محمد بن ماضي السبيعي - الحساسية، أو تهيج سطح الروح!

أول مايظهر لنا من الآخر هو امتداده المادي المتمثل في الجسد، وهناك بعد آخر يظهر لنا ولكن ليس بشكل مباشر وهو جوانيته وذاتيته أو روحه.
كل مانستطيع معرفته عن الآخر، بل وعن أنفسنا هو عائد لهذين البعدين.
ولكل واحد منهما حساسيته -بمعنى تهيجه- الخاصة به فقط، وهذه الحساسية لا تظهر في الغالب إلا على مستوى السطح.
تظهر على الجسد في شكل تهيج في الجلد أو في طرف الأنف، أو في الغشاء الخارجي للعين... الخ
وكذلك الحال بالنسبة للبعد الجواني للإنسان؛ فإنها لا تنال إلا من السطح الخارجي المستقبل للتأثيرات الخارجية، سواء كانت أحداثا، أو كانت على مستوى نقد هيئة الشخص أو أفكاره، أو ميوله، أو انتمائه.
وتظهر أعراض هذه الحساسية في ردات الأفعال المبالغ فيها على تلك المثيرات، فتجد الشخص الحساس مفرط الحزن أو الفرح بسبب حدث ما، وشديد الكآبة بسبب رأي أثير حوله، أو نقد وجه له، أو تقليل من شأن أي شيء يتماهى معه سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى الاهتمامات والميول والانتماء.
وأحد الأعراض لهذا النوع من الحساسية هو التعصب بكل أشكاله، ذلك أن الشخص المصاب بهذا النوع من الحساسية يماهي بين ذاته وبين كل أشكال اهتماماته وميوله وفكره وانتمائه.
وعندما أقول إن هذه الحساسية لا تنال إلا من السطح الخارجي للروح؛ فذلك لأن هناك عددا كبيرا من البشر لا تظهر عليهم في الغالب مظاهر واضحة من هذه الحساسية؛ فما سبب ذلك؟
أظن أن السبب عائد بالدرجة الأولى لمستوى وعي الإنسان بذاته؛ فالإنسان الذي يعيش على سطح ذاته لا يعي منها إلا هذا السطح، وهذا السطح على تماس واتصال مباشر بالخارج حد التماهي والتطابق، فيعرف نفسه بفكرته، ويغضب عند التقليل منها، ويعرف نفسه بأي شكل من انتمائاته، حتى وإن كان هذا الانتماء منجسداً في تشجيع نادٍ رياضي، أو الاعجاب بماركة جهاز ذكي، أو الانجذاب لفنان معين؛ فيغضب أن تم مس أي شكل من أشكال الانتماء تلك، وتثور حميته، وقد يدخل في سجالات وعراكات بسبب ذلك.
أما الإنسان الذي يعى ذاته بشكل أعمق فإن أعراض هذا التحسس المفرط لا يظهر عليه؛ فهو بعيد الغور من هذه الناحية، إذ إنه لا يُعرّف ذاته بأفكاره ولا يتماهى معها، ذلك أنها قد تتغير وتتبدل بسبب تطورات في جوانب وعيه ومعرفته وخبراته والتطورات من حوله، ولا يعرف نفسه كذلك بانتمائاته وميوله التي هي بطبيعتها خارجة عن قدرته في السيطرة عليها وتملكها والتحكم التام بها.
فهل نقول إن الحساسية المفرطة نتاج وعي غير عميق بالذات، بالأنا، بالروح؟
يبدو أن الأمر هو ذلك!
فالإنسان ليس تلك السطوح سريعة التأثر والتهيج للعوامل الخارجية، بل هو أعمق من ذلك بكثير؛ شريطة الوعي بذلك العمق البعيد عن المؤثرات الخارجية التي هي في الحقيقة في أفق فُرجته ومراقبته لا سيطرته وتماهيه... فأفكاره هناك يشاهد تأثيرها بالقبول أو بالرفض والنقد، ولكن تبقى مجرد أفكار قد يجد في التفاعل معها تصحيح أو توضيح لجوانب كانت غير واضحة له، فيغير فيها أو يلغيها ويتجاوزها دون أن ينقص ذلك منه شيء، فهو في الحقيقة ليس تلك الأفكار، بل مبدعها الذي بإمكانه ابداع غيرها وأفضل وأجود منها.
كذا ذات الأمر في الأحداث الخارجية، التي هي خارج قدرته ولا يمكن أن تنال مماهو في قدرته وهو ذلك الوعي بذاته، تلك الذات المستقلة تمام الاستقلال عن كل تلك الأحداث، فلا يمكن أن تنال منها... ذلك أن من طبيعة هذا الوعي التحليل والتفكيك والتساؤول ومعرفة مكانة الروح وحصانتها وبعدها عن كل مايؤذيها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى