جوزيفين و الشتاء

لم ينقطع المطر منذ يومين... كان الصقيع ينخر العظام ... وأصبح الخندق موحلا كريها ...تنبعث منه رائحة العرق و الجثث و الجرذان النافقة و المياه الراكدة...
أخرج لفافة التبغ من جيبه بيدين متجمدين مرتعشتين ... اتكأ على جذع الشجر الداعم للجدار ... اغمض عينيه لبرهة ثم نظر الى السماء و نفث الدخان و قال له :
- أنظر إلى نفسك الآن ...
كان صباحا للكراهية ...أزيز الرصاص يصم الآذان ... دوي طلقات المدافع لا يتوقف منذ ساعات الفجر الاولى... وابل النيران يتطاير فوق الرؤوس ... سمع تأوها بسيطا بجانبه و جثة تسقط فوقه ...دفعها بيديه بلطف تاركة بقعة حمراء قانية فوق ثيابه المبللة...
- أكنت تظنها فسحة ممتعة تثبت فيها شجاعتك و تبهر سكان القرية بالحكايات أيها المتذاكي... هنا جحيم منذور للموت و الدموع ...
لم ينم منذ أيام... كانت ساقاه ثقيلتين ... يحس بخدر متواصل في أطراف أصابعه... يأتي صراخ النقيب : إلى الأمام أيها الشجعان ....إلى الأمام يا أبنائي ... نظر إليه بعينين باردتين دون مبالاة ...

التفت وكانت السيجارة لا تزال في فمه ... حمل البندقية و ثبت حربته ... ارتفع صوت النقيب ثانية ليشعل حماسهم ... ملا رئتيه بهواء نهر الميز وصوب فوق الأسلاك الشائكة و المتراس الرملي... افرغ الطلقات في اتجاه المنطقة الحرام... لم يكن يتبين شيئا فلقد كان الدخان عاليا و الضباب كثيفا...
نظر إليه مجددا بعد ذلك وأضاف:
- هل تركت وراءك عائلة... أطفالا لتنجبهم... حياة لتعيشها... أعمالا مؤجلة...
صراخ النقيب لا يزال متواصلا... يعلو وسط العويل والأنين ... إلى الأمام إلى الأمام ...ذخر بندقيته على عجل و أرسل وابل الطلقات للضفة الأخرى... دوت صرخة بجانبه ... آه آه آه ... خيم الصمت بعد حشرجة قصيرة ...
سكنت بنادق العدو ... كان يخشى تلك اللحظة المريبة... قال في نفسه : ستأتي الطائرات الآن ... كان محقا فقد ارتفع صوت أجراس الإنذار ... نواقيس صنعها النقيب من بقايا قذائف المدفعية الفارغة ... لكنه كان متهالكا ... لم يعد يقوى على الركض للاختباء في الملاجئ الخلفية .. قرفص مسندا ظهره للجدار ...
- أظن أننا سنطل معا على الجحيم من هذا الوحل و القذارة ...
فتح الجراب المهترئ ... أخذ بعض البسكويت القاسي و اللحم المجفف... نزع خوذته وضعها أرضا ... و بدا في قضم الطعام المقرف ...
- كم عمرك الآن ؟ عشرون ؟ أظن انك قد خلفت وراءك ستون سنة من البهجة...
حين دوت الانفجارات و انتشر غاز الكلور ... كان لا يزال يخاطب جثة شاب من الشفابن غامر بتجاوز الأسلاك الشائكة مع خيوط الفجر الأولى .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى