باسم أحمد القاسم - شِعريّةُ الإرادة.. وديع سَعادة و القصيدةُ الملاك

كانت الرسوليّةُ وماتزال نزعة شعريّة خطرة على حياة قصيدة النثر هذا على الأقل مايمكن أن نعتبره العنوان العريض الأكثر وضوحاً عند نقّاد قصيدة النثر الكلاسيكيّين ، من حيث أنّ هذا الجنس الشعريّ قوامه الكلّي العضوي والمتجانس في كُلّيته ، تصبغه سمة المجّانيّة أو كما يروق لبعض النقاد تسميتها ( اللاغرضيّة ) فقصيدة النثر "لا غاية لها خارج ذاتها"وفق تعبير سوزان بيرنار وحتّى ضمن التباينات القائمة حول هذا المسمّى أو تلك التي اختلف عليها العرب وهم يكتبون دفتر عائلة لهذا الجنس الشعريّ مفارقين لمحدّدات برنار ومابعدها ، وإن لم تكن المجانيّة ( اللاغرضيّة) سمةً قارّة في أنساقه إلّا أنها تبقى مرجعيّة يلتجئ إليها الشاعر ،ذاك أنّ هذه السمة يساندها من ورائها ترسانة مهمّة من وجهات النظر النقديّة والفلسفية كانت حداثيّة أم مابعد حداثيّة يبدو شاعرُ النثر مدجّجاً بها في مواجهة الشعور الذي ينتاب المتلقّي في أنّه يعاين مخيّلة لغويّة تمثيلاتها فردانيّة المآل تتأرجح بين عزلة الحضور وارتباك الغياب ، ورغم تثمين المتلقّي لأفق الجمال الذي تحصّل له من قراءة النص ، والحمولات الجماليّة التي تفيض عليه من الحساسيّة الفرديّة للشاعر المنفعلة بمحيطه والوجود عموماً ومهما أسهبنا بالحديث بحجج الاستطيقا والانفعال العموميّ الحتمي بالجميل المنبثق عن الحساسيّة الفرديّة للشاعر وبأنّ دوره مؤثّر لامحالة على ذهن المتلقّي ، مايزال شاعر النثر مطالباً بالإجابة عن سؤال يلحّ به عالم التلقي عليه وهو :
هل ثمّة نزعة شعريّة يمكن أن تتوفّر في نصوص شعراء النثر دون أن تقع في فخّ الرسوليّة بحيث تؤهّل القصيدة لتمشي إلى جانبنا ،كتفها بمحاذاة أكتافنا في يومنا المعيش الكارثيّ وتخاطبنا عوالمُها ( افعل / لاتفعل ) !
ثمّة افعل ولاتفعل خاصّة بالشعر العموديّ ، وهناك الخاصّة بشعر التفعيلة ، فهل ثمّة حضورٌ خاصٌ مُتاحٌ لهذه الثنائيّة في حياة قصيدة النثر ؟ وللدقّة والتوسّع وفق مسمّى شربل داغر لهذا الجنس الشعريّ فلنقل في حياة "القصيدة بالنثر "...
لماذا وديع سعادة * :
إن تمهيداً مهمّاً حدث في سياق تساؤلنا السابق ،قامت به موجة نقديّة فلسفيّة حديثة ضربت بقوّة مقولات البنيويّة ومابعد البنيويّة تلك التي منحت المتلقّي السلطة المهيمنة التامّة على مآلات النص الشعريّ الجماليّة ومنحته سلطة التقييم المطلقة بذرائع سميائيّة لم تضع اعتباراً لقصديّة الكاتب وكذلك جعلت من قصديّة النص رهينة حصريّة بين يدي المتلقّي ( نظريّة بلاغة الجمهور) ، هذه الموجة نذكر أهمّ من تصدّر فيها من أمثال هانس غادامير موظّفاً لأقانيم شارلز ساندرس بيرس التأويلية وآخرون من أمثال أوليفيه آبيل مستلهماً بول ريكور في جدليّاته الأخلاقيّة ، وآخرون معهم ممن وطّدوا ثلاثيّة محوريّة لفعاليّة حضور النص الشعريّ في عالم التأويل ، بحيث تقوم على تناغم لازم الحدوث بين : قصديّة المؤلّف / قصديّة النص / قصديّة المتلقّي ، دون أن يتم اسقاط إحداها على حساب الأخرى، بحيث تشتغل المضخّة التأويليّة فيما بينها لتصبّ جميعهافي خليج المعنى المفتوح لتتيح لنا إمكانيّة تلمّس وجهة الأثر الفعّال في عمليّة التخاطب ، والتخاطب الشعري بالخصوص .
لن نخوض أكثر في هذا السياق التخصّصي النقدي ولكن كان لابدّ من هذه الركيزة لمن يشاء أن يتابعها بنفسه ، فنحن بصدد السؤال :
لماذا وديع سعادة ؟ وكيف تأخذ أعماله الشعريّة المنجزة حضورَها القرائيّ العميق عبر هذا السياق النقدي بالتحديد ، فنحن مع شاعرٍ صرّح عن قصديّته بوضوح ، يُسأل في مقابلة أجريت معه في تاريخٍ قريب عن مساره الشعريّ فيقول (( الشعر في أعلى درجاته هو إعادةُ الاعتبار للإنسان وللإنسانيّة بنقائهما، وذلك لا يتمّ إلا بتحطيم كلّ ما يشوّه هذا النقاء. الشعر، بالتأكيد، هو تمرّد على كل ما هو نقيض الإنسانيّة، وهذا هو معنى الشعر عندي" ، " الشعر كشف وتجاوز وخلق وإنقاذ... وهذه لن تكون لمن لا يؤمن بالشعر ، خطورة الشعر هي القدرة على الخلق، ولو بالوهم .. على الشاعر، العربي وغير العربي، أن يبقى مؤمناً بعالم إنسانيّ يحلّ محلّ العالم اللاإنسانيّ ولو أنّه يعرف أنّ ذلك لن يحدث، عليه أن يبقى يقاوم ضدّ العالم اللاإنسانيّ، وإلا ما معنى أن يكون شاعراً؟ فهو بهذه المقاومة يؤكّد، على الأقل، إنسانيته(1)
لا شكّ أنّ هذه القصديّة لن تميّزه عن عدد لابأس به من شعراء النثر ربّما صرّحوا عن كوامنها بطريقة ما ، ولكنها تثبتها له ،وهكذا ونحن في سياق الإجابة لابدّ أن نوثّقَ مايميّزه لنخصّص هذ المستوى من الانتاج كظاهرة على مستوى قصيدة النثر العربيّة ، إنّ هذا التميّز يتجسّد في توليفةٍ غاية في الجماليّة يأخذها بعين الاعتبار بين قصديّة النصّ من جهة و قصديّته كمؤلّف لتسِمَ لياقتَه في استخدام أدوات النثر في الشعر بسمة تشكّل علامة فارقة في أعماله الشعريّة ، منذ أن ابتدأ توزيعها مخطوطة باليد على أرصفة بيروت ( ليس للمساء أخوة ) 1973 ، ورغم مواكبته مجموعة من شعراء جيله من أمثال عباس بيضون، بسام حجار، إلياس حنا إلياس، جاد الحاج ، إلا أنّ هذه السمة تتضح كخصوصيّة له تجذّرُ ملامحها في مقارباتنا الأسلوبيّة مع منجزه الشعريّ، سمةٌ تأخذ مسمًى نقديّاً متميّزاً بدأ يأخذ مساره حديثاً في توجّه عالميّ نحو بعد مابعد الحداثة وهو ( شعريّة الإرادة ) ..
فماذا عن شعريّة الإرادة ؟
يقتحم وديع سعادة في نصوصه الخصوصيّة الكلاسيكيّة لقصيدة النثر ( لاقصديّتها ) في أن يشِيع في نصوصه حضور ثنائيّة ( افعل / لاتفعل ) ويقنّن هذا الحضور بكونه ليس حضورٌلذاته وإنّما انعكاساً لظلّها ،فهويصرّح " الشعر هو انعكاسُ ظِلّ الذات وليس انعكاس الذات كلها" فالذاتبالنسبة إليه توهّمٌ تبتكره اللغة ، ويكتبُ في نصّ الغياب :
"مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب"
عبر هذا الموقف الوجوديّ من اللغة يجنح حضور هذه الثنائيّة تارةً في أن يبدو قصديّة نصّية جوهريّة :
لاتلفظ الكلمةَ الأخيرة ،لاتقل الكلمة التي في آخر الطريق
قد يسمعها أحدٌ في أوّل الطريق ، ولايعود يمشي .
وإذ تطوي الطريقَ وتضعه في جيبك ،تيقّن أنْ لا أحدَ ماشٍ
عليها ، هكذا يخفُّ حملك .
وهكذا لاتزعج الماشيين
وإن أردتّ رفيقاً ، فأيُّ رفيقٍ أعزُّ من وحدتك ؟
امش على الكلام ، امشِ على اللهاث الذي يخرج من فمك
وسترى في لهاثك طريقاً ، وشجراً أيضاً .(2)
وتارةً أخرى يتوارى في كواليس التسريد الوصفيّ بحيث يسطع حضورها مثل ظلٍّ على جدار القصيدة :
مع أنّ وعاءَ الصمتِ هو الوحيدُ يلمعُ بيننا
أعرفكَ أيّها العالم
أيّها العجوز القميء في صحن ذاكرتي.
وإنّي، إذ أتقدّم بخطى مبعثرة
إلى أبواب مودّتك المقفلة،
لا أكون ناسيًا أنّ المفاتيح
التي نعثرُ عليها في أشواقنا
هي المفاتيح الخطأ.(3)
وبينما نلجُ من بوابة قصديّة الكاتب ، تلك التي لن نعثر عليها عبر تأويل نصوصه وإنّما في حوارات أجريت معه ، في سردٍ يرافق هوامش القصيدة ، في رسائل خطّها للأصدقاء ، سنتناول قصديّة النص من الاعتبار بأنّها لا تُثبتُ في معنى الجملة والنسق المُؤّل وإنّما هي محكومة بمعادلٍ ثقافيٍّ شعريّ مبطّن مفادهُ (( لا يهمّنا ما تعنيه الجملة ، بل ما تفعله الجملة ))** ، إنّ حضور ( افعل / لاتفعل ) يشتغل في نصوص وديع سعادة على بثّ المناخ ، مناخ الإرادة في أجواء التلقّي وليس فرضاً لإرادة مقنّنة فهو يصرّح مراراً ( هذا العالم غارق في هاوية، ولن ينقذه شيء، لا الشعر ولا سواه) ، في مقابل حضور أجواء هذه الثنائيّة على طريقته تبدو قصدية النص توهّجاً فيضيّاً عبر مخيال تعزّزه هذه الأجواء لتفتح إمكانيّات جديدة لوجودنا في العالم ،في الواقع اليوميّ ولو بالوهم ، وعلى حدّ تعبير بول ريكور " يهدف الخيال والشعر إلى أن لايكونا خاضعين لنمط العطاء وإنّما تحت نمط القدرة على العطاء "
حين سألوه عن الماء تحت قدميه
قال إنّه عَرَقُ التعب
فهو من زمان يبحث عن نبع
ولم يجدْه إلاّ
في جسده.(4)
- دراماتيكيّة الفعل :
ضمن هذا المناخ يحمّل الشاعرُ عوالمَه التمثيليّة في النصّ والموازية للواقع المعيش بشحنةٍ دراماتيكيّة عالية التوتّر في تأثيرها على المتلقّي يولّدها حراك (افعل , لاتفعل ) إن كان قصداً جوهريّاً أم من وراء ستارة التسريد الوصفيّ ، وهو حراك يبدو محوريّاً في معالم عديدة مننتاجه الشعريّ تقف من ورائه قصديّة الكاتب وقصديّة النص بحيث أنّ المتلقّي يقف على تخوم إرادةٍ ما تحاكي قصديّته كمتلقّي ،حتّى في نصوص سعادة التي تأخذ منحىً لإعادة تقييم معرّفات الوجود ، فيبدو لنا وكأنّه يشيبسَكينةٍ متاحة في خضمّ مواجهة مفتوحة مع القلق :
لم أكن أملك غير هذه الأوهام. وحدها كانت ملكي. لكن حتّى هي لم تعدْ لي. فلأنزلْ إلى أسفل النبع وأغسلْ وجهي.
على البشر أن يحتفظوا بأوهامهم، أن يداروها فلا تغادرهم. سيحتاجون إليها لكي تؤنسهم.
على البشر ألاّ يزجروا أوهامهم. فَلْيحضنوها بحنان، وإلا ماذا يبقى لهم؟(5)
هذه الدراماتيكيّة تجسّدُإحدى مستويات الطاقة في الشعرٍ والخيال ، طاقة قادرة دائماً على أن تعيد فينا فتح مخطّط يجعلنا قادرين على الشعور والتمثيل والسكن في العالم ،على حد تعبير أوليفيه أونييل ، وهكذايفتح الشاعر لهذه الطاقة أقصى إمكانيات التعبير الشعري ، ، بما يتيح للقارئ إمكانية المشاركة، بل حتى إمكانية التعاطف :
بقليلٍ من الحطب المتبقّي في قلبي
أُشعل سيجارة
وأرى في دخانها رفاقي
الذين ماتوا سكارى على الطرقات
الذين عبروا النهر بلحظة واقتادوا اليباس في تجوالهم كي يكون لهم رفيق
الذين نخزوا في عروقهم أخيلةً علَّ الدم الضجر في شرايينهم لا يبقى وحيداً في الليل الطويل
رفاقي
الذين في عيونهم طرقات
وقطارات
لا تتوقف في محطَّة
الذين تركوا المفاتيح في الداخل وصفقوا الباب ومشوا
وفي بحار نظراتهم وُلدت أسماك غريبة
وصنَّارات
رموها
واصطادوا عيونهم..(6)
عند هذا المنعطف الشعريّ نسمع وقع أقدام بول ريكور في مؤلّفه " من النصّ إلى الإجراء " وفي ما أشار إليه في مؤلَّفٍ آخر سيتبعه وهو " شاعريّة الفعل " وفي مؤلّفه الأكثر أهميّة في هذا السياق وهو " الاستعارة الحيّة " وفي صدى هذه الكلمات الملهمة: "يصبح الآخر حقًا "أنت" عندما لا يكون دافعًا أو عقبة أمام قراراتي ، ولكن عندما يلدني في قلب قراري ، يلهمني قلب حريتي" (7)،وهكذا نتلمّس عند المتلقّي مدى التأثير الانفعالي من الاحتكاك بمناخات الإرادة ودراماتيكيّة الفعل ، إنها ليست قرارات ولا عقبات أو محفّزات مُفكّرة مخطّط لها سلفاً نلبسُها أناقة الشعر لنطوّع بها القارئ ، بقدر ماهي أجواء مؤهّبة تلده في قلب قراراتهالخاصّة وتلهمه قلب حريّته،وهكذا هي قصيدة النثر الناجية دائماً من فخّ الرسوليّة ، ولكن لوحده لن يشبع هذا الصفاء الريكوري فضولنا النقديّ حول الإستدامة المميّزة لفاعليّة القرائية العربيّة حتّى اليوم مع الأعمال الكاملة لوديع سعادة فهو إلى جانب ماسبق يضيف لقصيدة النثر العربيّة أفقاً مميّزاً والذي أرجّح له أبعاداً من وجهة نظري القرائيّة ، تنقل القصيدة لتكون بمثابة ملاك ...
القصيدة الملاك :
تأخذنا مناخات الإرادة في نصوص وديع سعادة نحو جماليّاتٍ فريدة يولّدها المخيال الملائكيّ بجرأته على النص في أن يكون البلاغ والمبلّغ بذات الوقت ، هو الجرح وضمادهُ ، في عالمٍ تزداد أحداثه ضراوةً مع معنى وجودنا الإنسانيّ ، يقول (الشعر جرح والفن جرح. إنهما جرح وفي الوقت ذاته وهْمُ تضميد الجرح. وهذا الجرح، نعم، هو الذي رسم مساري الشعري)، وعليه فإنّ ملائكيّةُ هذا المخيال تتجسّد في أنّه لايكتفي بـ تشييء مايعتمل في ذواتنا من مجرّدات يفرزها الواقع المعيش بكارثيّته وتوحّشه و تمثيلها في موضوعات ، بل إنّه يمنحنا يقيناً غيبيّاً عن مآلاتها مثلما الغيبيّات الإيمانيّة التي قد نقرّ بها فقط لأنّها تهدّئ من روعنا نحن السائرين حتماً إلى قدر الموت ، وعلى حدّ قول راينر ماريّا ريلكِه " لا يمكن أن يكون ما هو رهيب حافلاً بالتنفير والسلبية الى الحدّ الذي يمنع النشاط المعقّد للعمل الخلاّق من أن يصنع منه، بمعونة فائض ايجابيّ كبير، دليلاً على الوجود، إرادة في الكينونة: ملاكاً " (8)
من هذه الزاوية يمكننا النظر إلى البنية التخيّليّة في نصوصه كيف تزخر بالتمثيلات الموضوعيّة ، الشجر ، النهر ، الحقول ، الفصول .. رغم الإقرار بتأثير النشأة في قريته شبطين إلّا أنّ هذا النزوع يستلهم حضورَهُ الفعّال من قصديّة النصّ في بث مناخات الإرادة المرافقة لآفاق التوقّع الجماليّة اللامحدودة عند المتلقّي :
هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصًا تحدثتُ إليه طويلاً، ثم ذاب!
ولا أحاول الآن النظرَ إلى ماء بل استعادةَ شخص ذائب.
على سطح البحيرة ورقة، كانت عينًا. على الضفَّة غصن، كان ضلعًا بشريًا.
أحاول الآن جَمْعَ الأوراق والغصون. أحاول جمع شخص كنت أحبُّه.
لكن مرَّ كثيرون من هنا، جمعوا ورقًا وحطبًا ليشعلوا مواقدهم.
لن يتمَّ أبدًا جمْعُ شخص. لن يتمَّ جمع أعضاء كاملة. كثير منها احترق.(9)
الملائكيّةُ تمنحُ المخيالَ سِمَتَها حين يرمّم صدوعنا الداخليّة ويعلّلنا عبر أداءٍ مشهديّ يحقّقُ الاختلافات الخياليّة تلك التي يعمل بها الأدب على الواقع ، موهمٌ ولكنّنا نثمّنهُ ، نقدّسه لفائض الإرادة الذي يولّده فينا لنستمر، يستبدل في القصيدة ذات الشاعر بظلّها ،وجوديٌّ وكأنّه حاصلٌ لامحالة ، ويوغل الشاعر أكثر بتأثير هذا المخيال على قارئه في نصوص عديدة من منتجه الشعريّ حين ترتدي فيها لغته رداءً من العفويّة العموميّة في خضمّ أسلوبيّته العاطفيّة وهو يتنقّل بين الأنا والآخر في تبادل بينهما للأدوار ، وكأنّ القارئ يعاين إرادةً ما جمعتهما في قدرٍ واحد ، فيبدوان كمن يلوّح بمخرز لغته من بعيد لعين اللاإنساني الذي بات يحاصرنا ، فلابدّ أن يبتكرا في مواجهته إرادةً ما ، وهْماً ما ، لغةً ما :
ابسط نظرتَك على الأرض واجلس عليها
استرح في عينيك
في العيون مقاعد ، اسحب كرسيّاً من عينيك واجلس عليه
قديماً ، مرّ متعبون كثيرون وقعدوا في عينيه ، استراحوا قليلاً من
سفرٍ طويل ، ثمّ تابعوا المشيَ على نظرته
... امشِ وانتظر أن تنظر إليك عينُ عابرٍ آخر ، فلعلّك تقعد وتستريحفيها .(10)
تالياً لما سلف ، لعلّ عتبةً واضحة توفّرت لنقف عندها ونقول :
تبدو حياةُ قصيدة النثر وهي تبحث عن انبعاثاتٍ جديدة تمنحُها صيرورة واستدامة كمُنجز أدبيّ يتربّع على قمّة الإبداع الحرّ المتفلّت من التنميط ، تبدو ملزمةً بالعثور دائماً على ذاك الذي يبلبل مقدّراتها وإمكاناتها كلّما جنحت للاستسهال والركودة ، أفرادٌ قلّة في عالم الشعر العربي حقّقوا لها هذا المراد عبر لياقات شعريّة مارسوها ببراعة باتت موسومة بهم ، وفيما سلف من قراءة نحاول أن نضيف زاوية جديدة إلى زوايا قرائيّة عديدة ومغايرة تم النظر عبرها من قبل النقّاد إلى مُنجز وديع سعادة الشعريّ ، ولكنّنا نضيفها كقراءة ثقافيّة تفتتحُ فرصة حيويّة تجدّد نظرتنا لقصيدة النثر وهيتتناول لياقةً شعريّة أعتقدُ أنّها واسِمةٌ لما أنتجهُ شاعرٌ من أيقونات قصيدة النثر العربيّة عبر لياقة نصّية ليست اختلافيّة وحسب بل هي من الجدارة بمكانٍ يجعلها الأكثر جرأة على النمط لقوّة الدافع الكامن من ورائها ، ليس دافع وفّرته نظريةٌ نقديّة أو مقولات التحديث ، إنّما هو دافع الواقع المعيش بكارثيّته وتوحّشه ذاك الذي اجتاح قلاع وجودنا الإنسانيّ وهاهو يقرع باب الإبداع الإنسانيّ ويهدّده بأن الموات والهراء في الطريق إليه أيضاً ! ربّما فيما سلف من قراءة ثمّة ردٌّ بطريقة ما على هذا القارع ..
حين سُئل وديع سعادة عن قضايا النقد والنقّاد التي تناولت أعماله الشعريّة الكاملة ، أوضح أنّه ليس في موضع يسمح له بتقييمها أو الاشتغال عبرها فهي ليست في حساباته قبل الكتابة وأثناءها ، ولكنه ترك لنا إفادة تقول: " أعتقد أن القصيدة هي التي تخلق نظريتها وليس العكس."

باسم أحمد القاسم شاعر وناقد / سوريا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
* شاعر لبناني / صدر له عن الهيئة المصرية العامة للكتاب «المجموعات الشعرية» الكاملة 2021
حاصل على العديد من الجوائز، أبرزها جائزة الأركانة العالمية، عام 2018
** نقد استجابة القارئ "المعنى بوصفه حادثة" ستانلي إي –فيش
1- نشرت المقابلة في جريدة الاتحاد الإماراتية 2018 حوار عبير زيتون
2- من مجموعة "قل للعابر أن يعود"
3- من مجموعة "ليس للمساء إخوة"
4- من مجموعة "رتق الهواء "
5- من مجموعة" نصّ الغياب"
6- من مجموعة "من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب ؟"
7- من كتاب "المتطوّع واللاإرادي" بول ريكور
8- من رسائل ريلكه إلى البارون فون أوكسكول1909 م
9- من مجموعة "محاولة وصل ضفّتين بصوت "
10- من مجموعة" قل للعابر أن يعود"

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى