حسام المقدم - عِشق آباد..

النُّكتَة جاءت في موعدها. قالها أحمد فجأة: مُدرِّسة دراسات تاهَ زوجها، فذهبت لتبحث عنه في الخريطة! ضحكنا في نَفَس واحد، وبقينا في انتظار دخول الأبلَة سناء التي لم تظهر طول اليوم. في الفصل "دَوْشَة" كبرى تُصاحب دائما الحصة الأخيرة، أصوات ونداءات وخبط وزعيق. من كلمة إلى كلمة اكتشفنا أننا جميعا نفكر في النُّكتة بشكل مُتحفِّز. لعبتْ دماء النَّشوة في أدمغتنا، مع انفتاح العيون وجريان ريق المغامرة. توالت الصور وتدفّقتْ: الأبلة سناء، مُدرّسة الدّراسات، بوجهها الأبيض وصدرها الطّالع النّازل، وجِيبتها التي ازدادت قِصرا؛ تجري حافية منكوشة الشّعر فوق تضاريس خشنة حادّة الارتفاع والانحدار. تخترق غابات وأحراش أفريقيا وأمريكا الجنوبية. تمشي على الماء مُتلفتة في الجهات الأربع. تنادي على زوجها التائه ولا مُجيب. تتبعنا خط سيرها جيدا، منكفئين برؤوسنا على خريطة العالم المبسوطة أمامنا على السّطح المعدني اللامع لعُلبة الهندسة التي تخُص أيمن. علبة كبيرة أرسلها له أبوه من الإمارات، وأسماء البلاد عليها واضحة جدا، بما في ذلك المحشورة جنب بعضها، وحتى تلك المنثورة في المحيطات.
"هنا".. قال أيمن نفسه وهو يحضن العلبة بكفّيه. تأمَّلنا المكان الذي أشار إليه. اسمه جُزُر سليمان، ويقع في الأعلى من أستراليا جِهة الشرق. "لا لا" ، قال أحدنا، "لا يُمكن أن يكون زوجها مُختبئا في مكان بعيد مثل هذا، حتى لو كان يبحث عن خاتم سليمان"! أضاف آخر: "صح، وبالتأكيد لا يوجد سرير مريح في هذا المكان ليناما عليه"! هنا مدّ واحد يده وقال: "وجَدتُّها.. يُحبّان بعضهما؛ إذا في هذا المكان.. "عِشق آباد". اقتربتْ العيون كلها من الموضع.. هناك بالفعل فوق "أفغانستان" و"إيران" مباشرة. كانت أول مرة في حياتنا نسمع عن مكان بهذا الاسم. قرأنا الكلمتين، فوق خَلفيَّة صفراء مكتوب عليها بالأسود الثقيل: "تُركُمانِستان". عِشق كلمة نعرفها، فما معنى "آباد" هذه؟ رُحنا نتوقع أن المعنى لن يخرج عن مكان للعِشق، وهو ما رأيناه مكافأة للأبلة سناء على بحثها ودوختها في البلاد. خرج صوت مفاجئ: "لكنها تستأهل ما جرى لها". رددنا في صوت واحد: "حرام عليك، لماذا"؟ ردّ بضحكة مُلتوية: "لأنها حُلوة، ولوحدها"! نال صاحبنا خبطات متتالية في جَنبيه وكتفيه، لكنه واصل بإصرار: "إنها غير مُتزوجة أساسا يا هُبل". نظرنا لبعضنا، مُتعجّبين من كلام هذا العبيط. كان واثقا: "والله صحيح، سمعتُ ذلك من أمي وهي تتكلّم مع جارتنا عن الأبلَة البيضاء العسل، فعرفتُ أنهما تتكلمان عنها". شيء ما خَبا في عيوننا، خبا في رؤوسنا. انقطعَ سَيل الخيال، الذي كان على وشك دخول المدينة ذات الاسم الجميل: عِشق آباد، بل ورؤية مُدرّستنا الحلوة مع زوجها على سرير حرير ومخدّة رِيش.
كان يمكن أن نُنهي اللعبة عند هذا الحد المُحبط لكل توقُّع، لكنّ عفاريت خيالنا لم تقنع بذلك. نطّ سؤال مفاجئ أعاد دماء النشوة من جديد: "ماذا تفعل لو أنكَ الذي مع الأبلَة سناء في ذلك البلد البعيد"؟! أضاءت العيون بلمبات نيون، والوجوه صارت مدهونة بلمعة نادرة. عينان مفتوحتان على اتساعهما تكلّمتا عبر فم ذاهل: "سأكون كبيرا في مثل عُمرها. لابد أن تلك المدينة تُساوي بين الأعمار ولا تسمح بغير ذلك. سأركب فرسا بيضاء وأجعلها تركب ورائي. لكن قبل أن أسمح لها بالركوب سأطلب منها أن تُريني كل شيء أولا. سأدُور في المدينة كلها على ظهر الفرس، وهي ورائي خائفة تُمسك بي". بدون أن ننطق، قالت عيوننا لذلك الولد: الله عليك. كلامه أوقدَ الدماء في رؤوسنا. كنا بحاجة للمزيد والمزيد: "وأنا سأمشي معها في الشوارع. لا يمكن أن أتخيلها إلا كبيرة كما هي الآن. ستنظر لي وتشجعني على المشي بسرعة كي لا نصل متأخرين. المدينة ستكون جميلة جدا في الليل، وهناك لافتة كبيرة مُضاءة بالأبيض المتوهج للترحيب بالأبلة سناء". لم نتحمس كثيرا لمثل هذا الكلام من صاحبنا قليل الكلام، واللابد في التختة دائما بلا أي حركة. نريد كلاما يجعلنا نجري ونحن في مكاننا. لهذا هززنا أيمن ليتكلم: "سأطلب من الأبلة سناء أن تصعد نخلة. بالتأكيد يوجد نخل هناك. وحين تصل للبلح الأحمر المتدلي؛ ستقطف وترمي لي. لكنني سأقذفها بالبلح مرة أخرى كأنه طوب. سأرمي كل ما معي في اتجاهها، حتى ترمي نفسها من فوق النخلة، وأتلقاها بين ذراعيّ المفتوحتين". أما أحمد فقد صعد بنا للسماء: "عشق آباد مدينة ملآنة بالمراتب. مراتب في كل مكان: في الشوارع والقهاوي والفنادق وحتى في السيارات. راحة وعِز إلى ما لا نهاية. لن أترك مرتبة واحدة إلا وأنام عليها أنا وهي، حتى لو كانت مفروشة في السحاب". فجأة خرج صوت مبحوح: "نعم.. مراتب طائرة". الله الله. قال ثان وثالث. انضم لنا رفاق من الدِّكّة الأمامية، وآخرون كانوا يسمعون في الخلف. توالدت الكلمات والأفكار وراء بعضها. دخان الأبلة سناء كثيف ومتسارع، والحريق بلا رائحة. أخيرا الجرس القُنبلة يُنهي كل شيء.
خارج الفصل، وبعد أن عبرنا الحوش والبوابة الكبيرة؛ لن يُفلح أيمن ولا أي واحد منا، في استعادة عُلبة الهندسة المخطوفة. الأنذال تناقلوها بينهم بسرعة جُنونيّة.
****
حسام المقدم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى