاعصاب،تبتسم لي سوزي من بعيد وترفع كأس العصير في تحية ذات مغزى!
أنهى فريق التنقيب الأجنبي مهمته،سلّم النتائج وحزم حقائبه للرحيل،قالت سوزي: لا تزال رائحة النفط التي رفعتها إلى ما تحت أنفي تعبق في خياشمي،وربما تبقى عالقة هناك إلى زمن طويل،وربما نعود إذا قررت حكومتكم التعاقد معنا للاستخراج،بناء على الداتا التي سلمناهم إياها،لا أخفيك الوضع واعد، أما إذا قررت غير ذلك،أكون قد عدت بكنز ثمين،أغلى من النفط ربما،وغير خاضع لتقلبات البورصة،أكون قد عدت بصديق..قالت ذلك وهي تناولني بطاقة معلوماتها،رقم الهاتف والعنوان ورقم المكتب وكل شيء،أمالت رأسها وأردفت:

- إذا قررت سأكون هناك!

صافحتني بحرارة وغادرت..

مضت أيام وكنت جالساً إلى مكتبي ساهماً،ويكاد العرق يرشح من أنفي،وجهاز التكييف يجرش بلا كفاءة،قررت زميلة غيورة،أن تقتحم مكتبي وتفضفض بما يعتمل في ،نفسها وقبل أن تجلس أو تنتظر دعوتي لها للجلوس لعلع صوتها قاطراً بالغيظ والتحامل على الرجال:

- لا جولات بعد اليوم،ولا قعدات أنس ولا سوزي..ثم أردفت بحدّة:

- لا أدري ما الذي يعجبكم في الأجنبيات،وأنت متزوج كمان،يمكن زوجتك أحلى منها كمان،لو أن واحدة منا هي التي جلست مع أجنبي،لقطعتموها تقطيعاً..

- على مهلك يا بنت الحلال..لماذا سوء الظن؟ والله ما كنا نحكي إلا بالشغل!

وترد ساخرة:

- أيوى..ما دام حلفت خلاص صدقتك..ثم مستدركة على نفسها وكأنها تصحّح خطأ:

- ربما بالنسبة لك فأنت لا تبدو لي من ذلك النوع!

' أي نوع تقصدين؟

- أي نوع أقص؟ النوع الخائن طبعاً!

سارة عزباء،تجاوزت الثلاثبن بقليل،وربما هذا سر مرارتها وحدّتها...وفي سريرتي قلت: معها كل الحق،ولكني لم أُصرّح لهاةبذاكُ!

بالنسبة لفوز أنا الملجأ الأخير حتى وأنا بعيد،وهذا تطور جديد في العلاقة بيننا ،خاصة بعد أن انكشف أمر زواجي الثاني،يجيئني صوتهامجلجلاً من الطرف الآخر للعالم،بالفعل فدولنا العربية بالنسبة لبعضها عوالم مختلفة،فكل تلك المشتركات تمت محاصرتها بالقوانين والأنظمة والتعليمات:

- تصور يريدون الغاء ترخيصي حسب التعليمات الجديدة،لجأت إلى محامي،أكلني ولم يفعل شيئاً!

وأفصل لها كلماتي تفصيلاً:

- فوز..اسمعيني زين..توكيل محامي يعني دخولك في دوامة،لأنك بالنسبة له خزنة وانفتحت!

وتسارع بمقاطعتي:

- ماذا أفعل إذن..أتولى الأمر بنفسي..أبحث عن محامي آخر؟

-اهدأي فوز واسمعيني للآخر،كل هذا لن يفيدك بشيء،الكويت الجديدة غير الكويت القديمة،والمشاهد من الخارج يرى أوضح بكثير من الرائي من الداخل،انتم تظنون أنكم استعدتم كويتكم القديمة،هذا غير صحيح يا حبيبتي،مجتمع ما بعد الحرب، مجتمع يسري فيه الفساد والرشوة،هذه حقيقة،إذهبي إلى أول موظف يستلم اعتراضك،وقدمي له رشوة لا يستطيع رفضها!

يصلني صوتها ضاحكاً من على الجانب الآخر:

- ماذا هل أنا العراب أو العرابة؟

- بالضبط! العبي هذا الدور،وإذا لا سمح الله طلع شريف ورفض،وهذا أمر شبه مستحيل،اقلبي على الجنب الآخر وقولي: أنتم سددتم في وجهي السبل،وألجأتموتي أن آخذ حقي الواضح بالطرق الملتوية،أشعريه بالذنب،وبالطبع سيتعاطف معك لأنه رجل حقاني ولا يقبل الرشوة! وفي كلتا الحالتين أنت الكسبانة!
تستعيد نبرتها جديتها ورصانتها:
- سلّم لي على مرتك وعلى البنات!،سأجرب ..وبصوت خفيت يصلني بالكاد: حقّه سأجرب. وتغلق الخط.

وهكذا سقطنا كلنا في الجٌب،أعلن والد لمياء الذي يزورنا لماماً.،تأوي الفتيات إلى حضن جدّهن فيستبقيهن هناك إلى ما لا نهاية،لم يعد يتفاجأ بأي شيء وكأنه شرب البحر المالح،مما توالى على هذه الأمة من أحداث،ويلقي بالنكات أحياناً حول الأحداث المفصلية في تاريخ الأمة:
- هل تدري ما فعله جمال عبد الناصر؟
وحين أقلب راحتي معلناً عجزي يوافيني بإجاباته التي يظنها شافية:
- فعل عكس ما فعله أتاتورك تماماً،ذاك ألبسهم القبعة وهذا شلّحهم الطربوش!
- وما الحكمة في ذلك يا عمي؟
تنفرج شفتاه عن ابتسامة ماكرة:
- هل تعرف كيف يُعلّم السبع و الضبع مناطقهم؟برش البول ضضعلى الأشجار! وهذا ما فعلوه،بالوا في عقولنا،وحين تملأ خياشيمنا رائحة البول ،تفقد الأنوف حساسيتها ولا تعود تشم شيئاً،وهذا يفسر استمرار الأوضاع على ما هي عليه،لزمن بعد زمن و لأزمان طويلة حتى تخال أنها لن تبلغ أية نهاية!
تجتهد لمياء في خدمته،ولا تكاد تقعد حتى تنهض من جديد،حتى يجلسها بإشارة آمرة من يده:
- إسمعي أنت أيضاً:كلكم بحاجة إلى تثقيف!
هل تدرون كيف زوروا ثقافتنا هؤلاء المدلسون؟
لا يصمت لينتظر إجاباتنا بل يسعفنا بالمفيد على الفور:.
- لقد حولوا الفن ديناً، والدين فناً!
انظروا كيف توزعون أوقاتكم ببنهم،فإما أن تشاهدوا فلماً أو تستمعون إلى موعظة!
تتضاحك لمياء، أماأنا فأرى في كلامه بعض وجاهة،وربما شيئاً من الحكمة.
يلتقط أنفاسه لبرهة،ليكرّ علينا من جديد:
- خدمنا في الجيش والبوليس،ما الذي كنا نفعله؟ننفذ الأوامر،نضرب من يأمروننا بضربه،ونعتقل من يأمروننا باعتقاله،بلا تردد ولا تفكير،ثم نعود لبيوتنا مرتاحي الضمير،لنلاعب أطفالنا ونتناول عشاءنا وننام!
غبر عابئين بمصير أولئك الذين سلّمناهم للجلادين والقضاة الظالمين،الذين ينفذون الأوامر بدورهم مثلنا تماماً والمسلسل مستمر،وتتوالى حلقاته تماماً مثل مسلسلات التلفزيون! والفرق الوحيد أنه أصبح أكثر دموية وتوحشاً من ذي قبل! أكثر بدرجات! هل تفهمونني؟
ونهزّ رؤوسنا مؤمّنين!
حياتي ترتسم تماماً كما في الحكاية الشيقة التي حكتها لي جدّتي في الطفولة، فأطلقت لخيالي العنان ،وتخيلت نفسي مكان بطل الحكاية وهو رجل فرّ طالباً النجاة من حكمّ بالموت حكمه به ملك ظالم فولى هارباً حتى وقف على مفترق طرق تنتصب على رأس كل منها لافتة تنبئك إلى أين تفضي، الأولى ضياع والثانية ضباع،والثالثة ذهاب بلا ارتجاع،أما الرابعة والأخيرة فهي الطريق التي لا يسلكها إلا الرجل الشجاع،وقلت في نفسي أن هذا الرجل محظوظ،لأنه يملك الخيار،أما أنا فلا ادري في أي طريق دفعتني الأقدار!
استروحت أنسام الصبا والطفولة البكر العذبة،وحكايات جدتي المفعمة بالحكمة،وحتى كطفل لم يلتبس علي الأمر،وعرفت أن الطريق الذي سأختاره هو طريق الرجل الشجاع،وأن باقي الطرق هي فقط للتمويه وخيارات مستثناة وساقطة سلفاً،وكبرت هذه القناعة معي وحسمت مواقف كثيرة،ولذا حين جاءني خبر توقيف ابني فراس في مصر،قررت أن أطير إلى هناك على الفور،وأواجه ضباط الشرطة المخنثين الذين يستعرضون بطولاتهم على الأبرياء والضعفاء،وكنت على وشك ان أفعل حين استوقفني قريب لي عرف بالحكاية فهرع إلي قبل أن أتهور كما قال،وهدّأ من روعي ،ثم شرح لي الموقف وبيّن لي ما يتبغي علي أن أفعله بهدوء وروية،قال:
- في مصر في هذه الظروف يوجد سلاح واحد فعال...الرشوة ،والرشوة فقط..الرز..رش وعد بالغنيمة وعلى فكرة ما هي تهمة ابنك:
وشرحت له بما وسعني من هدوء:
- فراس ذهب إلى مصر ليتعرف على عائلة فتاة مصرية تعمل في الكويت وأعجب بها،المهم أنه استأجر شقة قريباً من بيتهم،وبعد بضعة أيام جاءت الشرطة واعتقلته،واستجوبوه على أساس أنه من الإخوان المسلمين وناشط في جمعية الإصلاح الإجتماعي،وهذه المعلومات أبلغنا بها المحامي الذي وكلناه،واتصلت فوز بالسفارة الكويتية وبالسفير شخصياً،ولكن ذلك لم يجد نفعاً.
- اسمع لو كان مبارك لا يزال رئيساً لقدّر وفهم،فقد وقف إلى جانب الكويت وساهم في تحريرها وأرسل جيشاً اصطف إلى جانب الأمريكان،أقول: لو كان مبارك لفهم وقدّر أما هؤلاء الرعاع فلا يضفهمون شيئاً إلا الرز ،إنهم عصابة من اللصوص والمتسولين،سرقوا أحلام المصريين وبطشوا بهم..
التقط قريبي أنفاسه وقال:
- اسمع ..ذهابك لن يجدي نفعاً،أنا لي صلات ومعارف هناك وعلى مستوى عالّ،وكل ما عليك هو أن تجهز رشوة دسمة!
- في حدود كم يعني؟
- لنقل عشرة آلاف دولار،وسأقنعهم أن يقبلوها،أنت لا تعرف مدى جشعهم،أما مصاريفي فهي على حسابي،خدمة لك يا ابو فراس،ولمعزتك عندي!
- ولكنك لم تقل لي كيف تعرفت على هؤلاء الناس،وكيف عملت معهم صلات؟
- اسمع! سأبوح لك بسر لا يعرفه أحد من أهل البلد،ولا حتى أقرب المقربين! لقد تورطت في عملية تهريب،وأهبُّ مقاطعاً إياه بانفعال:
- تهريب ماذا؟ ليس في مصر تهريب إلا تهريب المخدرات،هل هربت مخدرات يا ابن عمي؟
ويراوح رأسه تعبيراً عن الأسف ويجيبني بكل وقار:
- اولاد الحرام...شياطين بني آدم!يغرون حتى الشيطان نفسه!
- ولهذا أغروك طبعاً!
لا يتمالك من القهقهة بصوتٍ عالٍ،وقبل أن يشرع في التفسيروبفضول عارم استحوذ علي بفعل الصدمة،ابادىه بالسؤال:
-وبعدين،كيف نفدت منهم؟
- ببساطة،قدمنا لهم عرضاً لم يستطيعوا رفضه!
- ماذا؟هددتوهم بالقتل على طريقة االمافيا!
يتضاحك قريبي على سذاجتي:
- لا يا ابن عمي! هذا لا يجدي مع البوليس فهم بأنفسهم أكبر عصابة، عرضنا عليهم رشوة سال لعابهم لها!
- أيوى وبعدين ماذا حصل؟
- لا شيء!
شيعوني إلى المطار برفقة مدير السجن ولواء بوليس،ولم يتركوني حتى استويت على مقعدي في الطائرة!
وانهلت عليه مستطلعاً:
- وكيف تقدمون لهم الرشوة؟هل عن طريق سماسرةٌ أم مهربين أم ماذا؟
يربت على ركبتي مطمئناً:
- لحد هون وبس يا ابو فراس! هذه اسرار مهنة لا يجوز إفشاؤها! يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم!
ينهض واقفاً متهيأً للمغادرة،ويمد يده مصافحاً فأشد عليها مؤكداً ومتشبثاً بحبل الأمل الذي مدّه لي:
- الفلوس ستكون عندك خلال يومين ،ثلاثة على الأكثر!

يقولون أن الإنسان حين يقف على حافة الموت يستعرض كل شريط حياته،من البداية إلى النهاية،وأنا وقفت على حافة الموت،ولكن يبدو أن ذهني أجّل هذا الإستعراض إلى ما بعد لحظة الأزمة،وما إن وصلت سيارة الإسعاف إلى ساحة مستشفى الأردن القريب من الدوار الرابع في عمّان،وحملوني على النقالة ،وما إن أراحوا جسدي على السرير الأبيض ونقّلتُ بصري بين جدران الغرفة القرعاء الواسعة الخالية من الزينة،حتى كرّت البكرة وبدأ الشريط بالتداعي ولم يتوقف أبداً لا حين أنزلوني لغرفة التصوير الشعاعي،ولا حين أعادوني إلى السرير مرّة أخرى،ولا حتى حين أنبأني الطبيب أن هناك تشظ شديد في عظام المرفق ربما يحتاج إلى أكثر من جراحة،ابتسمت له فيما بدا له بلاهة أو عدم اكتراث،رأيت تلك النظرة في عينيه، وسمعته وهو يفسّر للمياء:
- لا بد أن هذا من تأثير مسكنات الألم التي نحقنه بها،وابتسم مضيفاً:
- إنها تشبه المخدرات،لا بل هي مخدرات حقيقية،الباثادين والمورفين.
رفعت لمياء عينيها إليه في هلع :
- وهل سيصبح مدمناً يا دكتور!
يجيب الطبيب في جدية بالغة:
- هذا احتمال قائم ولكنه أخف الضررين على كل حال!
ويلتفت مجدّداً نحو نجلاء:
- أنا أمزح معك فقط نحن نعطيها بالجرعات المناسبة ومعظمها سيتنثيتك تركيبية لا تسبب الإدمان.
تستعيد نجلاء طمأنينتها وتطفو السكينة على وجهها،وتقترب من سريري على مهل،وتكلؤني بنظرة إشفاق ثم تمسح على جبيني،ولكنني محلّق في عالمي الخيالي وبالكاد أشعر بما تقوم به.
سبح ذهني كطائر مُحلّق فوق أحداث حياتي،متوقفاً بين الفينة والفينة في محطة ما،ولم يفتني أن أفكّر أنني سأدون ذلك في مذكرات حياتي او أضمنه في رواية،ولذا تركت لخيالي العنان.،وأسلمت جسدي للأطباء كالميت للمغسل يفعلون به ما يشاؤون!
وحين استقر وعيي قليلاً أدركت أنني كنت أفكر في الأحداث ولم أكن أعيشها فعلاً كما خيل إلي،وهذه الخدعة الذهنية ممتعة فعلاً،فهي تتيح لك أن تعيش حياتك مرّةً أخرى ولكن دون معاناة حقبقية،أو بمعاناة ودموع وألم ولكن كمن يتفرّج على فيلم مؤثر ويتفاعل معه،ولكن دون ان يشارك في أحداثه أو يتعدّى الحاجز الممنوع ببن الوهم والحقيقة!
حطّت الطيور حاملة الأحباب،وفاء لعهد ربما قطعناه في عالم الذر،أو غياهب الأزل،نظّموا أنفسهم وقدِموا كوفد إلى مستشفى الأردن حيث أرقد،ما إن لمحتهم حتى انفرجت أساريري وانشرح صدري،عاصم بقامته الطويلة وقوامه الممتليء يشوّح ويطوّح بيديه وراسماً علامة النصر وهو يهتف: حيوا البطل ...حيوا البطل ،سالم إلى جانبه،وفوز تتقدم بابتسامة واسعة بينما تأخرت وراءهم لمياء وسناء وإيمان،مانحين الأولوية للوافدين الجدد،هرول عاصم نحوي ليلتقف يدي السليمة ويُقبّلها إذ لمح الضمادات تحيط باليد الأخرى،ثم انهال على رأسي تقبيلاً،إلى أن نحته فوز بإشارة من يدها:
- وخّر يا ولد..عطني فرصة اسلّم على راجلي..
وبعدها تقدّم سالم بشخصيته الهادئة وتبعته سناء وإيمان ومن ثم لمياء،وانتظر فراس للآخِر وكأنه بيّت نية،قبّل جببني بهدوء،وقف إلى جانبي بشموخ متخذاً سمت من سيلقي خطبة:
- والله با والدي شفناك على كل تلفزيونات العالم،صورتك حين انحنيتَ بشهامة لتنقذ ذلك الفتى،وصورة ذلك الجندي الخبيث وهو يطلق عليك النار،تريد الصدج،والله ما حزنا ولا هلعنا، وماشفنا غير صورة بطل رفع رؤوسنا عالياً وهو يواجه الأعداء،فارس يبا.. فارس ..إي والله..
كانت الإبتسامات تملأ وجوه الجمبع، أخجلني هذا الفخار الذي ربما استحققت بعضاً منه، وعقّبت بتواضع صادق:
- والله يا ابوي ما سويت الا اللي كان يسويه أي واحد فيكم،كلنا على قلب رجل واحد في مواجهة هذا العدو اللئيم،وأبد ما نهون!
هدأت موجة الانفعال و سجت العواطف المستثارة متراجعة إلى مكامنها في القلوب،وقطعتُ برهة الصمت لأعبر عن شوق الاب والزوج وراعي العائلة الذي لا يحول دونه شيء:
- والله يا ابوي ما تدرون شقد مشتاق لسماع أخباركم..كبرتم..والله كبرتم. بعيداً عن عيني،وفي غمرة الحديث غلبتني الدموع،ولم أحاول أن أخفي تأثري، وسَرَت موجة من العاطفة وطفرت الدموع إلى أعين الجميع..ولأشيع في الجو بعض المرح،غيرت اتجاه الحديث وقلت مداعباً:
- من منكم يعرف مواصفات الخطين المتوازيين؟
وانبرى فراس رافعاً يده كتلميذ:
- لا يلتقيان أبداً.
وبنبرة المعلم الواثقة أعلنت برصانة:
- وها هما قد التقيا أخيراً،لقد غيرنا قانون الرياضيات يا اولاد،...ولما رأيت الدهشة تُطلّ من عيونهم،ثنّيت معللاً:
- لقد عشنا حياتين متوازيتين أليس كذلك؟،والآن التقتا في حياة واحدة..
انفرط الجميع ضاحكين وقد طفحت وجوههم بالسعادة..سعادة تقصّر دونها الكلمات مهما اجتهدت في الوصف،إو تحايلت على الألفاظ،وكعائلة يجمعها هذا الرباط المقدس يبدو أننا هزمنا حواجز التاريخ والجغرافيا..
مضت أيام بين جلسات العلاج الطببعي وجلسات البيت العائلية،والتقت الضُرّتان تحت سقف واحد،لا بل تشاركتا في الطهو وإعداد الوجبات وتبادل الوصفات، بين الأطباق الكويتية والأطباق الأردنية والفلسطينية، وربما ما سهّل الامر أن كلتاهما تعلمان أن هذا وضع مؤقت،وأن كلاً سيأوي إلى عشه في النهاية السعيدة!
بينما كان الأولاد يروون لي طرائف من حيواتهم فاتتني تفاصيلها،شجار على موقف سيارات كاد ينتهي بالطعن لولا لطف الله،شجارات مع المعلمين،استدعاء لمراكز الشرطة بسبب مخالفات سير، حتى استوقفتُهم مداعباً،:
- أبد! ما في حياتكم إلا المشاكل؟ما في شي طيب شي حلو،وغامزاً بعيني: قصة حب مثلاً ،رومانسية؟
ويرد سالم ضاحكاً: والله يبا اللي صار مع فراس،خلانا خايفين،نمشي نتلمّس رووسنا بعد ما نداني نطالع في عيني فتاة،ما تدري من وين تجيك الغدرة!
يتضاحك الجميع وهم يتلمّسون رؤوسهم!
كان ذلك ممتعاً حقاً:
- والله حياتكم تصلح فيلم سينمائي!
- لا يبا مسلسل..التفاصيل كثيرة!
وبينما يمضون هم في روايات حكاياتهم،اتفحص أنا ملامحهم متحرياً وجوه الشبه بيني وبينهم وبينهم وببن أمهم،من أشبه بمن وأي الملامح والقسمات مأخوذة من الأب وأيها من الأم،كان ذلك تعبيراً عن الحب الأبوي أكثر من أي شيء آخر.
وبالرغم من كل ذاك فإن فكرة الاستقرار جميعاً في الاردن،لم تحظ بالموافقة ولم ترُق لأحد،وأعرضوا عنها على استحياء،ولم اشأ أن أبتز عواطفهم بالعتاب،تركتهم وخياراتهم وما يرغبون!
فوز لا تملّ من إعادة قصة الإفراج عن فراس من مصر:
- وينه قريبك ذاك..ما جا عندنا ولا مرة! والله ابي أشكره.
- احمدي الله يا بنت الحلال..الرجل سافر وما ترك حتى لا عنوان ولا تلفون!
وفي بحر تلك الأحداث اليومية التي يسحبنا تيارها من يوم ليوم دون توانٍ ،ظلّت تختمر في رأسي فكرة ما،إلى أن تبلورت واتضحت،فجمعتهم ذات صباح حول شاي ما بعد الإفطار،وهذه عادة نحن معتادون عليها جميعاً،وبكل ما تسع الكلمات من حب وود أفضيت لهم بما يحيك في نفسي،وقلت مشدّداً على كل حرفٍ أنطق به لعلي أحدث في نفوسهم ما أريده من أثر،قلت:.طالما لا تريدون الإقامة هنا،أصبح من الواجب بل أقل الواجب،أن تتعرفوا إلى وطنكم وأبناء وطنكم،من الغد سنذهب لجولة في المخيمات الفلسطينية،وتتعرفون إلى الحياة وإلى الناس،أبوكم أطلق عليه اليهود النار على أرض المسجد الأقصى،ورفعتم كلكم رؤوسكم به عالياً،ونعتموني بالبطل،ما أريد أن أقوله لكم أنكم تنتمون لشعب من الأبطال والمجاهدين..
كانت فوز تتململ في مقعدها وبدا من ملامحها أنه استفزها الكلام ولم تتركني أكمل قاطعتني محتجة بانفعال:
- الفلسطينيون باقونا،أكرمناهم واسكناهم في ديرتنا،وش بعد؟باقونا ووقفوا مع صدام ونهبونا،حمّلو قشنا وهربوا للأردن،اللصوص الحرامية!
لم تطق لمياء صبراً وانبرت متصدية لها على الفور:
- احنا شعب من أشرف شعوب العالم،ما بتشوفي التلفزيون،نساؤنا المرابطات في القدس في وجه الجيش الإسرائيلي اامدجج بالسلاح،هن يبذلن الدماء وأنت تاكلين وتشربين وتبيعين وتشترين،مشغولة فقط كيف تكثرين الفلوس ، وعلى أية حال،هدول مو كويتيين أبوهم فلسطيني،وهم فلسطينيين!
وترد فوز بحدة:
- والله كويتيين بالخمسة وبالعشرة،طالعيهم شلون،ثم مستدركة: ابوهم عالراس والعين،بس البلد اللي تاكل خيرها وتشم هواها وتشرب ميتها،اهي بعد بلدك..الفلسطينيين شربوا ميتنا واكلوا خبزتنا وبعدين خانونا وراحوا ويا عدونا،شتريدينا نساوي بعد،نضربلهم تحية؟
انفجر الموقف تماما، واتخذ الأولاد جانب الحياد بانتظار أن أتدخل أنا،وحسمت لمياء الموقف بالقول: انت ضيفتنا و عزيزة ولك كل الاحترام،بس الحق حق وما يخفى ولا ينضام والشمس ما تتغطى بغربال!والعالم كله يتفرج عبدلبنا،بعني بالنحوي نحن ملء سمع وبصر العالم،انتم وينكم!
تنهض فوز بانفعال وبنبرة آمرة توجه كلامها للاولاد:
- يا الله. يا الله. لموا حاجتكم بنروح للفندق..ما ظللنا قعدة هون..
أشدها من يدها معيداً إياها إلى مقعدهابالإرغام،وأقول موبخا وباللهجة الكويتية:
- مالك يا حرمة..ينيت" جننت" انت،هذا بيت زوجك يعني بيتك،بتروحين لفندق..مو عيبة هذي بحقي..واهز رأسي متأسفاً:
- يا حيافة بس..
تضع يدها فوق يدي وتضغط في رسالة اعتذار
-حقك علي يا ابو فراس. بس انت تدري..أنا ما اتحمل كلمة واحدة بحق الكويت وخاصة بعد اللي صار..
- ِيا بنت الحلال..ما حد جاب طاري الكويت. انتِ طحت بساحة الناس...لا إحم ولا دستور..قومي حبي على راسها!
تنتفض كأنها تلقت صدمة إو لكمة في صدرها.. وتنبري لمياء من بعيد:
- لا والله انا اللي ببوس راسها،وتسارع مهرولة نحو فوز لتحتضن رأسها،ولكن فوز تحول بينها وبين ذلك براحتي يديها،وتردف لمياء:
- احنا ضيفنا عزيز وعلى روسنا من فوق..هيك احنا الفلسطينية!
ويسود بعدها صمت ويسترخي الجو ويتنفس الجميع الصعداء،ويبدو أن الجمار التي ظلت تتنفس تحت الرماد كل تلك المُدّة قد خبا بصيصها أخيراً!
أقنعت فوز بمرافقتنا لجولة في مخيم البقعة،قلت:
- اخرجي من قوقعة الماضي،لا تتوقفي في محطة واحدة ،اسمعي ماذا يقول شيخ شعراء فلسطين محمود درويش:
مَرَّ القطارُ سريعاً،
كُنْتُ أنتظرُ
على الرصيف قطاراً مَرَّ،
وانصرَفَ المُسافرونَ إلى
أَيَّامِهِمْ ... وأَنا
ما زلتُ أَنتظرُ
- جميل!
انبسطت أساريرها وقرّرت مرافقتنا إلى جولة في المخيم،واسترسلتُ مزيّناً لها الأمر:
- أن تحسّ بالناس وتراهم عن قرب وتستمع إلى أحاديثهم وتعليقاتهم يغير الصورة التي في ذهنك تماماً،يجعلها أقرب إلى الحقيقة...توميء برأسها موافقة،وهكذا تقرر البرنامج،مخيم البقعة ومن ثم البحر الميت.
كانت شوارع المخيم كالعادة مزدحمة وزاخرة بالحياة،وعلت أصوات الباعة وتركتُهُم على سجيتهم يعاينون الأشياء ويساومون الباعة،وتعجبت فوز كما الأولاد،من وجود معروضات فخمة وماركات في واجهات المحلات،ومظلات علوية على امتداد السوق تقي من لفح الشمس وزخات المطر،وأوصيتهم إذا ضعتم عن بعض فالجوالات موجودة وإلا فاللقاء عند موقف السيارة،كان أكثر ما شد فوز محلات ببع الطيور الداجنة وطيور الزينة الحافلة بكل أنواع الطيور،وفتح ذلك شهيتها،وتشاورت همساً مع لمياء،هل يشترين البط أم الدجاج لغداء اليوم،حيث كنا في ساعات الصباح الأولى،بنوك وصيارفة وشركات اتصالات ومحلات جوالات بأحدث الموديلات،ولم تتمالك فوز إلا أن تعلق: العالم كله هنا،في هذه المساحة الصغيرة،وكأنها بساط كبير،وهتف طفل لافتاً نظر الجميع: يا حماس. ويا حماس!
وظل يكررها محاولاً استذكار البقية حتى شرع الناس يسخرون منه،مما أغراني أن أسعفه: بما تناهى لقريحتي:
- علمتينا رفع الراس!
وتحولت العيون نحوي تعبيراً عن الإعجاب مما حدا بأحد باعة البسطات أن يصيح محيياً: هلا بالحمساوية!
استغرقت جولتنا ساعة ونصف،وعدنا بزوج من ذكر البط،دفعنا لأحد أصحاب نتافات الدجاج فذبحها ونظفها،وسأل:
-حشو أم تقطبع؟
وأجابت لمياء بالنيابة عن الجمبع: حشو!
وضعها في أكثر من كيس منعاً للتسرب وكافأته فوز بإكرامية سخية فوق أجرته التي طلبها،وثنّت معلقة:
- الناس هنا ليسوا طماعين وهذا شيء جميل!
قدنا إلى الببت وانهمكت النساء بإعداد البطات وساعدتهن سناء وإيمان،وانهمكنا نحن في الثرثرة وسرعان ما علت ضحكاتنا!
تربعت البطات المشوية بفخامة على طاولة السفرة،ولم نعبأ بترتيب القعدة حسب الأصول،وكنا في عجلة للبدء بتناول الطعام وقد عضنا الجوع،وصدحت فوز بمرح:
- بالعافية عليكم،وجلست متصدرة ااجلية حيث افردنا لها المقعد عن قصد،في لفتة تحبب!

أظنها كانت أجواء تشرين التي يفرُّ فيها الناس من برد العاصمة إلى دفء البحر الميت أخفض نقطة في العالم قياساً على سطح البحر،وأعجبت فوز والأولاد بسعة ونظافة الطريق كونها زيارتهم الأولى،توقفنا في الشونة الجنوبية عند ضريح أبي عبيدة،ورفعت فوز كفيها قارئة الفاتحة،وأفضتُ أنا بالشرح حول مقامات الصحابة وقلت أنها تنتظم كحبات القلادة التي تطوق عنق الساحل من هنا وحتى الشونة الشمالية والمشارع في أقاصي الشمال حيث ضريح شرحبيل بن حسنة، وكأنها كتاب مفتوح ينطق بأمجاد هذه الأمة،ولما رأيت التأثر في عيونهم انتهزت اللحظة ورفعت سبابتي مشيراً إلى الغرب معلناً بفخار:
- هناك على الضفة الأخرى تجثم أمنا فلسطين بانتظار جيوش التحرير،ومددنا أبصارنا مشتملبن بالصمت وبهالة من القداسة أرهفت مشاعرنا ونفذت إلى اعماقنا،حتى خفقت صدورنا من شدّة الإنفعال.

بعد تداول قصير قررنا أن نتجه إلى شاطيء الفنادق ونترك الشاطيء العام،حيث يمكننا أن نتناول غداءنا على الأقل،فرواد الشط العام يحضرون طعامهم معهم،وهو ما غفلنا عنه ولم يخطر لنا على بال إذ جهزنا أنفسنا على عجل،والكل متحمس للهبوط إلى أخفض نقطة في العالم،أو قعر جهنم كما علّق فراس لافتاً نظرنا أن سدوم وعمورة ديار قوم لوط تقبع في قاع هذه البحيرة ولذا فإن اسمها الأكثر شيوعاًهو بحيرة لوط،وعقّب أنه لا ضرر من الزيارة لأخذ العظة واستقاء العبرة،وكان لكلامه وقع شيخ يخطب من أعلى منبر!
تركنا السيارة وذهبنا مشياً على الاقدام وكان الجميع قد تخففوا من ملابسهم الثقيلة وانطلقوا خفافاً في هذا الجو المرح الدافيء.
كان الشاطيء منبسطاً ونظيفاً كبساط من رمل أبيض نقي،ومزرّعاً بالنخيل والمظلات بطريقة تنم عن فن وأناقة.
قرب الشاطيء انتشر أناس في مجموعات صغيرة بملابس البحر وفي أيديهم أقنعة، للغطس على مايبدو،وكانوا منغمسين في نقاش جدي ويترك أحدهم الحلقة ليحل محله آخر،أثار المنظر فضولي وقررت أن أتجه إليهم وأستعلم عما يجري،وأشرت على جماعتي أن يختاروا مكاناً للجلوس أو يتمشوا حسب ما يحلو لهم ،واستأذنت في المغادرة مطمئناً إياهم أني سأعود بعد قليل،ثارت الريبة لدى فوز وعلقت مازحةٌ:
-ابو فراس لا تلعب بذيلك احنا ثنتين ترى!
إذا لمحناك تحوم حول سائحة وللا شي لا تلوم الا نفسك!
الوحت لها وانطلقت مسرعاً باتجاه الجماعة!
اقتربت بكياسة من أحد المجموعات وحييتهم بالإنجليزبة: هالو،فهذا أضمن ليتجاوبوا معي،وبدون مقدمات سألت: لعلكم تحضرون لحدث ما !رياضي ربما!هل هو حدث مفتوح للجمهور للمشاركة؟
يتطوع رجل ليجيبني:
- في الحقيقة ما نفعله مصمم للمحترفين،لقد حضّرنا له لمدة أربعين يوماً،! معظمنا سباحون قدماء والبعض الآخر شباب حاصلون على بطولات..ويستفيض الرجل شارحاً:
- نحن هنا نحاول إنقاذ البحر الميت،أنظر إلى هذه الملاحات الضحلة المنتشرة،هذه نذر سوء وعما قريب ستجف البحيرة،ولذا فنحن نود لفت نظر العالم من خلال السباحة من هنا على الشاطيء الشرقي وصولاً إلى الشاطيء الغربي وعلى نفس واحد دون توقف د،ونأمل أن يلفت هذا الحدث أنظار الحكومات لعلهم يفعلون شيئاً بهذا الصدد!
،ينضم إلينا رجل ويحيي بالعربية: سلام!
وأبادره بالسؤال؛ هل أنت عربي؟
ويرد بروح من الدعابة:
- محسوبك منذر عربقات،بطل سابق لفلسطين في السباحة!
وأجره من يده،تعال لنقرفص قليلاً واحكي لي القصة كلها،تراني تعبت من الوقفة!
- لا يا رجل بعدك شباب شو نحكي احنا الختيارية!
- يا عمي انت بطل احنا قدك!
نقرفص مادين أبصارنا إلى الشاطيء الآخر وببديء الرجل شارحاً بكل جدية:
- نحن هنا لنحيي مشروع قناة البحرين بين المتوسط والميت ولنجذب الحكومات للمساهمة! وشعارنا : لا تتركوا البحر الميت يموت مرتين!
أرفع عيني نحو عينيه بنظرة استخفاف وبنبرة موبخة أبتدره بالحديث:
- ماذا عن هذا الشعب الذي يموت كل يوم مرات وليس مرتين..يا رجل أنت فلسطيني،كان الأولى أن تلفت النظر إلى ما تفعله إسرائيل بشعبك،وهي تنكل به وتحرمه نن ابسط حقوقه وتحرق زرعه ونخله!
ترتفع نبرة صوتي مما يجذب الألماني الواقف على مقربة إلى مشاركتنا، وموجها حديثه إلى زميله الفلسطيني يهلّ مستفسراً:
- ما الذي يقوله هذا الرجل؟ هل هوصحفي ويريد معلومات أكثر،إذا كان الإمر كذلك اتركه لي!
وينهض الفلسطيني ولسان حاله يقول،أجا فرج الله،ويغمغم : بالفعل سأتركه لك أجب على أسئلته إن كان لديك آجابات..ويولي هاربا!
وأعيد الكرة من جديد شارحاً للألماني ولكن بلغة أكثر رصانة ورسمية مما قلته للعربي!
ولشدة دهشتي يجيب الالماني:
- بالفعل كل ما قلته صحيح،إلا ان هذه مهمة السياسيين،وي تابع حديثه مشيراً باتجاه منذر،مثل ابن عم منذر عريقات صائب،أما نحن فلسنا سياسيين ،نحن نشطاء حماية البيئة،دعنا نقوم بهمتنا وهم يقومون بمهمتهم!
وأهز رأسي في إعجاب:
- حكيت فأوفيت..والله بالفعل يا ليت عريقات ..الآخر طبعاً يقوم بهمتهُ!
يتقدم نحونا رجل ممسكاً براحة طفل،ويرفع الطفل رأسه نحو أبيه وألتقط من كلامه كلمة"شالوم" ،وعلى الفور أتوجه إلى الرجل الذي من الواضح أنه يهودي إسرائيلي بالسؤال:
- سمعت الطفل يتحدث عن السلام! ماذا يقول يا ترى؟
يخفض الرجل بصره نحو ابنه بإعجاب بادٍ:
- هذا الطفل الذكي،إنه يسألني هل سنحقق معهم سلاماً يا بابا! يقصد العرب..الفلسطينيين !
وأسرع ملتقطاً زمام الحديث في لمح اللحظة:
- هل ترى ما يحلم به الأطفال قبل أن تلوث خدمة الجيش والمدارس الدينية فطرتهم البريئة ،ليس مجال إطلاق الاتهامات ولكني أقول لك ببساطة: لا تقتلوا الحلم في نفوسهم،أنتزع برفق يد الطفل من راحة يد والده وأصافحه مملياً:
- لا تطلب من أبيك ان يشتري لك لعبة..أطلب منه أن يشتري لك سلاماً..شلوم..شلوم...
أستدير مولياً لهم ظهري وأنطلق مسرعاً وعيناي تجولان بحثاً عن مكان جلوس عائلتي!

حين يصحو الإنسان داخلنا تغيض أسباب الكراهية،وتخبو نيران الضغينة ويعلو صوت العقل،ولذا فأنا مع كل اللقاءات التي تحيي هذه الصلات الإنسانية ،ولعلي قسوت على عريقات قليلاَ،ولكن لا سبيل إلى تدارك الأمر،فقد اصبح الآن في عرض البحر،في استعراضه العبثي لإنقاذ البحر الميت..
قبل أن أفيق من أفكاري صحوت على صوت النادل واقفاً فوق رؤوسنا وسن قلمه على دفتر ملاحظاته:
- ماذا تأمرون؟وأردف بالمصري: تحبوا تاكلوا إيه عالغدا؟
يسبق عاصم ذو الروح المريحة الجميع:
- سمك من البحر الميت!
ويجيب النادل مسايراً الدعابة:
- لا..في الحالة دي..حبتان أحسن!
يشرع الجميع في إملاء طلباتهم والجرسون يدون بسرعة محاولاً ألا بفوته شيء،ويجيء دوري،فأدلي طلبي بلهجة ممتحنة أو متشككة وباللهجة المصرية:
- تعاببن بحر...فيه؟
- موجودة يا بيه..ما فيش حاجة مش موجودة عندنا يا بيه..وبكل زهو: احنا خمس نجوم يا ببه..والسادسة في السكة..
يضحك الجمبع على النكتة،ويتهيأ الجرسون للانصارف،فأستوقفه:
- سلطة يوناني..من فضلك..
- برضه موجودة يا بيه..مش حتعجزني..ثمّ مازحاً: ما تحاولش. والله لو حتى أسخّر جني سليمان..حاجيبلك طلبك..
قضينا يوماً ممتعاً ولم يفكر احد بالسباحة بعد هءا الغداؤ الثقيل،: نقيّل احسن،اقترح سالم.
وأرادت فوز أن تعرف ما دار بيني وبين الجماعة،فحكيت لها القصة باختصار،آملاً أني أشبعت حب استطلاعها المزمن،الذي لا بفارقها أبداً،فهو جزء من شخصيتها عزّزه كونهاسيدة أعمال،فمن الطببغي أن تحرص على استبفاء التفاصيل.
وفي النهاية خيرتهم إذا كانوا يفضلون قضاء الليلة في الفندق،أو العودة إلى عمان،و زينت لهم الفكرة قليلاً:
- االشروق هنا جميل إذا أردتم ان تروه..الشمس بحجمها الحقيقي...
يتضاحك الجميع على المبالغة وتهل فوز معترضة:
- من يضمن لنا أن نستيقظ على الشروق،والله عاصم لو هزّيته برجّاج ما صحا..وعاصم بعد شرحه..اش رتيك لميا..وانتو يا البنات سمعونا صوتكم..من أول الرحلة وانتو ساكتين..وترد لمياء مازحة"
- البركة فيكم!
واخيراً اتفق الجميع على العودة..وقدنا في هدأة الليل صاعدين،واعتصم الجميع بالصمت بعد هذا اليوم الطويل..



ساعة الرحيل تقترب،ستقسمنا الحياة بين الجهات من جديد، بين شرق وغرب،وكأننا فريسة الجغرافيا وضحايا التاريخ،والحزن والتأثر يرشح من قلبي ويطفو على شفاف عيني،فوز لا تخفي ارتياحها،والأولاد محتفظون بمرحهم وكأن الأمر لديهم سيان،فقد نمت الوشائج العاطفية بينننا وبينهم ،أنا والبنات وحتى زوجة أبيهم التي أظهرت من الرّقة والحنان ما أسر قلوبهم.
حجزت فوز تذاكر العودة على الخطوط الكويتية،من باب الولاء والعاطفة الوطنية،وأمضت الأسبوع المتبقي في التسوق بصحبة لمياء وإيمان وسناء،وهذه متعة النساء التي لا تضاهيهها متعة من وجهة نظرهن،وعلقت فوز:
- لا بُدّ من الهدايا حتى لا يعتب حدا ولا يزعل حدا،والأسعار عندكم معقولة وخاصة في مخيم البقعة والنخب الممتاز متوفر!ما عدا العطور وأنتهز الفرصة معرّضاً:
- كلها إماراتية..تقليد .. من جبل علي..أنت أدرى!
و ترد بكل جدية :
- لكل فولة كيّال،بضاعة شعبية،لها زبائنها أيضاً!
تعاين فوز الحقائب وتهمهم:
- يبدو أننا سنتجاوز الحد المسموح له وندفع عن الحمولة الزائدة،فوز لا بد ان تحسب في القلة والوفرة،وعلى كلا الحالين!
يتطوع فراس للقيادة،ولكني آخذ منه المفاتيح:
- لكل بلد إيقاعه الخاص في حركة السير وهو أمر يدركه السائق بالتعود حتى يصبح غريزة،الآمَنُ أن أقود أنا من باب السلامة والحافظ الله..
أتركهم بتقدمونني وأتبعهم بخطى متثاقلة إلى قاعة المطار،ولا تزول عيناي عنهم وهم يستديرون نحوي بين الفينة والفينة،ملوحين بالوداع،حتى تغيبهم أخيراً ردهات المطار.
هذا النمط من الحياة الذي فرضته علينا الحدود والقيود،متى سيختفيُ ويتلاشى إلى غير رجعة،والمشكلة أننا نتشبث به خوفاً على ما نظنه غنيمة وحياة وادعة بوتيرة منتظمة لا نود أن يزعجها طاريء او يخلخل وتيرتها.
ولا أظننا سنهرول نحو بعضنا أو نلتقي إلا على سطح سفبنة نوح فارين بأرواحنا طلباً للنجاة ،حين يفور التنور منذراً بقدوم الطوفان.
نزار حسين راشد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى