محمد خضير - سعادات خاصة

يصعب الحديث عن "سعادات" القاص باسم الشريف، خارج نطاق اهتمامه اليومي بشقاء الآخرين وأحزان زمنه ومشكلات فنّه الذي يزاوله بجدّية تقرب من الصلاة. إنها مراحلُ متزامنة مع الكتابة والحياة اليومية المتقلبة بين الفرح والحزن، ومتوالية كتوالي نضوج التَّمر في الأعذاق والتهيؤ الموسمي لقصّه وتعبئته وتسويقه. القَصاص (بلغة أهل النخل) يتراوح موسمُهُ ومواسم القِصاص (بلغة أهل القرآن) يزيح أحدُهما الآخر (بلغة أهل التأويل) مفسِحاً المجال لموسمٍ من مواسم القصّ (بلغة أهل السرد) . فإذا أشارت قصصُ باسم الشريف لمكان السعادة، فإنما تشير في الوقت نفسه إلى واحدٍ من مواسم قَصاص التّمر واختلاط الفلاحين القاطفين بالعمال الوافدين من جهاتِ أعلى النهر المحيطة بالبساتين، وإلى نوع من قِصاص رأسِ المال الزراعي يحلّ بأُجَراء الأرض كذلك. آنذاك يختلط سرُّ النخل بسرّ الكتابة، هذان اللذان اختلطا في كتابة الجاحظ ورهط كتّاب الأسواق المزدهرة بأختام التجارة و"أعشار" السفن بلغة ذلك الزمان وكلّ زمان، وبكدح الأقوام من الزنج والزطّ والفلاحين. ومثل اكتظاظ شطّ العرب بسُفُن الخليج، تكتظّ الصحفُ بأخبار ذاتِ طعم خاصّ عن وحدة الغرباء الوافدين بالسكان الأصليين، أخبار المقاهي والجراديق والصرائف، الخَرْص والضمان والقطف وكبس التمر في صناديق خشبٍ خفيفة و"قوصرات" محوكة من سعف النخيل. تلكم اكسسواراتُ الدراما الموسمية لكبس النصوص التي تزاحِم أخبارَ الصحف المحلية كذلك. وأيُّ نصّ مكتوب بتلك الإشارات الطبيعية والبشرية، سينتزع لغتَه من موسم الاختلاط والتزاوج وتداول العملات وتبادل المصالح بلهجات السوق المختلفة؛ فيما لا يعرف النهر إلا لغة واحدة، لغة الزمن المستقلة عن المصالح والمنافع والاختلاط البشري الموسمي. لغتُه- لغةُ السخط والحرب والوباء- تحلّ فجأة كانتقام -موسمي هو الآخر- لتنقُضَ السعاداتِ المؤقتة، والوفاداتِ الجماعية لعمال البساتين.
من دون هذه التقدمات الخاصة، يصعب تتبع مصادر قصص باسم الشريف، الأنيقة كبدلة عرس، المتشردة كخِرقة صوفيّ تأخذ صاحبَها في شعابٍ شتى. نعم، إنها قصيدةٌ قصيرة لموسم قَصاصٍ سعيد، ما تلبث أن تُردي صاحبَها مثل تميمةٍ مخطوطة بحبر سرّي بنبوءاتٍ مرئية ومتوقعة. تسير قصصُ الشريف المرتحِل دوماً -بين البصرة وبغداد وأبعد منهما قليلاً نحو الشرق- على خطّ المواسم السعيدة- نبوءةً غير متحققة أبداً. ومن بين مِهنٍ متعددة- بيعِ الكتب القديمة، واستشاراتٍ أدبية عجلى- لا يُعرَف لهذا القاصّ مُتّجه او مستقرّ. إنّه مثل نهر التمائم، تحمله لغتُه المبطّنة بمواسم التغيير والترحال إلى غير جهة. ومثل غيابه المفاجئ/ المتوقع، سيلتفّ به منعطفُ النهر إلى سعادة لم ينلها في حياته الموسمية الشاقّة.
كانت لي قراءتي الوحيدة لموسمية قصص باسم الشريف، في جلسةٍ باتحاد الأدباء بالبصرة، تمحورتْ حول مجموعته (سعادات الأمكنة المضاعة، ٢٠١٦) واتخذتْ من قصة (المسفن) متكأً لها. وقد كشفتُ يومئذ عن سرّ من تمائم كتابة الشريف، يتمثل في "الترياق" الروحي الذي يرفعه الى نقطة متوسطة بين السماء والأرض، ثم يحطّ به بين عمال النهر. ففي هذه القصة خلاصة الرحلات التي جاور فيها القاصُّ أنماطاً من البشر الأرضيين وخلافهم من العارفين. ومن كتب هؤلاء -العرفانيين- استخلص الشريف أسرارَ صنعة الترياق/ الكتابة التي تصنّف الأماكنَ والبشر الذين يقطنون فيها، ودرجات معرفتهم أو انحطاطهم، فرحهم وشقائهم. فالترياق المخدِّر هو المكافئ المادي (الموضوعي) لعنوان السعادة التي اقتنصَها يوماً من مواسم قِطاف التمر، ومرسى لسفن المعرفة الروحية التي دعته لارتداء خِرقة المتصوّفة واتباع خُطاهم. وحيث يختلط البشر المنحطّون بالعرفاء المخلَصين، تنحلّ لغة القاصّ إلى أصولها من اللهجات والرموز والإشارات، بلغة الأحبار السرية والتداعيات الذهنية والذوبان في عشق الطبيعة، وأخصُّها النهر، الذي يجري إلى مصبّه غير عابئ بالمواسم السعيدة والشقية، ولا بأهلها الزارعين والقاطفين والكاتبين.
١٦ أيلول ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى