أ. د. لطفي منصور - مُتابَعَةُ سَقْيِ الْمَوْتَى بِكُؤُوسِ الْخَمْرِ:

مِنَ الْمَوْتَى الَّذِينَ كانُوا يُعاقِرُونَ الْخَمْرَ َ الشّاعِرُ الْإسْلامِيُّ أبُو مِحْجَنٍ الثَّقَفِيُّ أَحَدُ أَبْطالِ مَعْرَكَةِ الْقادِسِيَّةِ. فَقَدْ أَوْصَى أَحَدَ نُدَمائِهِ قائِلًا: مِنَ الطَّويلِ
إذا مِتُّ فَادْفِنِّي إلَى أَصْلِ كَرْمَةٍ
تُرَوِّي عِظامُي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُها
وَلا تَدْفِنَّنِي بِالْفَلاةِ فَإنَّنِي
أَخافُ إذا ما مُتُّ أَنْ لا أَذُوقُها
(أنْ هُنا لَيْسَتْ حَرْفَ نَصْبٍ، وَإنَّما هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقيلَةِ، وَاسْمُها ضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّهُ)
وَمِنْ ذَلِكَ ما رَواهُ يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَقَ بنِ السِّكُّيتِ الْمُؤلِّفُ الْكَبيرُ قالَ: (لَهُ كِتابُ تَهْذِيبُ الْأَلْفاظ؛ وَكتابُ إصْلاحُ الْمَنْطِقِ وغَيرُها, تُوُفِّيَ ٢٤٤هج)
كانَ عِيسى بنُ قُدامَةَ الُأَسَدِيُّ يَأْتي قاسانَ (مَدينَةٌ كَبيرَةٌ في إيرانَ وَتُلْفَظُ بِالْفارِسِيَّةِ كاشان) وَكانَ لَهُ نَدِيمانِ فَماتا. وَكانَ يَجِيءُ عِنْدَ الْقَبْرَيْنِ وَهُما في مَوْقِعٍ يُقالُ لَهُ خُزّاقٌ، فَيَشْرَبُ وَيَصُبُّ عَلى الْقَبْرَيْنِ خَمْرًا حَتّى يَقْضِيَ وَطَرَهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَيُنْشِدُ وَهُوَ يَشْرَبُ: مِنَ الطَّوُيل
- خَلِيلَيَّ هُبُا طالَما قَدْ رَقَدْتُما
أَجَدَّكُما لا تَقْضِيانِ كَراكُما
(أَجَدَّكُما: الْهَمْزَةُ لِلُسْتِفْهام، الْجَدُّ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ. تَقْضَيان: تُنْهِيانِ ، كَراكُما: نَوْمُكُما)
- أَلَمْ تَعْلَما ما لي بَراوَنْدَ هَذِهِ
وَلا بِخُزّاقَ مِنْ نَدِيمٍ سِواكُما
- مُقِيمٌ عَلى قَبْرَيْكُما لَسْتُ بارِحًا
طَوالَ اللَّيالِي أَوْ يُجَيبَ صَداكُما
(الصَّدَى: ذَكِرُ الْبُوم. وَهَذا مِنْ أَوابَدِ الْعَرَبِ. فَقَدْ آمَنُوا أنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ تَخْرُجُ مُنْ رَأْسِهِ عَلى شَكْلِ طائِرِ الْبُومِ, يُسَمّى الهامَةَ، والصَّدَى صَوْتُها، تَزُورُ الْقَبْرَ مُنْ حُينٍ لِآخَرَ. وَقَدْ نَهَى رَسُىولُ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الْأَوابِدُ بِقَوْلِهِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهَ: لا هامَةَ وَلا غُولَ وَلا عَنْقاءَ)
-جَرَى الْمَوْتُ مَجْرَى اللَّحْمِ وَالْعَظْمِ مِنْكُما
كَأَنَّ الَّذي يَسْقِي الْعُقارَ سَقاكُما
(الْعُقارُ اسْمٌ مِنْ أَسْماءِ الْخَمْرِ. الظّاهِرُ أنَّ الشُّرْبَ اسْتَوْلَى عَلى عَقْلِ الشّاعِرِ فَأَخَذَ يَتَخَيَّلُ أنَّ الخَمْرَ يَجْرِي فِعْلًا في عُروقِهِما)
- تَحَمَّلَ مَنْ يَهْوَى الْقُفُولَ وَغادَرُوا
أَخًا لَكُما شَجاهُ ما قَدْ شَجاكُما
(الْقُفُولُ: الرُّجُوعُ.غادَرَ الْقَوْمُ وَتَرَكُوهُ في حُزْنِهِ بِجانِبِهِما)
- فَأَيُّ أَخٍ يَجْفُو أَخًا بَعْدَ مَوْتِهِ
فَلَسْتُ الَّذي مِنْ بَعْدِ مَوْتٍ جَفاكُما
- أَصُبُّ عَلى قَبْرَيْكُما مِنْ مُدامَةٍَ
فَإلّا تَذُوقا أَرْوِ مِنْهَا ثَراكُما
- أُنادِيكُما كَيْما تُجُيبا وَتَنْطِقا
وَلَيْسَ مُجابًا صَوْتُهُ مَنْ دَعاكُما
-أَمِنْ طُولِ يَوْمٍ لا تُجِيبانِ داعِيًا
خَلِيلَيَّ ما هَذا الَّذي قَدْ دَهاكُما
- قَضَيْتُ بِأَنِّي لا مَحالَةَ هالِكٌ
وَأَنِّي سَيَعْرونِي الّذِي قَدْ عَراكُما
(يَعْرُوني: يُصِيبُنِي)
- سَأَبْكِيكُما طُولَ الْحَياةِ وَما الَّذي
عَلى ذِي عَوْلَةٍ أَنْ بَكاكا
(الْعَوْلَةُ: الْبُكاءُ والنَّحِيبُ. أَيْ لا لَوْمَ عَلى مَنْ يَبْكِيكُما.
وَفي روايَةٍ عنْ أَحْمَدَ بِنِ عَلِيٍّ الْبَلاذُرِيِّ (النَّسّابَةِ مِنْ أَبْناءِ الْقَرْنِ الثّالِثِ الهِجْرِيِّ، وَمُؤَلِّفِ مَوْسُوعَةِ أنْسابِ الْأَشْرافِ) قالَ: هَؤُلاءِ النُّدَماءُ الثَّلاثّةُ كانُوا في الْجَيْشِ الَّذي أرْسَلَهُ الْحَجّاجُ لِفَتْحِ الدَّيْلَمِ.
أمّا الشِّعْرُ فَقَدْ وَرَدَ في مَصادِرَ كَثِيرَةٍ أَهَمُّها مَوْسُوعَةُ الْأَغاني (١٥:٢٩٤).
وَنُسِبَتْ أَبياتٌ إلى أُسْقُفِ نَجْران قِسِّ بنِ ساعِدَةَ الْإيادِيِّ، حَكاها رَجُلٌ مَجْهولٌ إلى النَّبُيِّ عَلَيهِ السَّلامُ لا يُعَوَّلُ عَلَيْها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى