مسعد بدر - لغة الشاعر محمود حسين

الحديث عن قصيدة من كل جوانبها أمر شاق وعويص، وإنما يتيسّر الأمر شيئًا إذا تناولنا محورًا واحدًا من محاورها، وليكن المحور المختار هو (اللفظ) في إحدى قصائد الشاعر محمود حسين، وهو أحد شعراء بادية سينا المُجيدين.
غير أن اختيار محور اللفظ لا يضمن لي اليُسر أبدًا، وذلك أن اللفظ لا يأتي عبثًا، وإنما يأتي ليكشف عن إحساس، ويجلو معنى، ويرسم صورة، ويهندس إيقاعًا؛ فكأنني أعود مُجبرًا إلى فررتُ منه من سائر محاور القصيدة! فما العمل؟
العمل هو أن أختار بين أن أظلم اللفظ أو أن أظلم نفسي؛ فلأكن رجلا نبيلا؛ فأختار الظلم الثاني، وأضيف إليه صعوبة ثانية هي استحالة النظر في اللفظ المفرد بمعزل عن أشقائه من الألفاظ الأخرى. وهذه قضية تستحق قولا كثيرًا نلخصه في فقرة قصيرة.
والتلخيص يقول إن الشاعر يمزج الكلمات بعضها ببعض فلا تنفصل كلمة عن كلمة، بل يذوب جميعها في كيان واحد ليخلق كيانًا آخر جديدًا فريدًا هو القصيدة. وشأن الشاعر في ذلك شأن الرسّام الذي يمزج في لوحته بين الألوان مزجًا يستحيل معه أن ننظر في كل لون منها على انفراد. ولو أننا كلفنا أنفسنا أن نعزل كل كلمة ونحللها على حدة "لكان ذلك ضربًا من التعسف، وبابًا من أبواب العنت، ولتراخت من جراء ذلك حركة الفهم وأبطأ سير الذهن، والكلام لا يقبل هذا التقسيم ولا يحتمل هذا التجزيء"، كما يقول الأستاذ المازني.
نخلص من هذا كله إلى أن (اللفظ) هو مادة بناء القصيدة بكل محاورها، وهو الوسيط المادي الملموس الذي ينقل إلينا الشعور والفكر وهما غير ماديين. كما أن الألفاظ تتمازج ولا تستقل، وأضيف أيضا أنها أقسام مختلفة. أليس كثيرًا بحث هذا كله؟! ألا يحق لي أن أشفق على نفسي، وأن أتواضع فأكتفي بالحديث عن دور اللفظ في التعبير عن العاطفة وفي نقلها إلى المتلقي، وعن أقسام الألفاظ؟! ينبغي أن أفعل، وليتني أسلم!
أما أقسام الألفاظ؛ فإن الدارسين يجعلونها من حيث معانيها وصفتها ونشأتها أقسامًا أربعة:
القسم الأول: ألفاظ هي رموز للمادة الملموسة، وأمثلتها من قصيدة محمود: قنديل – محبرة – جدران – البيبان. وهذه ألفاظ شفافة تدل مباشرة على معناها وتصوّر هذا المعنى تصويرًا بسيطًا غير مركب، فيدركه الذهن دون مشقة أو عناء، ودون إعمال للخيال.
القسم الثاني: ألفاظ تصف المادة الملموسة وتبين حالاتها المختلفة، وأمثلتها من القصيدة نفسها: (وشوشة) التي تصف صوت النخل، والنخل مادي. و(عزلتي) التي تصف حال الشاعر. و(قلّبت) و(شوفوا) و(لمت) التي تصف حركة الإنسان. وهذا القسم هو رموز لأشياء مركبة؛ فهي ألفاظ تصف حالات معينة تجمع بين الصفة والموصوف؛ فلا بد للذهن إذا أراد أن يجمع شتيتها من أن يلجأ إلى درجة من درجات الخيال تزيد أو تنقص تبعًا لطبيعة الرمز نفسه، ولموقعه من السياق النصي العام.
القسم الثالث: ألفاظ تضيف صفة إلى القسمين السابقين مجتمعين، لكنها صفة ندرك معناها بالخيال ولا نقدر على أن نرسم لها صورة مادية محددة في أذهاننا، وأمثلتها من القصيدة: حلم – خوف – قلق – يقين – الفرج. وإدراك المعنى المحدد لهذه الألفاظ يحتاج إلى جهد جهيد وصبر صابر، وتفصيل إجمالها يستدعي خيالا واسعًا قد لا يملكه كل الناس بسهولة. ومعظم ألفاظ القصيدة تنتمي إلى هذا القسم، وإلى القسم الرابع.
القسم الرابع: وهو ملاحظ في النص بوفرة، ونعني به ألفاظًا اعتاد الناس على استخدامها ليل نهار حتى صارت مألوفة، رغم أن تحديد معناها الدقيق أمر مُشكل، ومنها في القصيدة: سما – السنين – السعد – الخاطر – الحظ – الذات – ليل. ولنأخذ هذه الكلمة الأخيرة مثالا، الليل! وماذا يعني الليل؟ هو جزء من الزمن مظلم. وماذا يعني الزمن؟ أهو شيء مادي؟ أم صفة؟ هل يتحرك؟ وكيف حركته؟ وما تأثير ذلك على الإنسان؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى خيال خصب خلاق، وقد لا يصل إلى أسرار هذه اللفظة الواحدة.
ذلك هو تقسيم ألفاظ القصيدة؛ فما علاقته بتقييمها والحكم لها أو الحكم عليها؟
سوف أحكم على القصيدة وفق قدرتها على التجدد مع كل قراءة جديدة، وهذه صفة متينة في كل شعر جيد؛ فإن النص الذي لا يعطيك إلا معنى واحدًا محددًا مهما تعددت القراءات، هذا النوع من النصوص له روح واحدة وبُعد واحد ينتهي بمجرد قراءته كأنك تقرأ تقريرًا صحفيًا. ولكي يكون النص ذا أرواح غنية وأبعاد ثرية ينبغي أن يقوم على الخيال؛ فيستثير فيك أنت التخيل والتفكير، وهما متعة القراءة الحقيقة. ومتعة أخرى مضمونة في هذا النوع من النصوص هي متعة القارئ في أن يُنتج الدلالة بنفسه من خلال تفاعله مع النص، وأضعف ما يُقال قولٌ يضع المعنى بين يديك دون أن تسعى في كشفه أدنى سعي.
وكيف يتحقق ذلك؟ إنما يتحقق ذلك باعتماد الشاعر على القسمين الثالث والرابع من الأقسام السابقة، مع الإقلال قدر المستطاع من ألفاظ القسمين الأول والثاني، وهو ما فعله محمود ونجح فيه إلى حد معقول.
ولكي تتضح صورة هذه الكلام أضرب لك مثلين وأقارن بينهما، الأول هو قول الشاعر القديم:
دنيـاك لـذتها معـامـيـل وفْـراش
وصينيةٍ يدرج بها العبد مسعود
كل ألفاظ البيت من القسم الأول والثاني، إلا (دنياك لذتها) فهما من القسم الرابع والثالث على التوالي؛ ولذلك تجد المعنى مكشوفا واضحا لا مواربة فيه ولا تفكير ولا تخيّل؛ فضعفت فيه روح الشعر.
ثم اقرأ في قول محمود: (والعمر ثلثين انتظار وباقي العمر انسرق)؛ تجده لم يمر على القسم الأول بتاتًا؛ فترك لك حرية إعمال فكرك في تخيل الصورة وتحديد أبعادها. ثم انظر كيف ترك لك حرية أكبر حين قال: (انسرق)، ولم يحدد السارق؛ فلتذهب أنت ما شئت من مذاهب في تحديد السارق وكيف ولماذا ومتى وأين سرق و....
أما مدى مناسبة ألفاظ القصيدة لإحساس الشاعر؛ فيستدعي أن نقول أولا إن مجال الشعر هو العواطف والأحاسيس، وإن محمود استطاع أن ينقل إلينا كمده الباطن وحسرته الدفينة، أفضى إلينا بإحساسه لعله يستريح، وشحن ألفاظه بشعوره القوي فوصل إلينا واستثار شعورنا، وجعلنا نعايش الشاعر مأساته ونتعاطف معه ونحمل عنه بعض انفعاله القوي الذي أرهقه، وتفريق الحِمل يساعد على نقله، كما هو مشهور في مأثورنا الشعبي.
تخبرني هذه القصيدة – وهي صادقة فيما تخبر – أن محمود يعرف سر الشعر، ويعرف أن هذا السر يبدأ بالشعور القوي الملحّ؛ فهو يبتدئ قصيدته ملآن الجوانح، مفعم القلب بإحساس جيّاش، وهو ليس ممن يصنعها بعقله وفكره صناعة باهتة قائمة على الوزن والقافية؛ لأن الشعر مجاله العواطف كما أسلفنا. وإنك لتقرأ أبيات محمود فتجد روحه في كل لفظ، وأنفاسه في كل كلمة. إن قصيدته مرآة صادقة لقلبه!
انظر في ألفاظ البيت الأول: عزلتي – حلم – حزين – جدران – صمت – خوفين (اثنين) – قلق، وتأمل ماذا أثارت في نفسك؛ فإن حركت داخلك الحزن والخوف والقلق؛ فاحكم لمحمود أنه شاعر، وأنا أحسبه كذلك. ثم تأمل ألفاظ باقي الكلمات، ولك أن تحكم لها أو عليها، وإني قد حكمت لها بالنجاح.
القصيدة:
في عزْلتي قنديل حلم وُ محبرة شاعر حزين
جدرانها صمت وُعلى البيبان خوفين وُ قلق
محتاج كلمه تجْبر الخاطر وتترك لي يقين.
إن الفرج أسرع من الغيث وُ سَحَح صُمّ الملق
قلّبت وجهي في سما احْلامي ولا لمت السنين
والحظّ ولّاني على شطر الأماني والأرق
يا هلْ تري نسْعد ولا فات السَعَد يا مُحسنين
شوفوا ليّ الفنجان مرّة لو قهاوينا مرق
في خافقي ليل وُنخيل وُوشّوشة شوق وُ حنين
فـ الغربة اللي مابها نجمٍ ولا فجرٍ شرق
ذاتي مراية هشّمتها الأسئلة حينًا وحين
والأجوَبة وجهٍ على حِدّةْ شظاياها حلق
يا حيرة اسْتفهامي اللي حدّقت باقصى الجبين
خلّي شتات الذات طفلة تتْبعَ اسراب الورق
تجمع بقايا الورد من باقي حتيت الياسمين
تمسح على كُمّ التَعب جبهة شقى ندّت عرق
ليه الأمل مبطى وحاصلنا بجيّاتو رهين
والعمْر ثلثين انْتظار وُ باقيَ العمْر انْسرق

مسعد بدر – شمال سيناء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى