مسعد بدر - إبراهيم فايد يجدد في قصيد سينا

بداية أولى أقول إن قصيدة (إبراهيم فايد) تنتمي إلى الطور الجديد من شعر بادية سينا. وبداية ثانية أقرر أن تصنيف القديم والجديد ليس معيارًا للمفاضلة؛ فإن بعض شعرائنا الحاليين ينتجون على المذهب القديم قصائد جيدة، ذكرنا منها سابقًا قصيدة لفرج المزيني، ومجموعة قصائد لأبو سلمان الزير، وأبو نوره، وقصيدة لأبو تركي، وكثيرًا من شعر الأستاذ محمد الدلح، وغيرهم من الأصدقاء الشعراء.
لكنني أبوح بسر نفسي وأقول إنني يستهويني الشعر الجديد، (والهوى لا يُفسّر)، وأتمنى أن أتمكن من بحث أسباب اتجاه بعض شعرائنا نحو التجديد، مثل إبراهيم ومحمود حسين وأبو يحيى التيهي وسليمان عبد الرحمن وآخرين مبدعين. وبحث هذه الأسباب يحتاج إلى مجهود ضخم وصبر طويل.
والذي أراه أن الشعر الجديد هو المجال الأنسب لإبراز شخصية الشاعر وإظهار مواهبه، أما القول على طريقة القدماء فهو تقليد تام، تقليد في الوزن، واللفظ، والصورة، والموضوع، والبناء العام. وهذه محاور تذوب فيها شخصية الشاعر في شخصيات الشعراء الكبار القدماء؛ فإذا أراد شاعر جديد أن يصف البعير؛ فإنه لن يصل إلى مرتبة عنيز مثلا، وإذا أراد الحكمة فهل يأتي بما أتى به الجبري؟ وإذا أراد الفخر بنفسه أو بقومه؛ فماذا يقول بعد قول حسين بن عامر أو فرج الرهيو؟
صحيح أن هناك فلتات فنية ممتازة لشعراء ذكرناهم، لكن أكثر الشعراء المقلدين يلبسون ثوب غيرهم، وربما كان هذا الثوب على غير مقاسهم؛ فلينتبهوا.
وإذا كان عسيرًا بحث أسباب التقليد؛ فإن مظاهره واضحة لكل قارئ، تحدثنا فيها مرارًا، وذكرنا أمثلة كثيرة لإبراهيم نفسه، وللأستاذ محمد عبد الله، ولشاعر من القدماء أنفسهم هو المرحوم عيد الدويغري. فلننظر في قصيدة إبراهيم لنرى كيف اتضحت فيه شخصية الشاعر المجدد.
أول الملاحظات أن إبراهيم بنى قصيدته على تفعيلة واحدة تتكرر هي (مفاعيلن). تلك هي تفعيلة بحر الهزج الفصيح الذي يتكون من تفعيلتين في كل شطر (وقد تكون ثلاثًا شذوذًا)، لكن التفعيلات هنا أربع في كل شطر، وفي ذلك دلالة على اقتدار الشاعر وطول نفَسه. أضف إلى ذلك أن الشاعر هنا يأتي بالتفعيلة كاملة، مع أن الهزج الفصيح يسمح بأن نقول (مفاعل) بدل (مفاعيلن)، وفي ذلك دلالة أخرى على دقة البناء الموسيقي، وانتظام الهندسة الإيقاعية، وهو ما قد يعيبه بعض النقاد بوصفه تكرارًا آليًّا مملا، وأراه تكرارًا يضمن تماسك النص، ويضمن الإشباع الإيقاعي الذي يتحقق من طريق أخرى أيضا هي تقفية الشطرين معًا.
إن التجديد في الوزن يعطى الشاعر حرية كبرى في اختيار الألفاظ. وأدلل على ذلك بقوله: (على الأغصان = علل/ أغ/ صا/ ن)؛ فهذا التركيب غير متاح في وزن (المسحوب) التقليدي الذي ينتهي بتفعيلة (فاعلاتن).
على أن إبراهيم يتجرأ فنيًا على إدراج ألفاظ جديدة في شعر بادية سينا، ألفاظ ربما يعدها القدماء سخيفة لا تليق بجلال الشعر الكلاسيكي الرصين، مثل: مراجيح – فراشات – ترقص – اللعبة. وهي ألفاظ وقعت موقعًا جيدًا في شعر جديد؛ فإن الألفاظ تناسب الموقف وتناسب حواره مع الطفلة، ولولا ذلك لكانت كلمة (دكانة) كلمة باردة!
والموضوع نفسه جديد؛ فلم نعهد في شعرنا القديم أن تقوم القصيدة على حوار مع طفلة، وأن يكون موضوع الحوار حول الأرجوحة واللعبة والفراشات، ثم يتخلص الشاعر ببراعة من الحديث مع الطفلة إلى الحديث عن ذاته هو وعن أحزانه وآماله، رابطًا بين الموقفين ربطًا وثيقًا.
إبراهيم شاعر له جمهور يتابعه، وهم يعرفون ويتحدثون عن كثرة الصور وغلبة الرمز على قصائده. والحق معهم. غير أن الشاعر هنا قدّم لنا قصيدة فيها اختلاف عن سائر شعره من حيث الصور التي جاءت قريبة او مباشرة، مثل: يداعبها الهوى – أجدد الأحزان – أنا بستانك، وغيرها. وانظر إلى بساطة وجمال قوله للطفلة: (أنا طفلك)، وتأمل مدى روعتها في سياقها الطفولي الحميم!
بيد أن هذه الصور القريبة لا تنفي أن القصيدة كلها قائمة على الخيال، أو أنها (استعارة كبرى) كما يقول النقاد، ذلك أن الشاعر رسم عالمًا تبدو مفرداته واقعية، لكنه عالم آخر يحلّق في الخيال البعيد.
في الختام، أرى أن صديقي الشاعر قد أفرط على نفسه في تكرار (أنا)، قد يجد لها هو، وقد يجد غيره لها مخرجا فنيا لا أراه أنا. أما قوله: (أنا البستان وقلبي فاح بستانه)؛ فلا أراه تكرارًا، بل أراه بستانًا داخل بستان.
النص:
مساء الخير يا طفلة مراجيحك على الأغصان
يداعبها الهوى نسمة وهي بالوعد طربانة
تدور بفرحة العاشق إذا ما وعدها قد حان
تلونها فراشاتٍ على جدران بستانه
غفت في الحلم سارقها من الوحدة وم الحرمان
مثل من يكتم انفاسه وهو غارق بوجدانه
أنا ما جيت بستانك أجدد داخلك أحزان
أنا البستان يا فرحي وقلبي فاح بستانه
مزال الغيم في صدري على فرط الهوى هتّان
يبللني وانا الغارق وروحي بعد غرقانة
على شباكي عصفورة تغرد باللقا ألحان
على ضي الأمل ترقص تثنّى فوق عيدانه
أنا لك يا بعد قلبي ومهما من الأسى قد كان
أنا طفلك على لعبة يدور باي دكانة
بعد ما حفيت اقدامه عثر صدفة على العنوان
ولا يدري عن الملهى ولا يدري عن اثمانه

مسعد بدر – شمال سيناء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى