إيثار عبد الله يوسف - دم اليـــــاسمين!..

عند أسوار قرطبة جلستُ ذات صيف إلى عرافة غجرية، اخذتْ تتفحص خطوط كفي الممتدة امامها بدقة ثم رفعت عيونها الكبيرة الحادة ترمقني في تعجب. كانت ترفع سبابتها اليسرى وهي تحاكي تقاسيم وجهي في صمت، رسمت في الحيز الصغير بيني وبينها فراغا محدبا ثم لمست ندب طولي قديم على جبيني.
وكمن يلقي تعويذة مخيفة بدأت تؤرجح رأسها يميناً ويساراً وهي تدندن. كنت أرقبها في صمت متوجس وإن بدت لي تؤدي فاصلا مسرحيا من ميثولوجيا عقائدية لا أؤمن بها!
سألتها ساخرا: ماذا بكفي أيتها السيدة ؟
لم تجبني وإن واصلت تهويمها البدائي ذاك وزادت عليه دندات موقعة.
ثم أخيراً تركت كفي وأمرتني بالنهوض .
قلت متعجبا: وبعد؟!
قالت: في الصيف يكون زيوس حليفك يرسل لك فينوس بسهم كيوبيد ليصعد بك إلى أبولو!
ضحكت من خطرفاتها وهممت بالنهوض، إلا أنها اردفت ثم يجيء مارس بكف فولكان فيضربك ، ذاك يكون شتاء ألمك الكبير! أنت ابن أبولو، صنيع أثينا يابني فلا تبالي!
قالت ذلك وطأطأت رأسها كمن يستمع لصوت الريح القادم من سفوح سييرا مورينا أمامنا ثم أشارت نحو القمة المكسوة بالضباب.
صوتها كان هادئا عميقا ومتوعدا: هناك مرقدك مثلما كان انبثاق نجمك.
سوف تعود لتعزف لحنك هنا يا زرياب!
علتني الدهشة والخوف حين نطقت اسمي العربي صحيحا موقعا مثل نوتة موسيقية حزقة ولم أكن قد اخبرتها به قط.
اذكر الأن تفاصيل وجهها المجعد وعينيها الباردتين حينما أدخلت يدي في جيب معطفي واخرجت العشرين بيزيتا التي اتفقنا عليها سلفا، إلا أنها رفعت يدها بعلامة لا أريد! تعجبت منها ومن تصرفها ذاك وهممت بسؤالها عن سبب رفضها لأجرتها إلا أنها لملمت حاجياتها عن المنضدة الخشبية وغادرت في ارتباك واضح.
مضت على ذلك الصيف القرطبي سنوات عدة لكنني لم أنس قط وجه الغجرية العجوز بعيونها الحادة وكلماتها المبهمة وهي تكتب على راحة يدي حروفها الرملية المبعثرة.
– في الصيف يكون زيوس حليفك، يرسل لك فينوس بسهم كيوبيد!
– في الشتاء يجيئك الألم، ثم تعود لمرقدك في سفوح سييرا مورينا.
– أنت
– أنا
– زرياب!
يقطع صوت الموشح حبل أفكاري فأعود لصالة الدرس من جديد.
صخب الدارسين، قرع دفوف تتعالى، بحة ناي خفيضة، رنة عود حزين يهمي كما المطر.ثم تنشد الأصوات معاً:
جادك الغيث إذا الغيث همى … يازمان الوصل بالأندلسِ
لم يكن وصلك إلا حُلمُا… في الكرى أو ُخلسة المختَلِسِ.
كنت حين رحلتنا الأولى إلى قرطبة ابلغ السابعة إلا قليلا أبي أحمد بن زين الدين رجل شاعر أديب، نال درجات عليا في الأدب العربي وعمل بكد في جامعات بنزرت وسوسة وسيدي بوسعيد، كنا نتنقل معه من جامعة إلى اخرى وكنت سعيدا في كل مدينة تونسية اقمنا بها. أصول والدي تعود إلى مدينة سيدي بوسعيد الزرقاء الناصعة، لازلت أحبها وأحب الياسمين الذي يكلل شرفاتها. إلتقى أبي وأمي على شط بحرها فقامت للحب مدائن بينهما. أمي مستشرقة اسبانية كانت تدرس الفنون في أكاديمية سيدي بوسعيد وهكذا التقيا وتزوجا وانجباني في فضاء المدينة الجميلة. أنا ابنهما البكر ووليد الحب الذي تبرعم مثل نبتة الياسمين ثم كبر وأذهر فأخرجني بشراً سوياً.
بعد مولدي بأربعة أعوام أتت اختي خُزامى ثم تلاها أخي زين الدين فقرر والداي الهجرة إلى موطن أمي بحثا عن وضع أفضل لنا.
انضممنا إلى عائلة أمي في قرطبة، والحق يقال لم نشعر بأننا غرباء بينهم، فنشأنا أصحاء سعداء ننعم بالحب من الجميع.
استقر أبي في جامعة قرطبة العريقة وواصلت أمي فنها الجميل. اذكر كيف كنا في الأمسيات حين نجتمع على الشرفة المضيئة، كان أبي يلقي أشعار بن زيدون وأمي تعزف علي القيثارأو ترسم من وحيها رسماً جميلا. تعلمت من والداي احترام الفن وأجدت الشعر والرسم والحب أيضا. إلا أن عشقي الأكبر كان لآلة العود. كنت شغوفا جدا بتعلم العزف على عدة الآت موسيقية فاهتم بي والداي والحقاني بصفوف الموسيقى منذ طفولتي الأولى في سيدي بوسعيد. وهكذا تفتحت على الدنيا أحمل اسم يطابق قدري.
في قرطبة واصلت دراسة الموسيقى الشرقية على يد أعظم اساطينها، تتلمذت على أيدي النخبة، فظهر نبوغي بيناً وذاع سيطي حتى وصل بلاد النور.
اذكر وجه أبي حينها وهو يحمل لي رسالة الكونسيرفوتوار- دي باريس، كان يضحك ويبكي وقد ارتجفت اعطافه كلها في سعادة عظمى. احتضنني وقبّل رأسي.
قال: أنت زرياب.عبقري الفن. أنت فخري يا بني!
كلمات أبي تلك ودموعه هي ما أوصلتني لصهوة المجد في مدينة النور، كنت أصعد من درجة إلى اخرى ومن نجاح لنجاح أعظم. حتى تربعت على عرش الموسيقى الشرقية في المعهد العتيق. اصبحت المرجع الاول والمستشار والقائد وكل شيء تقريبا. حياتي في باريس لم تختلف عن قرطبة في شيء وإن افتقدت جو الأسرة بدفئها وحنانها العميم. على العموم ما كنت انقطع عن قرطبة كثيرا، كنت أرجع اليها بين كل فينة و أخرى فاشحن روحي بطاقة الحب ثم أعود.
كان طبعي صموتاً هادئاً منعزلاً، وكنت لا أجد راحتي إلا برفقة العود ونوتات الموسيقى فحسب. فلم تنشأ بيني وبين طلابي أو زملائي أي علائق مودة جارفة وإن كنت أحظى بتقديرهم واعجابهم الكبير.
أذكر انه في بداية الصيف كانت لنا دورة دراسية جديدة فقمت بكل واجبي من تسجيل ومعاينة وتحديد مواعيد المحاضرات وغيرها من أعباء ثم هممت بالانصراف لتناول غدائي حينما سمعت صوتا ناعما ُمذهّبا كأنه قادم من أبواب الفراديس!
– بنجور مسيو
رفعت رأسي إليها فتلعثمت وهتف قلبي بما يشبه النشيد.
قالت: اسمي صوفيا واعتذر عن تأخري في التسجيل لدورة العود الجديدة. رحبت بها كعادتي بابتسامة جزلى فجلست ِقبالتي تمليني بياناتها.
كان كل مافيها موقعاً مثل موشح أندلسيّ عتيق. قامة ربعة لدنة، شعر كسنابل الذهب، عينان بريئتان عجولتان كأن نهر السين قد صب فيهما كل مياهه العميقة الزرقة! وفوق هذا وذاك صوت ساحر أخاذ كأنه صوت ملاك طروب. كانت تنطق الفرنسية كما ينبغي وعلى أصولها دون تكلف أو صنعة. ففطنت لدربتها أو رقي ثقافتها.
سألتها إن كانت درست الموسيقى من قبل؟
قالت: أنا أغني منذ كنت في المهد صبية! درست كل موسيقى الشعوب وسافرت لعدد غير قليل منها وأحببت الموسيقى الشرقية جدا. أنا هنا لأستزيد واتخصص في فن الموشحات.
رمقتها باعجاب بيّن وهي تنطق كلمة موشّح بعربية سليمة. ضحكت خجلى فبان صف اللؤلؤ المنضود بثغرها. أحسست حينها كأنني ثمل، وكأن جسدي وضع على ثلاجة موتى مغلقة. أما قلبي فأخذ يقفز من صدري وصوت دويّه يتعالى.
تحدثنا كثيراً كثيراً حتى شارف الليل على القدوم، كنا نتكلم عن كل شيء معاً ونصمت معاً، تقاطعني لتقول ما كنت أود قوله! لم أحس بالضجر ولا بمضي الوقت معها وإن أحسست بأنني فقدت مغلاق قلبي.
ليلتها لم أنم حتى بزغ الفجر.
ياليل الصب متى غده؟ اقيام الساعة موعده
رقد السمار فأرقه أسف للبين يردده
فبكاه النجم ورق له مما يرعاه ويرصده
كلف بغزال ذي هيف خوف الواشين يشرده
نصبت عيناي له شركا في النوم فعز تصيّده
وكفى عجبا أني قنص للسرب سباني اغيده
في الصباح تأنقت، لبست افخم ثيابي رغم التزامي الصارم ببساطة الملبس وضعت وشاحي المقلم وتركت شعري مجعدا كما كان. تأملت ملامحي مليا في المرآة ولأول مرة منذ زمان طويل أجدني مهتما بتقاسيم وجهي هكذا، أخذت أرمق تفاصيل تجعيدة صغيرة بركن عيني الأيمن، ارفع خصلة ناشزة عن اذني، أتتبع تفاصيل الندب الطولي على جبيني ثم ألتفت لأرى انعكاس منظاري الطبي من الجانب!
تعجبت لكل ما يحدث لي إلا أنني كنت أعرف تماماً ماذا اسميه!
خرجت مبكرا حتى دون أن اعد إفطاري الصباحي أو احتسي قهوتي، كنت متلهفا نزقا وبي عدة احاسيس تمور وتضطرب. دلفت نحو مكتبي وأنا احمل عودي وحقيبتي وعدة نوتات موسيقية وقبل أن اخطو إلى داخله بدأ قلبي وجيبه ذاك وشممت رائحة الياسمين تضوع من خلفي. إلتفت بكلي مبتسما فانزلقت الأوراق متشتتة على الأرض وسقطت الحقيبة والعود كذلك. اقتربت مني وهي تعتذر ثم انحنت بتواضع جميل تلتقط أوراقي المتساقطة. كان كل شيء فيها يقول هاهو ذا قد اقبل الحب اليك!
بعدها لم نعد نفترق إلا لماما، في قاعة الدرس كنت انظر إليها فتضرب الوتر الذي اقصده تماماً .أرفع رأسي متسائلا فتقول : حجازي، أطرف بعيني فتشير نهاوند، كانت سريعة الفهم لبيبة الخاطر فأخذت عني ماتعلمته أنا في سنين وتعلمته في شهر ونيف.
كنت اصطحبها دائما ومنذ عرفتها إلى كل مكان يدعونني إليه، صوفيا هي روح المكان، شارات بهجته، ضوء قناديله. قلت لها ونحن نقطع ميدان سان ميشيل راجلين: حدثيني عن الحب يا صوفيا ؟
قالت : هو قدر مثل الموت والميلاد، نحن لا نختار أقدارنا غالبا ولا نستطيع أن نختار من نحبهم ومن نكرههم كذلك.
قلت لها : أحبك
– أعلم لأني أعرف قدري
– تزوجيني.
– دعنا نرى ماتسفر عنه الليالي.
– نغني في الشتاء لقرطبة.
– ولزرياب ؟
ضحكنا معاً فغنت لي :
يا لائمي في هواه – والهوى قدر
لوشفك الوجد لم تعذل لم تلم.
مرت أيامي معها كأجمل مايكون كانت معي مثل روح تحل ببدن تحركه كيف شاءت، تعبث به حينا فتحييه وتجدد نشاطه ثم تتركه لوقت اخر فينام ساكنا مطمئناً.
أتى الخريف وبدأ المطر يهمي وأزفت اوقات الامتحان الأخير. وكالعادة ينشغل كل طالب في هذا الوقت بإعداد موشح رمزي لتخرجه.
سألتها إن كانت تود مني مساعدتها في اعداد موشح بحثها الأخير، رفضت في إصرار وقالت لي سأذهب عند أمي في نيس وسأعد لك مفاجأة! سترى مايدهشك- يجعلك تفتخر بتلميذتك صوفيا!
حين وصلنا لبوابة المعهد كان الربيع مغادرا والتواشيح تحمل مظلات لمطر ليلي مباغت قالت لي وهي تودعني اجعل عينيك على قلبك وتذكر أنني هنا، أشارت نحو قلبها ثم لوحت لي وغادرت.
انهمكت في الاعداد وأرهقني البعد عنها قلت لن أزعجها أبدا لنرى ما تزعمه من مفاجآت ، كانت تغلبني مشاعري حينا فأهم بمراسلتها ادير رقمها على هاتفي فأراها متصلة.أضع الهاتف جانبا وأبتسم ثم انظر إلي قلبي كما أوصتني.
مرت شهور الخريف بقتامتها ومياه امطارها البغيضة تلك وحان حلول الشتاء
كنت أترقب مجيئها في الصقيع، انتظر موشحها ومفاجآتها. بقي يومان فقط على الامتحان وبدأ بعض الطلبة يتوافدون عليّ طلبا لبعض الأرشاد. كنت متبرما قلقا على غير العادة. ظننتها ستتصل بي. ظللت أترقب الهاتف بين الفينة والاخرى لكنها لم تتصل قط .
في المساء نظرت لقلبي فبدا ملتاعا على نحو غريب، رفعت هاتفي واتصلت برقمها أتاني صوتها ضاحكا ومعابثا قالت لي: أنا في قطار الأنفاق وأقترب من مجيئي إليك.انظر إلى قلبك لتراني! وقبل أن تكمل جملتها هذي سمعت صوت دويّ هائل، زلزال عنيف ثم صمت كل شيء.
أحسست بقلبي يتصدع وبروحي تحلق مثل حمامة جريحة، كنت في كامل وعييّ وأنا أرى وجه صوفيا يتداعى، يسيل الدم من سنابل شعرها فيضوع عطر الياسمين.
لم أعي بعدها ولم أعرف ما حدث إلا بعد مرور أيام على ذلك. قلبي كان يعرف أنها رحلت وروحي كانت تنقاد لمشيئة ذهابها كمن لا تبالي!
على نشرات الأخبار، وفي مانشيتات الصحف الباريسية كلها رأيت الدماء والأشلاء، رأيت أعواد تتهشم على مقام حجازي ونوتة وحيدة تتمزق وتطير في الفضاء بفعل رياح ديسمبر الثائرة.
حينها سمعت صوت العرافة الغجرية، كان هادئا عميقا ومتوعدا
في الشتاء يجيئك الألم فتعود لمرقدك عند سفوح سييرا مورينا!
هاهي الذكريات تتداعى وقد مر عام على ذلك وهانذا أشد وتر عودي الخامس واكتب موشح دم الياسمين على سفوح سييرا مورينا.
لكن ماباله اليوم قلبي يعود لوجيبه الماضي؟!
رفعت رأسي كمن يستمع لصوت الريح قادما من سفوح سييرا مورينا فتدحرج العود من يدي ورقصت مع صوفيا رقصة الحب الأخيرة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى