مي يوسف الحاج - معاً نستطيع..

أشعر بأن حلقي قد تشقق من كثرة الصراخ و النحيب و عينيَ التهبتا من كثرة البكاء و ذرف الدمع الغزير ، جلست القرفصاء مستندة بظهري على جدار شرفة مطبخي المطل على منور البناية التي اقطن بها ، اغلقت بابها الزجاجي و تركت من بالبيت و العالم كله خلفي كي أنفث أوجاعي و ما أشعر به من ألآلام نفسية في هذا المنور الذي يشهد كل فترة و الثانية تفجير عصبيتي و ما يختلج في نفسي من ضيق و قلة حيلة ، فالبرغم من تقبلي و رضائي بقضاء الله و قدره إلا أني لم أعد أستطيع تحمل كل هذا العبء وحدي ،، أحن إلى فجر مشرق أبيض يجوب دروب أفكاري المشوشة ، أريد الفرار عبر أسوار الوحدة المسربلة بسرابيل من عذاب و معاناة إلى فسحة من الهدوء و الأمان النفسي ، ،فأنا لم أذق حلاوة طعم النوم و الراحة منذ سنوات و لم تعرف البسمة طريق وجهي ،، صحيح أن زوجي ” أحمد ” معي و يساعدني على قدر إستطاعته لكنه لا يتواجد دائما خصوصاً في اللحظات الحرجة بسبب ظروف عمله . تزوجت ” أحمد” بعد قصة حب رائعة تواعدنا بعدها على الوفاء و الإخلاص و الوقوف مع بعضنا البعض في الشدائد مهما كانت الحياة خصوصاً بعد معرفته بحقيقة مرض والدتي الحبيبة المستعصي الشفاء منه ،، مرض ” الزهايمر ” ذلك المرض الصامت الذي إستعصى الطب إلى الأن عن إيجاد الدواء المعالج له ،، مرض يدمر خلايا المخ تدريجياً و يتطور إلى أن يصيب الشخص بفقدان الذاكرة نهائياً حتى أنه قد ينسى أقرب الأشخاص له ، يدخل في حالة من التوهان الذهني و تضطرب أجهزته الحيوية ، لا يستطيع عمل أي شئ دون مساعدة حتى في أبسط الأمور، و الأدهى أنه قد يتعرض للضياع في حالة خروجه من المنزل بلا مرافق له .
كل تلك الأعراض و غيرها الكثير عرفها ” أحمد ” و استوعبها قبل زواجنا و تعهد برعاية أمي و مساعدتي قدر إستطاعته . مرت سنوات زواجنا الأولى بقدر من المعاناة المحتملة فحالة والدتي الصحية تتغير من حين لأخر، أحيانا تكون جيدة و أحيانا متردية ،،إلا أنها كانت قيد السيطرة إلى حد ما . وهبنا الله إبننا ” شادي ” الذي كان بمثابة طوق نجاة لي أتعلق به لإنقاذي من تلاطم أمواج حياتي الهادرة أملة أن يوصلني لبر الأمان و يعوضني ما فاتني ،فأنا أفتقد أمي الحنونة جداً أمي التي كانت نبراساً يضئ أنوار ظلمتي و ملجئي الوحيد و القلب الذي يذوب رقةً و عطفاً و أصبحت الأن في عوالم أخرى بعيدة عني لا أدركها ،،،إلا أن القدر كان يخبئ لي ما هو أكبر من طاقة إحتمالي فقد إكتشفنا و نحن في عز فرحتنا و إحتفالنا بعيد ميلاده الثاني بإصابته بمرض “التوحد ” هذا المرض العقلي الغريب الذي مازال العلم أيضا يجهل سبب الإصابة به و كيفية حدوثه . لاحظت عليه ضعف الإدراك و تأخره في المشي و النطق مقارنة بأقرانه و بمرور الوقت إزدادت حالته الإدراكية سوءاً فلم يعد ذلك الطفل الهادئ و أصبح مزاجي و أكثر عصبية خصوصاً إذا ما أخذ منه أحدهم سيارته الخضراء الصغيرة أو حركنا أي قطعة أثاث في المنزل .، ويبدأ في الصراخ و الضرب على رأسه بشكل هيستيري ،،كما إن الأصوات العالية تزعجه جداً ، أذكر أنه في المرة الوحيدة التي إصطحبته معي فيها إلى حفل زفاف صديقتي المقربة التي أصرت على حضوره لحبها العارم له و رغبتها في تواجده معنا فأنا لا أصطحبه في خروجات عامة أبدا فبسبب مرضه و سوء حالة والدتي نادراً ما نخرج لنرفه عن أنفسنا و لو قليلاً و نفضل أن نظل حبيسي المنزل خوفاً عليهما ، و يا ليتي لم أصطحبه معنا فبمجرد أن خفتت الأضواء و بدأت الموسيقى الرومانسية معلنةً بدء رقص العروسين حتى إنتابت ” شادي ” حالة من الهياج و الصراخ بصوتٍ عالٍ لفت إلينا أنظار الحضور و أخذ يتمرغ على أرضية القاعة و يتشنج غير عابئ بمحاولاتي أنا و والده على تهدئته و بصعوبة إستطاع ” أحمد ” حمله و خرجنا من القاعة و نحن نعتذر للجميع عما بدر منه و طبعا غالبيتهم عذرونا لمعرفتهم بحالة ” شادي ” لكني لم أستطع إستيعاب هذا الموقف المحرج و غيره من المواقف الكثيرة التي أتعرض لها معهما .
شعور صعب جداً أن تجد أحب الناس إليك بهذه الحالة ،، ألم مزدوج في رؤية شخصين عزيزين يفقدان أدنى الإمكانيات الجسدية الحركية و العقلية ،، مرض أمي ينهش جسدها و يفتك بعقلها كما أن ” شادي ” لا يقل عنها و كلاهما يحتاجان من الإهتمام و الرعاية و قبلهما من الصبر الشئ الكثير.
أخذت أمي ذات يومٍ مشرقٍ إلى شاطئ البحر لكي تغير روتين حياتها وتستمتع بصوت الأمواج تتكسر على الصخور و رؤية طيور النورس الرائعة و هي تحوم فوق المياه و لكي تفرح قلبها قليلاً و تحاول إنعاش ذاكرتها لعل و عسى ،، فقد أصبحت أمي غير قادرة على الحركة إلا بكرسي متحرك ، شعرت بفرحتها العارمة لرؤية البحر و إستنشاق هوائه . كانت أشعة الشمس الدافئة تنعكس متلألئة على موجه الأزرق الصافي مما أعطى لعينيها توهجاً جميلاً براقاً و لاحت من ثغرها إبتسامة ألبستني الحب و الحنان، شعرت بها إبتسامة إمتنان أنني جئت بها إلى مكان عشقها الأول و صديقها القديم و معقل ذكرياتها البعيدة ،، خلعت لها “صندلها” الوردي و أنزلت قدميها الصغيرتين من على حامل القدمين في الكرسي المتحرك و وضعتهما على الرمل الاصفر كي تتحسس نعومته و تنعم ببرودة موج البحر و هو يلثم قدميها من حين لأخر ،، لم يكن يصدر منها تجاوب واضح مع المنظر الخلاب الذي طالما أفرحها و أدخل السعادة على قلبها أو مع برودة الماء إلا برجفة خفيفة تحدثها أصابع قدميها كل حين مع وصول مياه البحر لها . جلست صامتة ذلك الصمت الظاهري الذي يشئ ببركان يكاد ينفجر فقد إزدادت عصبيتُها الفترة الاخيرة بفعل تفاقم مرضها الذي يكبلها و زاد عليه إصابتها بمرض الضغط و السكر. إلتفت قليلاً لأتناول لها وجبة غدائها من حقيبة الرحلات و لم تدم تلك الإلتفاتة سوى لحظات فقط حتى فوجئت بسقوط أمي من كرسيها و أخذت تبكي بحرقة و تضرب بغضب على المياه و تغرس يديها في الرمال الناعمة تريد خنقها فهي أصبحت تعيش في بحر من الأوهام ،، و تنام تحت سطح من الأحزان لا تدركه و لا ندركه نحن معها مهما حاولنا فهمها و مساعدتها ،، لملمت شتات قلبي الموجوع عليها و ساعدتها على الرجوع لكرسيها ، قبلتها على وجنتيها و احتضنتها مربتتة على رأسها مهدئة لها ، تبادر لذهني أنها ما أرادت إلا الوقوف والسير على رمال الشاطئ كعادتها ،، كان موقفاً أخراً صعباً جداً و فوق إحتمالي . دائماً ما أتسأل و أنا أنظر لأمي الحبيبة و إبني الغالي ” شادي ” ماذا يجول في رأسيهما و بما يفكران و ماذا يخفي لهما القدر ؟؟ إنه إبتلاء لهما قبل أن يكون لي ،،فمرض أمي يزداد قسوة وتحتاج كل جهد و وقت مني بالإضافة لمرض ” شادي ” فالمرضين من الأمراض الصعبة والمكلفة مادياً جداً . أنا أعرف ذلك جيداً لكن الوضع مؤلمٌ جداً فبالرغم من أني و الحمدلله في كامل قواي الصحية الجسدية و العقلية إلا أن طبيعة مرضهما تلك من الصعوبة بمكان و مراعاتهما ليست بالأمر اليسير أبداً وهذين المرضين بالذات تقريباً إستعصيا على أمهر الأطباء و العلماء و مازال العلم الحديث يسعى حثيثاً لإيجاد العلاج الناجع له و القضاء عليه ،، لكنها ماتزال تجارب تجرى و الأمل في الله كبير .
المهم الأن واقعنا الحالي ،،و واقعي أنا مع معاناتي تلك و كيف السبيل للخلاص منها ؟؟!! كيف السبيل للخلاص منها!!!! ما هذا السؤال الذي أسأله لنفسي ؟!! يجب أن يكون إيماني و عزيمتي أقوى من ذلك فأنا كل مالديهما الأن و لا يثقان في أحد غيري و لا يرتاح قلبيهما و يضعان رأسيهما على وسادتهما للنوم ليلاً إلا و أنا إلى جوارهما و سرعان ما يغرقان في سبات عميق غلى حين .
هنا إنتبهت لنفسي و أنا لا أزال جالسة في شرفة مطبخي و قد تسلل الخدر لروحي قبل جسدي المنهك و واتتني لفتة إلى باب الشرفة الزجاجي فوجدت أمي بكرسيها المتحرك يقودها عزيزي ” شادي ” ينظران لي بنظرات كلها تساؤل و حيرة ماذا ألم بي و ما كل هذه الدموع و هذا الحزن !!!!
روحهما الأن لها وجهان متناقضان ،، وجه ينبئ بالتعب و الوهن الشديدين و وجه يوهبني قشعريرة دفء تسري في دمي ، مسحت دموعي و أعتلت وجهي إبتسامة عريضة و وقفت أفتح لهما الباب و أحتضنتهما بمودةٍ و حبٍ عارمين عازمةٌ على مواصلة مشواري معهما .

مي يوسف الحاج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى