علجية عيش - النخبة خلقت "الطبقية "في المجتمع

في نظرية الفوضى.. من هم الفوضويون الحقيقيون ؟

يقدم علماء الإجتماع أمثلة عديدة في نظرية الفوضى منها طريقة عيش طيور الزرزور، و طير الزرزور لا يجد فيه قائد عام لكي يخير كل طائر متى يتحرك و إلى اين؟ كانت طيور الظرزرور تستجيب لإشارات سهلة القراءة ، تكون مهيئة داخل علاقاتها مع أقرانها و الزحام الشديد هو تلك الإشارة ، فالطيور تريد أن تبقى معا ممّا يؤمن بقاءها على هيئة السّرب و لكن إن اقتربوا من بعضهم البعض كثيرا فإن قدرتهم على الإستمرار في الطيران تضعف على الرغم من التشابه التام في الديناميات بين طيور الزرزور، نفس الشيئ ينطبق على البشر، أي قاعدة التقاء في المربع الذي أنت فيه إلى أن يصبح غير مريح لك فتتركه إلى أحد المربعات الأخرى، إلا أن آليات التنقل ليست متماثلة، حسب علماء الإجتماع و حتى الفلاسفة فإن القرار كقاعدة عالية في حياة الفرد من البشر لا يرتبط البتة بالإزدحام الشديد، إنه يرتبط بالأحرى بفهم المرء لطبيعة مأزقه، أي بمدى التكيّف مع الغير على أساس مجموعة من القيم و المعتقدات التي سوف توحد و تبرر الأفعال التي سيقوم بدورها.

إن طيور الزرزور تقترب من بعضها البعض اثناء الحركة باستمرار حتى تظهر قوة مضادة، هكذا البشر يجتمعون في تكتلات من أجل الوصول إلى مركز قيادي في الأمّة كما حدث اثناء الثورة الثقافية في الصين، من الصعوبة بمكان النظر في كل الإتجاهات في نفس اللحظة، لأن هناك انحيازات منافسة لابد أن تُفَوِّتَ الفرص على النمط المسيطر، فيقطع وعودا لا يقدر على تحقيقها فيتعثر نمط حياة ما، يصبح الطريق مفتوحا أمام الأنماط الأخرى المستبعدة حتى الآن لكي تقول: "لقد أخبرتك بذلك لكنك لم تكن مهتما"، فهذه الأنمطا الأحرى تنبأت بالنهاية المميتة، فاستطاعت تجنب الأخطاء و الإستثمار في الفرص الضائعة، يقود هذا الكلام للحديث عن "الفردية" هذه الفردية حذر منها كثير من الفلاسفة و علماء الإجتماع و السياسة، لأنها تنحدر بسرعة إلى نوع من العنف الهمجي، كانت هناك تجارب عديدة نتيجة ثورات و حروب أهلية وقعت في العالم العربي الإسلامي انتهت بأصحابها بالفشل لأنهم عملوا بنظرية الفوضى و الهمجية، يقدم علماء الإجتماع مثالا عن أحداث " كانساس" الدّامية حيث أدى غياب سلطة مخولة لفض النزاعات حول الأرض كذلك غياب هيئة ذات تسلسل هرمي من أجل وضع القواعد و تنفيذ العقود، هكذا يقود التنظيم الذاتي من دون ضوابط إلى الضعف و بالتالي يكون نظاما محكوما عليه بالفشل.

ومن أجل النهوض من جديد كان منى الضروري أن تكون هناك تحالفات، تقول الدراسات أن التحالف قد يفيد في تعويض نقائص نمط حياة ما، فالحلفاء يظلون منافسين لبعضهم البعض و يجمعهم حُبٌّ غير حقيقي وغيرمطلوب أي حُبٍّ مزيفٍ، يتسم بخطاب ملون بالكذب و النفاق و الغدر و الخيانة، لأن المصلحة الذاتية هي الأهم وهي القاعدة الأساسية في نمط الحياة، و مثل هذه التحالفات تخلق بيئة مضطربة سياسيا و اجتماعيا و ثقافيا و اقتصاديا و حتى في الجانب الديني (التعددية المذهبية) يكون ذلك بتعدد الفتاوى التي احيانا تفرق و تشتت أكثر من أن تجمع و توحد ، تهدم و لا تبني، يكون ذلك عن طريق تكفير الآخر و وصفه بالمتطرف، لقد توصل أرسطو إلى أن التوازن بين الثقافات السياسية هو مفتاح لتحقيق الحكومة الجيدة ما جعل بعض الفلاسفة و المفكرين إلى العمل بالقابلية الإجتماعية الثقافية للنماء، فالأمّة التي تتوازن فيها انماط الحياة تكون أقل تعرض للمفاجآت وتكون أكثر استجابة للمواقف المستجدة و هذا طبعا يتوقف على رؤية الناس للأشياء.


فرؤى الناس و أفكارهم مختلفة فهناك من يدقق فعل الغير و كلامه و هناك من يدقق الغير فعلهم ، إذن العملية مرتبطة بعملية "التأويل" للأقوال و الآفعال خاصة إذا تحول الشفهي إلى مكتوب، و التأويل إما أن يكون إيجابيا و إمّا يكون سلبيا و هذا الأخير لا يحقق النماء، المشكلة طيعا ليست في نقل الأفكار بشكل فعال للغير بل تنميتها، كما أن الأمر متعلق بطريقة التعايش مع الآخر، فمثلا عندما يجد إنسان نفسه في موقف حرج من أن يكشف لك رفضه لمسالة أنت راغب في تحقيقها قد تكون في إطار التعامل معه في مشروع ما، و للتعبر عن رفضه تجده يبحث عن طريقة يستفزك بها خلال نقاش دار بينكما حول مسألة ما، تشعر أنتَ بالإحباط و خيبة الأمل و الفشل، هذه الفئة كما يقول بعض المحللين تعمل بنظام الكبار big men فهي ترى المحيطين بها صغار.

و نحن نقف على هذا النوع من الممارسات و كأننا نقف مع إميل الصغير الصَّبِيُّ المبدع و دوركايم الأستاذ المصارع الذي اراد كل شيئ، الأفكار طبعا تتغير بتغير الظروف و الأزمنة و بتغير الأمكنة، وقد تتقارب أحيانا بين طرف و آخر، لكن الإختيار يكون بقبول الفكرة الأكثر قوة، ليس قوة الفكرة بل قوة المادة (كثرة المال) يحدث هذا في مختلف المجالات، في السياسة في الوظائف و حتى في العمل الإبداعي، السبب هو أن هناك أنماط حياة متنافسة داخل الأمّة الواحدة حولت السلوكات والأفكار و الممارسات إلى شعار، فالتسوق مثلا جعله البعض أمر سياسي، بمعنى أنك لما تشتري منتوج ما يعني أ،: "تُصَوِّتُ" اقتصاديا لمصلحة الشركة المتتجة، نفس الشيئ في عملية الإبداع، فأن تشتري كتابا مثلا يعني هذا أنك تُصَوِّتُ لصالح المؤلف و للشركة التي طبعت ذلك الكتاب و التصويت هنا عمل سياسي.

نلاحظ هنا أنه حتى العملية الإبداعية صبغت بصبغة سياسية، طالما ذلك المؤلف له مكانة اجتماعية، و التصويت لكتابه يرفعه إلى مكانة أكبر من المكانة التي كان يحتلها في المجتمع، بينما المؤلف المبتدئ (لا نقول المؤلف الصغير) لأن الأول كان صغيرا ثم كبر، فالمؤلف المبتدئء مهما كان مستواه و مهما كانت تجربته الميدانية و ما يملكه من معارف فهو يظل بعيدا عن الأنظار و في زاوية التهميش و النسيان، لأن أطرافا تعمل على تقزيمه و تجعل منه كائنا مجهولا، و قد تُقَوِّلْهُ ما لم يَقُلْهُ و تنقل لأسياده عنه معلومات خاطئة و تقارير مزيفة ، فياخذون عنه نظرة سلبية و قد يوجهون إليه تهما باطلة، ما يمكن قوله هو أن الإنحياز الثقافي يعيق العمل الجماعي الضروري و للقضاء على هذا النوع من الممارسات، ظهرت جماعة أطلق عليها اسم "المساواتيون" لقد طالبت هذه الجماعة بإشراك المواطنين بمختلف مستوياتهم في الحياة العامة، يستخلص من هذا كله أن "النخبة" في بعض الأحيان هي من يصنع الفوضى ، فوضى في الأفكار و فوضى في الممارسات و فوضى في القرارات، هذه النخبة التي تريد أن تفرض منطقها على الآخر ، تريد أن تكون هي المسيطر، تنظر إليه نظروة متعالية و كأنها تريده أن يختفي من الساحة، والدليل ما نراه في الندوات و الجلسات الفكرية و الأدبية، يطلقون تصريحات نارية أمام الصحافة من أجل إعطاء لذلك اللقاء صبغة ما و ليكون له صدى واسعا، في محاولة منهم أن تنشر في الغد تصريحاتهم بعناوين حمراء و بالبنط العريض، و لما يجد أحدهم نفسه في موضع انتقاد و أن ذلك العنوان لا يخدمه نجده يقول، تلك العبارات جاءت في سياق الحديث، هكذا يبررون اقوالهم و أفعالهم و يمسحونها في السياقات، هذا هو المجتمع و هذه هي النخبة الغير قادرة على النهوض بالأمة فكيف لها أن يبني حضارة؟.

من الواجب هنا أن نطرح السؤال التالي: من هي النخبة؟ و ممّا تتشكل؟ هل تتشكل من مجموعة من المثقفين؟ و السؤال يفرض نفسه لمعرفة من هو المثقف؟ هل هو المفكر؟ هل هو العالم؟ هل النخبة يشكلها مجموعة من الفنانين ( الموسيقي، المغتن، المسرحي، السينمائي، هل يشكلها الكتاب و الشعراء و الروائيون و الناشرون ؟ أم يشكلها رجال السياسة (المهرجون) أم رجال المال و الأعمال؟ أم رجال الدين؟ يا الهي تحن أمام الهاوية و قد يحدث لنا ما كاد أن يحدث لدونكيشوت لولا رفيقه الذي كان يحرسه لكان قد وقع في الهاوية، نحن إذن أمام تعددية نخبوية اجتمعت لتحقيق مصالحها، يمكن تسميتها بالـ: clan في كل الأحوال نقول أن هذه النخبة خلقت الطبقية في المجتمع، الكلام ليس موجه للنخبة الحاكمة فقط، بل للتي ترى نفسها أنهامن النخبة، التي جعلت افراد المجتمع يتصارعون و يتقاتلون فظهر التطرف وظهرت الآفات الإجتماعية كالإنتحار، و الهجرة الغير شرعية و هجرة الأدمغة و كل اشكال الفساد، لأنها لم تغير نفسها ففشلت في عملية التغيير و البناء، يبقى السؤال يبحث له عن إجابة لمعرفة من هم الفوضويون الحقيقيون الغرب أم العرب؟ و لماذا تقدم الغرب و تأخر العرب؟ ( من كتاب "نظرية الثقافة" نأليف مجموعة من الكُتّاب عن عالم المعرفة عدد 223 طبعة جانفي 1978 الكويت)

علجية عيش بتصرف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى