عبد العالي بركات - إنه الصفصاف

شيء شبيه بالصاعقة ضرب جسدي..

قالت وهي ترشف رشفات بطيئة من كأسها المثلج، حتى أن الكأس كان لا يكاد يبرح شفتيها. وكانت تواصل مع ذلك الحديث. ظلت مغمضة العينين برهة قبل أن تواصل الحكي حول ما جرى لها في تلك الليلة البعيدة القريبة:

لم يكفوا عن مدحي، كل أوصاف الجمال والأناقة ألصقوها بي..

قاطعهتا: أنت دائما جميلة..

واصلت وهي تبتسم:

صرت أكره الأوساط الأدبية بالرغم مما يضفونه عليها من رومانسية. أنا أختلف عنهم كلهم اختلافا تاما. لم يرقني الحفل الذي نظموه لأجلي، كان حفلا جماعيا وقاسيا.
حضرت كاميرات التلفزة، هههها تصورت نفسي نجمة، آمر حراسي بأن يغلقوا الطريق أمام الكاميرات والصحافة، وأرجوهم بأن لا يعنفوا أحدا، أعرف عشق حراس الأمن للعنف. تصورت نفسي يتوسل إلي أحد الصحافيين بأن أدلي له بتصريح ولو مقتضب، فيتدخل في الحين أحد حراسي ويأمره بأن لا يحرجني بكثرة الأسئلة. سيكون الحفل حيا، لقد رافقت جميع أعضاء الجوق، كل الكمنجات حضرت هاهاهاها.. غير أنني لست سوى كاتبة بئيسة، لم تتجاوز عتبة الإصدار القصصي الأول.

ألصقت هذه المرة الكأس المثلج بلسانها لصقا شديدا، إنها تعنفه، وتعنف الكلمات كذلك.

واصلت حكيها:

لا لا لم يكن حلما، الحفل لم يكن حلما، أولئك الذين أربكوا حساباتي لم يكونوا حلما على الإطلاق، وأنا الآن لست في حلم بالتأكيد، أتوقع أنك ستكتب عني ذات يوم، وستتخيل أشياء وأشياء، لكنها لن تكون في مثل قوة الأزهار.

رأيتها تتراجع وتترك مسافة قصيرة بيني وبينها، وقعت يدي على الطاولة، كانت المسافة لا تلبث تتسع، هل تخشاني؟ تتوجس مني؟ ملت رفقتي؟ وتريد أن تنصرف؟

شيء ما عبر فوق الطاولة التي نتحلق حولها، وأردت التطلع إليه، ملتفتا إلى جميع الجهات المحيطة بنا، غير أنها صدتني عن ذلك..

- أووف، إنك تتحرك كثيرا، ألا تتعب يا هذا؟

- لقد رأيت شيئا يمر فوقنا، أقسم لك بذلك.

- أنا أعرفك حق المعرفة، لا شك أنها واحدة من بنات الليل.

كنت منزعجا جدا من هذا المجهول الذي عبر بيننا، مر فوق الطاولة ومضى، وهي لا تريد أن تصدق مقدار الخوف الذي كنت أحمله في تلك الأثناء.

ظلت صامتة تتطلع إلي من بعيد، وبين الفينة والأخرى تقلب صفحات كتاب عن الجمالية والنفعية، مكتوب باللغة الفرنسية، التي تحبها ولا تتحدث بها إلا مع الأجانب، صادفتها مرة واحدة تتحدث بهذه اللغة، وكانت تستغرق في الكلام إلى حد أنني كنت أتصور أنها ستفقد وعيها وتسقط، تحب أن تكون حرة، مثل حبها للشتاء، وتطلب مني أن لا أفسر لها أي شيء مهما غمض.

طرقت زجاج واجهة الحانة، وأمرتني بأن أنظر إلى جهة معينة، وهي تردد أنه الصفصاف.

- الصفصاف؟

صاحت:

- أجل أجل، إنه الصفصاف، أعرفه، رغم أنني لم أقرأ عنه قط في المدرسة.

كان الليل ولم يكن يظهر أي شيء، بالنسبة إلي على الأقل، ربما أنها قد رأت شجر الصفصاف بالفعل، لكنني لم أره، وحتى لو رأيته، فإنني لن أتعرف عليه سواء في الظلام أو في النهار، أنا لا أعرف سوى نوع واحد من الشجر: النخيل.. هل النخيل شجر؟

مرت طفلة أمام الواجهة الزجاجية للحانة وهي تحمل ورودا حمراء موضوعة على انفراد داخل أغلفة بلاستيكية شفافة.

- أرجوك، ناد عليها، أو أحضر لي وردة، هيا انهض انهض بسرعة، سوف تذهب ولن نحصل على أزهار.

كانت قد عادت إلى الجلوس بالقرب مني، والتصقت بي هذه المرة بشدة، وهي تجرد الوردة من غلافها البلاستيكي، وهمست في أذني:

لا أحد في مثل قوة الأزهار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى