غازي الذيبة - حوار معي

أتذكر حوارا قدمه ميلان كونديرا؛ التشيكي، صاحب كائن لا تحتمل خفته، مع نفسه.. ذاك كان في زمن لا تتداعى فيه الاشياء، بل ترقص التانغو. كنت استل الكتب، والتهمها بجوع معرفي، جعلني الى اليوم بمعدة فارغة.
أحببت الحوار مع الذات، أحببت الفكرة، التهمتها برمشة عين، وأوقدت تحتها كاز الرغبة في ان أبتلى بها ذات نزق، أو احتراق. ياه، أن تحاور ذاتك، وتفضحها، أن تتحاور مع ذاتك وتكشف ما تكشفه من يقين بأشيائك التي لا تبدو يقينا عند غيرك. أن تتسمر كقرد سماوي امام شاشة الكمبيوتر الباردة، تتآلف مع ضوئها، لترقن ما تعتقد بانه يجيب على أسئلة ذلك الجزء المعتم منك، وربما المضيء؛ والمعضلة أن تكون رماديا، تتدحرج في بركة آسنة من البلاهة.
كيف تكتب؟ كيف تقرأ؟ ما الذي تراه خلف الكلمات؟ من اين أتيت قبل قليل؟ هل شربت قهوتك.. مرة، حلوة، وسط..؟ ربما كان لاحدهم تاثير عليك، هل تذكرني به؟ أين أصطدت اول طائر؟ متى رأيت حمامة تفر من قفص السعادين في حديقة البشر؟ علاقتك المملة مع الحيوانات.. لماذا؟ سنتحدث عن الطقوس .. اقصد طقوس الكتابة، هل لديك ما يشبهها؟ هل تحب الحكام مثلا؟ الله.. كيف تشكلت علاقتك به؟ وأنت تصطاد الكلمات؛ هل هربت منك جملة كنت تود أن تلصقها على كتابك الأول.. الأخير مثلا؟ دعنا نتأمل معك الوجه الآخر للاغنية في قصيدتك؟ أنت شاعر، أم نمر يحلم بالجبال؟ حسنا.. حاول ان تضع نقطة في اول السطر، وقل ما تشاء بعدها؛ ماذا ستقول؟
مثل هذه الأسئلة اقترحتها علي، ولدي فائض نووي من الاجابات المعجونة بخرافة المكوث طويلا تحت ظلال الكلمات.
في زمن مضى، قبل ان يكون لي مسقط رأس، وغاية كثيفة، تتشابك فيها الأحلام والخرافات والأساطير المحجلة بكتب تملأ الرفوف، ابتسمت بسخرية، كان ذاك يوم تركت الكتاب بقلم الحبر الجاف وانتقلت للكتاب بالقلم الياباني، ثم ضربت الحائط بقدمي، واقتنيت دواة وقلم ريشة، لم استسغ البقاء طويلا على ظهر الورق وانا اكتب كلمات لها حواف، فتركت الكتابة، وحين عدت ابتكرت طريقة لشق الطرقات، تشبه المودة الجالسة على الرصيف. طريقة غريبة.. تضرب بضع مربعات صغيرة على مستطيل بلاستيكي، فتظهر كلماتك فوق مستطيل مضيء، تبتهج لان الطريقة تلك بدت لك عملية أكثر، بالقلم الجاف كنت تكتب بين 10 الى 15 كلمة في الدقيقة، ولكن بالراقن البلاستيكي، تكتب بين 40 الى 50 كلمة في الدقيقة.
أنت تكتب كثيرا؛ اللعنة على اصابعك كيف تحتمل كل هذا الضجيج؟
حين عدت من حياتي الاخرى وصار لي مسقط راس؛ وقعت عن صخرة الهذيان، ثم عدت لاجلس عليها كقديس مسحور، تطوقه افاع من الجن، وعفاريت بنية، وأيام تدفن راسها في الرمال. بدت لي الحياة مجرد فقاعة اجلس فيها لأتخلص من الفقاعة، بكسل فيل التهم وجبته واسترخى تحت شجرة كبيرة.
ذات مساء دخلت عمتي الى غرفتي المتواضعة جدا، ورات اكوام كتب مترامية على الارض، وفوق طاولة صنعتها بيدي، وبضعة رفوف يابسة، تنتصب على جدار أكلته الرطوبة. لم ار دهشة كتلك التي ارتسمت في روح عمتي، وهي تهبط درجا ضيقا تبعتها كلص، وسمعتها تهمس الى امي: خافي الله يا مريم، ابنك سيتفجر رأسه. دهشت مريم طبعا، وهي تسمع هذه الكلمات: ليش؟ معقول أن يقرأ كل هذه الكتب دون ان يتفجر راسه. غرفته أصبحت مخزن كتب.. احرقيها وخلصي ابنك من مرضه او موته القريب.
عشت بعد هذه الحادثة أكثر من ربع قرن، تفقدت فيها مكتبات مجنونة، ودلفت الى مكتبات لا يقف عند نوافذها سوى الطير، وقلبت مخطوطات لم يلمسها جني منذ وضعها مؤلفوها قبل ألف أو الفي عام. وشهقت وانا أقرأ شتائم على المدنس والمقدس في كتب لرجال يركضون بيننا في كل حديث عن الحضارة والمعرفة. قرأت موسوعات وجملا طويلة، وبيوتا من الشعر، وآلاف الاخبار الغبية، وملايين الكلمات المصابة بارتجاج الدماغ، واحلاما تنزف من الخوف والرغبة لتسيل في بالوعة المعنى المريض.
هذه هي الكتابة إذن.
قلت سأستحضر روحا تشبه كونديرا، لأرقص معي في حوار، أتبادل فيه التهم بتفجير رأسي، وافضح هذا العالم الجالس تحت ابط الهراء. لم أعد قادرا على احتمال ذاتين، ثلاثة .. قل اربعة ويزيد، فالليل يتشقق واصابعي أضحت مرهقة من الرقن، وأحلامي تقصفت في ظل هذه البلادة التي تستورد الغباء من الماضي، وتجلس على مقعد بثلاثة أرجل، غير مستقرة، وغير كاملة، بل لم تعد بلادة أو بلادا، إنما هي مجرد كابوس يحتفي الحمقى بوجودهم فيه.
لا حوار اذن يا كونديرا، أيها المختل، المصاب بثاني اكسيد الجنون، الحوار فقط حين تتمكن من حمل حقيبة صغيرة محشوة بالديناميت، لتفجرها في راسك الصغير، وتنام بعدها بهدوء قاطع طريق، يتحسس كنوزه الثمنية في الكهف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى