حسن حمود الفرطوسي - خطوات ميت

- إلى : خالد خشّان وأمير ناصر، صاحبي التيه


في ظهيرة التاسع من آذار من العام 1993 حدث هذا ...
حريق هائل في المخيم .. كان مشهد ما حدث لا يتلاءم مع بدائية الحياة هناك ، كما لا يتلاءم بحال من الأحوال مع مخيلتي- آنذاك- لشكل ما يمكن أن يصله الإنسان ــ كفرد أو جماعة ــ في لحظة انفلات الوتر من كل حروف سلّمه، أو في لحظة تخلي الكائن عن كل الوصايا السابقة واللاحقة، كل ما اعرفه ، أنها تشبه تخلي الألوان عن معانيها وتواريها بصمت ، وبلا أدنى إنذار مسبق .

فيما يُسمى بالخلية( 2 هاء ) التي تقع في القاطع الأول، والذي يقع بدوره في الطرف الشرقي من مخيم اللجوء القاحل ويحتوي على ثلاث مربعات ، وبدوره كل مربع يحتوي على ثمان حروف هجائية على عدد الخلايا ــ هذا ليس طلسما للسحر والعياذ بالله - بل هي خارطة المخيم فقط ــ وقد ضحكنا طويلا في بادئ الأمر على هذه الترقيمات وتعليقات ( كريم سُبوسْ ) عليها، إذ انه يجيب على من يسأله عن مكان خيمته الجديد ( آني ساكن بخلية واحد اححححح ) وقد أعجبته تلك اللازمة حتى انه بدأ يحفظ عناوين اصدقاءه عن ظهر قلب ( حمّودي زيارة بخلية واحد اب، وعزيز القدّيس بخلية واحد اززززز ومجيد أبو العود بواحد اهههههههه ) وكان ذلك بعد انتقالنا من مخيم الأرطاوية الموغل في عمق الصحراء إلى مخيم رفحاء القريب من الحدود العراقية والقريب من كل شئ أيضا ، من الحضور و الغياب ومن النفور و الانجذاب .. كان الاقتراب من العراق مثل الاقتراب من أنثى تعرف طريقها إلى الله، حتما سيلقيك في مساحة لا خيار فيها .. كما حدث في ذلك اليوم .

انتهيت من إعداد أدوات الحلاقة وبدأت احلق لحيتي، مغتنما فرصة ظهيرة مشمسة لها عبق ربيع، قلما تجود الصحراء علينا بمثله .. أكثر شئ كان يزعجني هو مشاكسة المرآة الدائرية التي كثيرا ما تتدحرج على السطح الإسمنتي الذي كان يحوّط خيمتي والتي تحمل الرقم ( 22 ) ، ثم عليّ أن أقوم بمسح المرآة بين الفينة والفينة من الغبار الصحراوي الذي أغرته نعومة ملمسها، لكني رغم ذلك، عزمت على أن أتمتع بحلاقة بطيئة تتناغم مع الدفء اللذيذ الذي تبعثه الشمس .. كان نهارا بهيّا، يجعلك تكتشف بسهولة سرّ خشية أهلنا من النهارات التي تحمل سعادة لا تحتمل .. ولم أكن قد أتممت حلاقة لحيتي بالكامل حين سمعت جلبة عالية بالخارج، جلبة يتخللها صوت مناد، يخترق الصمت والصراخ معا ..
كان حشد هائل من البشر، برؤوس شعثاء ووجوه متربة، يتقدمون ببطء إلى (.....) إلى ماذا كانوا يتقدمون ؟؟ لا ، الحقيقة أنهم كانوا يسيرون فقط، لم يكن هناك قدوم أو إقدام، بل هو مسير موحش، مسير أحياء معذبون برفقة ميت، كاد أن يكون هو سيد العزاء في المشهد كله لولا أن صوت المنادي الذي تطاول على حرمة الأموات والأحياء، التهم المشهد برمته، ليصبح السيد الأوحد وبلا منازع لعزاءٍ ليس لأحد أن يقف على قرار بداياته أو يتكهن بنهاياته .. كان المنادي الذي يتقدم الحشد بقدمين حافيتين، هو الصديق الأوحد ـ أيضا ـ لجبار اليتيّم ( الميت ) وعلاقتهم تمتد إلى سنوات خلت، إذ كانا يعملان عتّالين في أسواق مدينة الديوانية، في وطنهم الأم، لذا فقد آثر أن يعلن عن فجيعته بصاحبه بوجه اصفر، أمام الأشياء، كل الأشياء، بان جبار اليتيّم قد مات .
( يا سامع الصوووووت، صلي على النبييييييييي .. الاول محمد . والثاني عليييييييي .. هذا اخوكم جبار اليتييّم قتلووووووه .. وين النشاااااااااااامه .. وين أهل الغيرررره .. وين العراقييييين .. وين الياخذ ثااااااارك ياليتييييييييييّم ) وكلمة اليتيّم هنا، بتشديد الياء، هي إمعان في ترسيخ حالة قميئة جدا لمفهوم اليتم، لا تحويها قواميس .
سار الحشد على الطريق الذي يشطر القاطع الأول من المخيم، بين صفين من تشكيلات لخيام فقدت زواياها الطبيعية وتخلت عن أشكالها الهرمية، لتتحول أسطحها أفقية تتماشى مع أفقية كل شئ هناك، خصوصا حينما تنظر إليها وأنت على ناصية الطريق التي ارتفعت بعض الشئ عن مستوى الخيام .. كانت الخطوط الأفقية قد استحوذت على المشهد بالكامل، فكل شئ تراه أفقيا، حتى يخيل إليك للحظة أن هذه البقعة من الحياة، لا تمر عليها خطوط الطول التي تُرسم دائما على خرائط الأرض .. اقترب الحشد ككتلة واحدة، أشبه بكائن خرافي يزحف بأطراف متهدلة على جانبي الطريق .. كانت الخطوط الأفقية تحاصرني بحافاتها الممعنة وبلا رحمة، بأوجاع ليس لها حدود .. كنت أتأمل اقتراب الحشد وأنا غارق في طوفان أسئلتي : كيف للخيمة أن تتخلى عن هرميتها وتبقي على كينونتها كخيمة ؟؟
في تلك اللحظة، باغتتني إغفاءة سريعة ــ قد لا تصدقون ذلك يا أصدقائي، أن أنام وأنا واقف ــ ولكن اقسم لكم بهذا الحشد، أو هذا الكائن الخرافي الذي يتقدم نحوي، أن ذلك حدث فعلا وليس ذلك فحسب، بل إني حلمت أيضا ( ... ) رأيتني خيمة ــ من خيام رفحاء ذات الأسطح الأفقية ــ طبعا ــ ابحث عن بئر تائه في عمق صحراء وفي ذلك البئر يرقد شكلي الهرمي وحيدا، كنت اركض عطشى وكل أجزائي كانت تداعب الريح ببهجة، سوى سقفي الأفقي المتحجر، فهو ليس سوى عبء على تلك اللحظات الموغلة في الضياع .. وكنت كلما غطست في البئر لأنتشل زاويتي، يزداد عطشي وتزداد أروقتي المبتلّة يقينا ببراءتها من سقف أفقي لا يجيد سوى الانتحار أمام زوايا اللقاء في شكل المثلث، أو تلك التي في أعلى الهرم ...
حين أفقت من غفوتي تلك ، كان الحشد قد اقترب كثيرا وكنت أحاول أن أعيد تشكيل الحلم مرة أخرى، علّني أجد منفذا للفرار من مُباهلة لا تُحمد عقباها، بين أفقية الأشياء وأفقية الإنسان .
التهمني الحشد بلا اكتراث وتلاشيت في أحشاء فجوة حياة تغطيها طبقة سميكة من الموت .. كان الميّت محمولا على خشبة ــ بشكل أفقي بالتأكيد ــ ولا اعتراض هنا على أفقية جسد الميت، ولكن المحنة التي لم يكن ليدركها أي من السائرين في الجنازة، هي محنة الروح التي انعدمت أمامها خطوط الطول التي توصلها إلى الأعلى .. رأيتها... روحه... تلك التي تتعذب بتوقٍ ملتهب إلى وعاء تستقر به، تقافزت على رؤوس السائرين الواحد بعد الآخر، بعد أن أعياها الطواف وبلا جدوى من أن تجد طريقا للخلاص .
خلّفني الحشد وحيدا، واقفا في ذات المكان بلا معجزة، بيد أني رأيت جثة تُحمل بالمقلوب، قدماها عاريتان، تتصدران مقدم العزاء بحضور لا يختلف كثيرا عن حضور إقدام السائرين فيها .. بَعُدوا عني ــ الحشد والقدمان والروح الحبيسة ــ ولم يتركوا فيّ سوى غبارهم الذي اخمد الرغوة على لحيتي التي لم أكن قد أتممت حلاقتها بعد.
وحيث لم يكن غبار المسير قد حط على الأرض بعد ، إذ اندلع ذاك الحريق الهائل..ّ!! تصاعدت النيران من جهة ما من المخيم، بينما اختبأ الحريق ذاته في وجوه الناس،كل الناس ، المتجمهرين وغيرهم.. لحظة انفجار فوضى الحشد .. انه المجمعّ..!!

كان المجمّع الذي التهمته النار، يحتوي على مكتب الإغاثة الإسلامية التي كانت تتبنى مهام البريد، كذلك تحتوي على قاعات دراسية تابعة لجامعة المخيم التي انظمّ إليها الكثير من شبان المخيم .. وقاعة كبيرة تقام فيها معارض تشكيلية وفنون أخرى مختلفة وذلك المجمع كان قد أنشئ تحت إلحاح عدد قليل من مثقفين وفنانين بمساعدة مكتب مفوضية اللاجئين التابع للأمم المتحدة ومطالبة إدارة المخيم السعودية بإنشائه، فتم ذلك على أكمل وجه .. كانت النيران مثل ضال ماض ٍ بحزم في ضلاله، عاجلت الغرف الخشبية لتحيلها إلى ركام اسود بسرعة مخيفة، حتى أن احد العاملين السعوديين لم يستطع الهرب من النار، فغاب يتلوّى في اللهيب الذي أحاط به في غرفته حيث قضى.
كان مشهد النيران قد ارتسم على كل الوجوه التي خلفها انفجار الحشد، لحظة إقدام بعضهم على قذف عبوات حارقة مصنعة مما تخلفه قناني الغاز الطبيعي الفارغة من سوائل سريعة الاشتعال .. وجوه هاربة باتجاهات مختلفة دون أن تدرك سهام اتجاهاتها الأربع ، كما ارتباك سرب نمل أمام محو أثره بسبابة عابثة ..
رأيت احدهم وقد فر ّبتذبذب الحيارى لمسافات قصيرة ثم عاد إلى ذات النقطة التي انطلق منها، كانت الجهات تتقاذفه بمرارة، كمرارة أسئلته التي كان يلهج بها لحظة الضياع ( لا .. لا تحرقوها .. إسلامية!! .. حرام .. توقفوا .. لا يجوز ) وكان يقصد بالإسلامية، هو مكتب الإغاثة الإسلامية، إذ يحزّ في نفسه ألما، أن يُحرق شيئا ما يحمل هذا الاسم .. لكنه وكما هو حال الآخرين أيضا، لم يلبث أن ابتلع اعتراضه وهو يراقب تصاعد النيران في المجمّع وبدأ يتحدث مع نفسه بصوت مسموع وبمنطق يتلاءم تماما مع حالة الهدوء التي منحتها إياهم السنة اللهب بمجرد استفحالها بالاشياء والمكان ( بس ميخالف حتى إذا احترقت الإغاثة، فإلى الجحيم و بئس المصير، فهي ليست سوى مكتب للوهابية الكفار..!! )
حالة الهدوء تلك، هي ذاتها التي ألقت بجثة جبار اليتيّم خارج جامع الزهراء بعد ساعات قليلة من وجودها هناك، حيث تركها حشد العزاء قبل أن ينفجر .. أُلقيت الجثة خارج الجامع بعد أن سُمع قرع طبول بعيد وأناشيد حروب قديمة تُنبيء عن وصول أرتال من ناقلات عسكرية محملة بجنود فرقة تابعة للجيش السعودي .
ثلاثة أيام من قرع الطبول وحظر التجوال داخل أسوار الصحراء تلك ، ثمة حالة من التوجس دبت في العراء من شيء لا تُعرف ماهيته ولكنه مكروه حتما .. ثلاثة أيام تداخلت فيها أحداث وتطورات .. تحولات وتبدلات.. وردود أفعال متباينة المنطق تلاشت أمامها فكرة الوصول إلى الجثة الملقاة خارج أسوار الجامع ، كما تتلاشى أحلام لاجئو الصحارى في بئر نجاة ما ، الجثة التي بقيت لثلاثة أيام عارية على الثرى ، كعري لحظة اندلاع الحريق التي هي نواته الظاهرة ..!!

ميلبورن
14- تموز – 2005

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى