موحى وهبي - زكاة فطر الحمام

" يكتب بين العصرين عشية ليلة القدر المباركة حين يدنو افتراق الثقلين :

" الويل للهمزة اللمزة، العتل الزنيم .

الويل لأصحاب الإفك ،

الويل للترهات، الإمعات، الخرعات، من لا ظلال لهم و لا " سخسيات " ،

الويل للحشف البالي، لطناجير الأعراس المنسية في غياهب معاطن النخاسة. اخسئي ثم اخسئي، أيتها الأرواح البئيسة، أيتها الأذناب المبصبصة " تصب، تصب. امشي، اخسئي ثم اخنسي " خس أيها ال" إيكزين " [1]، لا كنت و لا استكنت و لا عمربك مكان. بجميع مبيدات الحشرات أدعو:هلمي إلي أيتها المنافيخ المضادة للبق والبرغوث والبخوش بمختلف أصنافه و فئاته و ممالكه، هيا، أقبلي انفخي، سوطي ثم سوطي ثم سوطي، اجعلي أرجلهم وأيديهم تنقبض، تنكمش، تتقلص وتتقروش مرفوعة إلى السماء التي لن ترحمها أبدا. و أنت أيها D.D.T، لماذا تتردد؟ ما لي أراك تقدم رجلا و تؤخر أخرى؟ ألا فلتعجل، افعل فعلك الذي من أجله سحقت و ذرذرت، اقتل الطامة الكبرى، الجراد المنتشر الذي يلتهم الشجر والحجر والبشر، بحق من سواك ودوزنك لا تؤذ نباتا ولا طيرا و لا بئرا. أبد و لا تذر هذه الفطريات، هذا العفن اللايعقل، قراد، جراد، علق يمتص دماء كعاب الخلق و حلوقهم، لا يجدي فيه قطران ولا سحر بوجعران "

ثم بعد هذا اكتب :

" بحق هاـ روش و شم ـ هروش ، طاف طرطلاف ، دٌاو دَرْدَلاٌو ، اخبطوهم ، شنشلوهم ثم شلشلوهم و صلصلوهم ، شللوهم و لا تنشروهم . بحق سخسخ و ما سخسخ ، طاح و ما طحطح ، طحطحوهم و لا تقبلوا فيهم شفاعة .

أناديك يا ابن الملك الأحمر، يا ابن السبع الأدرع ، من إذا تحرك زلزلت منه الجبال ، و أفرغت له المسالك و انقطع الحس و الهس ، مر جنود أقاليمك السبعة من غواصين و طيارين و حفارين و بصاصين أن ياتوا بهم إلي عراة خاشعين ، حتى أخرج لهم لساني و أقول : " گع وما شبع ! " . بحق طوطو و طوط ـ فوت و هرج و ما مرج . بحق الفارس صاحب الطماق الزيواني[2] ، و صاحب الخط الديواني المحفور على الطويلات و المرسوم كميكي و كيكي على الخشيبات ؛ ارفعوا عني العكس و التعكيس و النحس و التنكيس ، اجعلوني مقبولا في الدوائر العليا ، مرهوبا في الدوائر السفلى أمعسهم كما تمعس الحشرات ، لا آ به لقضقضة عظامها و غضاريفها و حراشيفها ، مطاعا بين الملأين ، بحق ها و ها أهحخعغ حاو حاو هاو هاو"

ثم اكتب هذا البرشمان الذي هو سلامة من كل لسان ، مبتدئا من اليمين إلى اليسار ، اكتبه بدم المغدور و عرق الجهد المهدور مهدور مهدور مهدور :

و ا ك و ا ك آ ع ب
ا د ا ل ل ه أ ي ن
ا ل ح ق ي ق ة أ ي
ن ا ل إ ن ص ا ف ؟

بحق هذه الأسماء العظيمة من خاتم الغزالي بطد زهج واح و أسماء المبرئين أوش و جلجموش ، بربر و بربروش ، بحق اشراهيا براهيا أدونيس أدوناي أداناي أصباؤوت آل شداي ، أسرعوا بقضاء الحاجة حين يحين الحين ، العجل العجل ، الوحى الوحى "

تكتب هذا في زلافة جديدة ، مزلجة ، من تراب حمرية . ببركة سيدي بوالذهب يذهب عنك الأسف و التعسير و يقبل السرور و التيسير ، ثم صب فيها حساء من طحين " إلان "[3] مع قطرات من زيت أركان ، حتى إذا نادى آذان الإفطار ، قلت ما اعتدت قوله من دعوات و أمان قبل مفارقة الصيام ، فإن غرضك يقضى و لو بعد حين ، و تذكر : فلا تعجل به فلا تعجل به فلا تعجل به. وعندما يؤذن الديك لصلاة الصبح، اصعد إلى السطح أو أي مكان عال لا يراك فيه أحد ثم استقبل القبلة و قل : " الله أكبر، الله أكبر، فتح الله و نصر و خذل من كفر و تجبر ! ". ثم ارفع يديك عاليا بالزلافة وافدخ بها الأرض بكل ما أوتيت من قوة. ثم اجمع شقوفها و حتاتها، لا تبق منها لا فرتية و لا برتيتة، و إلا ضاع الطالب و المطلوب. بعدها ضع الجميع في خرقة سوداء لا يخترقها الضوء واحتفظ بها في مكان أمين، لا تتخطاه الأقدام. حتى إذا حل موعد المعرض الدولي للكتاب، اذهب بالصرة إليه، و اشتر ما وجدته معروضا من كتب فولتير و مونتيسكيو وروسو و كانط و هيجل و هوبز و كل من يسمون بأصحاب التنوير والعقل والحداثة وكتب ميكيافيللي ونيتشه .ثم انتظر حتى اليوم الأخير من المعرض ، عندها اذهب إلى موقع عرض كتب السحر و الطلاسم وبعد أن تتأكد من أنه خال تماما اترك الصرة هناك فإن العمار أهل المكان سيتكفلون بإيصال الصرة بشقوفها إلى من يعنيه الأمر. و إياك ثم إياك أن تلتفت إلى الوراء فإنك إن فعلت لا تسترد الوعي إلا و أنت في الثلث الخالي حيث لا طير يطير ولا وحش يسير .

عند عودتك إلى أهلك سالما معافى إن شاء الله، اذهب بما اشتريته من كتب إلى فرن حمام الحي بالمدينة القديمة ثم احرقها كلها في الفرناطشي ما عدا كتاب ميكيافيللي وكتب نيتشه التي ينبغي منذ حينه أن تتخذها الهادي والمرشد في كل ما تحاول إلإقبال عليه ولا تفتحها إلا بعد صلاة الاستخارة فإنك بعدها لن ترى إلا ما يسرك، و لا بأس إن أطللت على قرعة الأنبياء بين الفينة و الأخرى فإن بركتها مشهودة، معلومة. و ستشعر دائما و أبدا بأن عقلك يصفو يوما بعد يوم و مزاجك يروق و الدم يعود إلى و جنتيك، حينها تدرك أن الشرق شرق و الغرب غرب و بينهما متشابهات فابتعد عنها تكن من الثلث الناجي. ولا تنس أن تنفح عامل الفرناطشي الذي ساعدك على التخلص من كتب أولئك المنافقين، الزنادقة، الضالين، المضللين بجزء من مالك الحلال فإن ذلك مما يقوي بركة هذا الحجاب المبارك والمضنون به على غير أهله. واعلم أنك، منذ الآن، من هؤلاء لا من أولئك [ ؟ ] " [4]

كان هذا أول حجاب كتبته و أنا شبه متيقن من أنه سيعطي أكله. بعد الانتهاء من تحبيره ، أخذت كرسيا و صعدت إلى سطح المنزل منتظرا حلول آذان المغرب. كانت السماء صافية، ناعمة ما عدا ندف متباعدة من غيوم خفيفة. كنت معتادا على ذلك طيلة أيام الشهر المقدس لأني كنت استمتع برؤية تلك الحمائم التي كان شاب يسكن غير بعيد منا يطلقها كل أصيل لترفرف وتقوم بتحليقات رشيقة مثنى مثنى أولا حتى تصير سربا صغيرا من ست حمامات يحلقن في دوائر ما تنفك تزداد اتساعا و سرعة . كان أجمل ما يستهويني في تحليقها هو تلك الحركات المفاجئة التي تغير بها اتجاهها، حركات انقضاضية تشبه حركات الطيران العسكري أثناء الاستعراضات. واضح أن الشاب غائب تماما في عشقه للحمام، غافل عما تتناقله و سائل الإعلام عن انفلونزا الطيور. والواقع أنه لم يكن شاذا في ذلك.فنحن بدورنا، كبقية خلق الله، لم نتخل عن عادتنا تلك الليلة المباركة، إذ أكلنا الدجاج ولم يقع أي شيء مما ظلت تلك الأبواق المأجورة تلغط به. وفيما بعد ستعود نفس الوسائل لتؤكد أن للحمام مناعة طبيعية مضادة لذلك المرض الوهمي الذي كاد يتسبب في كساد تجارة اللحوم البيضاء لولا يقظة الناس و تفهمهم لما وراء الكواليس.فقد ربطوا ذلك بكساد اللحوم الحمراء في أوربا بعد جنون البقر و هاهم يريدون استرداد بعض الخسارة على حسابنا، و كأننا بلهاء ( أنا نفسي كنت ، قبل أن يقع لي ما وقع ، أصدق كل ما يرد على شاشات الفضائيات ، أما الآن ، هيهات ، هيهات ! ) لا ندرك ما يحاك من دسائس أو لائك السياسيين أصحاب العيون الزرق . حين صدر ذلك البلاغ الذي يبرئ ساحة الحمام من كل تلك التهم الرخيصة ازداد إعجابي بذلك الشاب و عرفت أن الحب كما قال ذات يوم زميل لي في الدراسة ، و نحن مراهقون ، بلكنة تاشلحيت " أوا أموحانو ، الحب يقتل الحشرات " . و الخلاصة أن من لا يحب الدجاج لا هو منا و لا نحن منه و السلام دونما صداع رأس لأن فيه ما يغني عن إضافة هموم أخرى كهموم " لا نف ـ ن ـ وا نزا " .[5]

كان رأسي يزداد يوما بعد يوم صداعا بعد أن عرفت أنني من المغضوب عليهم الذين لم يستفيدوا من فرصة المغادرة الطوعية . كنت بحاجة ماسة لذلك لأشعر نفسي بأنني فعلا اتخذت في حياتي قرارا طوعيا دون إكراه من أحد . اعتبرتها فرصة أتأكد فيها من أن لي حرية الإرادة و أن هناك جهات ستحترم تلك الإرادة . منذئذ انقلبت الأمور رأسا على عقب . بدأت أشعر بأنني من المساخيط ، صرت أخجل من مواجهة أهلي و أبنائي و أصدقائي ، تملكني يأس عميق من سداد و فلاح أمري ، و أنني محكوم علي إلى الأبد بأن أظل نذلا ، محتقرا من الزوجة التي تقول : " انظر إلى أسيادك و ما فعلوا " ، لم أعد كالسابق أجد ما لا يحصى من التعلات المقنعة و غير المقنعة ، صار جوابي الوحيد هو الصمت . لم يعد الأمر أمر اختيار أو مال أو نشاط ، عجزت عن شرح مجمل الأمر ، لم استطع أن أقول لها إن الأمر كله عبث في عبث لأنني أنا ذاتي لم أفهم و لن أفهم . فقدت حاسة الشم الطبيعية ، صارت الرائحة الوحيدة التي يستقبلها أنفي من الخلق أجمعين تبعث على الغثيان . انقسم التاريخ في وجداني إلى عهدين كما قسم طوفان نوح تاريخ الخليقة : من ركب نجا و من لم غرق . كنت من الغرقى الذين لا جبل يعصمهم لا خال و لا عم و لا جد في الحكومة . هكذا فسرت أم الأبناء الأمر . صرت أشعر بأنني أعزل كنخلة في بحر من الرمال ، علمت أنني ضعت إلى الأبد . لن استرجع احترامي لذاتي و لا لغيري قط ، تغلغل الشؤم والعتمة في كياني . لا أحد في هذا العالم يستحق العطف أو الرحمة .

عشية العيد اصطحبت أصغر أطفالي . اكتلنا حبوب زكاة الفطر . أردفته خلفي على الدراجة النارية و ذهبنا إلى محج الحمام . راقبنا طير السلام الجميل و هو يلتقط ما يرمى له من لقط ، فتحت كيس زكاة الفطر و أخذت أنا و ابني نرمي للحمام بالحفنة تلو الأخرى من تلك الزكاة و الصغير في قمة السعادة يضحك و يكركر دون أن يدري أنني كنت أخاطب الحمام سرا : " خذ ، أنت أولى به من بني آدم أكحل الرأس و الكراس ، فأنت ، على الأقل ، آمن من انفلونزا الطير ، هنيئا مريئا و إلى عيد آخر و كل عام و أنت بخير" .

أسابيع معدودة و يقام معرص الكتاب . آنذاك ، فقط ، سأرى ما إذا كان حجاب أبي السعادات سيفعل فعله أم لا . و إلى ذلك الحين ليس أمامي إلا المواظبة على قراءة نسخة عتيقة من كتاب " هكذا تكلم زرادشت " اشتريتها و أنا تلميذ من ساحة جامع الفناء . فرب كتاب لم ينفع أيام الشباب كان منقذا في خريف الكهولة ، و لو أن كثيرا من الشك يخالطني فيما إذا كنت قادرا على التحول فعلا ، من حمل وديع إلى ذئب شرس يلتذ بولغ دماء الجميع دون تمييز و حتى لو ثبت أنني قادر على التحول فإن المرارة ستتضاعف : لماذا أهدرت العمر في محبة السلام و لم ألبس للكريهة لباسها منذ الأزل ؟


1 الجرو

[2] جلد أصفر، ناعم من مدينة فاس .

[3] دخن

[4] من كتاب الشيخ الحكيم أبو السعادات

[5] قال القواميسي إن " الأنفلوانزا " كلمة مركبة من لفظين أحدهما عربي هو " الانف " عضو حاسة الشم ، و الثاني أمازيغي : " أنزا " أي العطاس ، و بينهما نون الإضافة..

و الله أعلم بحكمته من وراء ذلك التركيب !

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى