محمّد مباركي - الروائي الذي ندم على كتابة رواية

(قصةاونلاين)
محمد مباركي



هل سمعتم بروائيّ ندم على كتابة رواية؟ ربّما لم تسمعوا بذلك. إنّه أمامكم أنا العبد الفقير إلى رحمة ربّه. كتبتُ روايتي الأخيرة وندمتُ على كتابتها، لا لأنّها رواية دون المستوى، أبدًا. قد تناولها عدد مهمّ من النّقاد في الدّاخل والخارج بالدّراسة والتّحليل حتّى إنّها نالت من ذلك أكثر ممّا نالته رواياتي السّابقة. ولا أقول لكم إنّها أحبّ رواياتي إلى قلبي، فقد قرأتها عشرات المرّات كأنّي لم أكتب غيرها. لن أنسى ذلك اليوم الذي غمرتني فيه فرحة كبيرة وأنا أقرأ ما كتب عنها حتّى إنّي لم أتناول سوى لقمة واحدة طول يومي وأنا أقرأ الدّراسات المنشورة بالصّحف والمجلّات. أعتذر منكم، فلم أقل لكم في بداية كلامي أنّي أعيش وحدي بشقّة معلّقة. قرّرتُ أن لا أتزوّج وأن لا أكوّن أسرة؛ لأنّني ببساطة تزوّجت الرّواية والرّواية تزوّجتني.

ندمتُ على كتابة روايتي الأخيرة لسبب واحد ووحيد هو ما وقع لي بعد مرور سنتين اثنتين على طبعها ونشرها حيث إنّ أبطالها لم يتركوني لحظة واحدة في يقظتي ونومي. كانوا يتحرّكون بشقّتي كيف حلا وطاب لهم، فحيثما جلستُ أو اضطجعتُ إلّا وتحلّقوا حولي بوجوه مسفوعة صفراء وأطراف مرتعشة وشفاه متدلّية مرتجفة يلهثون ككلاب مسعورة بأنفاس حارّة تبعث على الغثيان. ينظرون إليّ بأعين محمّرة ترسل نظرات مثقلة بالغيظ كأنّها سهام مقذوذة حتّى غمّ عليّ البقاء بشقّتي.

سمعتُ صباح ذلك اليوم الأصلع حركة غير عاديّة بشقّتي الصّغيرة. قلتُ ربّما كانت قطّة الجيران التي تتسلّل إلى المطبخ حين أترك نافذته مشرعة. صرخت فيها من مكاني: “الصَّبّْ”، لكنّ الحركة زادت عن حدّها كأنّها خارجة من أجّة النّار. شعرتُ بشيء من الخوف الذي تحوّل مع الوقت إلى رعب حين اقتحم عليّ مجموعة من الأشخاص غرفتي. تجمّدتُ بمكاني على الأريكة. بحلقتُ فيهم غير مصدّق ما شاهدته عيني، كنتُ أعرفهم واحدًا واحدًا؛ لأنّهم كانوا أبطال روايتي الأخيرة. تذكّرتُ في تلك اللّحظة ما كنتُ قد قرأته عن أحد الرّوائيين الذي كتب رواية تخيّل فيها أبطال رواياته وهم يحاكمونه، فتيقّنتُ من أنّ أبطال روايتي جاءوا لهذا الغرض هم أيضًا. أنا لم أسئ إلى جميعهم، منهم من قدّمتهم إلى القارئ كالعِقد المنظوم في اقتران لآلئه. ومنهم من أسأتُ إليهم بالفعل حيث رميتُ ببعضهم في السّجن المؤبّد والمحدّد ومنهم من جعلته مدمنًا على معاقرة الخمر ومنهم من رميتُ به إلى أرذل العمر. الغريب أنّهم اصطفّوا على سماط واحد في مواجهتي بما فيهم أولئك الذين أحسنتُ إليهم. ساندوا الذين أسأتُ إليهم بصمتهم المريب. قالوا: “جعلتنا قومًا مطنزة. نبغت لنا منك أمور لم نتوقّعها!”. “نبغ لنا منك الشّرّ والنّفاق يا هذا الرّوائيّ الفاشل!”.

ذكّرني كلّ من أسأتُ إليه بنوع الإساءة التي فتّت كبده وأمرضت قلبه وردّد عليّ: “لماذا فعلتَ بي ذلك؟ ألم تجدني إلّا أنا في طريقك؟”. لم يقتنعوا بإجابتي من أنّ طبيعة الحبكة الرّوائيّة تفرض على الرّوائيّ أن لا يحسن إلى جميع أبطال رواياته كما أنّه لا يسيء إلى جميعهم.

أنّبني ذاك الذي جعلته بخيلًا حاسدًا. وقد قلتُ فيه على سبيل الحصر: “سقط هذا البخيل في عيني كما تسقط البعرة من إست البعير حين وجدتُ يده في الجمع أحرص وللمنع أمسك ولكلّ ذي نعمة أحسد وإنّه من أَوْلِي الإربة…”. صرخ فيّ قائلًا: “لماذا وَسَمْتَنِي بهذا الوسم المشين الذي لن يفارقني؟”. وأقسم بأغلظ الأيمان التي تقصّ حانثها وتقصم ناكثها ليجعلنّ حياتي جحيمًا كما جعلتُ حياته جحيمًا في الرّواية.

أنّبتني تلك التي جعلتها في الرّواية امرأة رَذْلَةً. تملأ الكأس الشّفّافة إلى أَصْبَارِهَا وتدلقها في جوفها وتغّضن من قسمات وجهها من حموضة ترعد كلّ خليّة من جسدها المنحوت كالخُلال فاتحة حصنها لكلّ زائر من طلوع الشّمس إلى غروبها لاشتداد غلمتها.

أنّبني الذي أورثته الوحدانيّة في الرّواية، فقلتُ على لسانه مخاطبًا امرأة هجرته: “إنّه الوهن الذي أصابني بعد غيابك يا حبيبتي. هل تصدقين بأنّي أقضي يومي بين سرير جامد وكرسيّ متحرك؟ إنّها أولى الخطوات إلى العالم الآخر. إنّي أعدّها كلّ صباح ومساء. ما خلد فيها أحد. وما نشد الخلود أحد…”. جعلته يتّخذ لنفسه غرفة، اندسّ فيها من النّاس كما يندسّ الجيب من الثّياب، فَتَأَبَّدَ ولم يعد يسمح لقريب أو بعيد أن يراه وغرفته مغلّقة عليه وفراشه لحاف مُهترئ وطعامه لقيمات يدلّيها له جار في صحفة بحبل من الطّابق الأوّل كلّ يوم. مرّ عليه زمن غير قصير وهو على ذلك الحال حتّى عطفتُ عليه وأرسلتُ إليه قريبًا عزيزًا دفع بابه ودخل عليه وقال له محذّرًا: “كلّمِ النّاس، فإنّ الله في علاه قد كلّم موسى”. وأعاده بالتّدريج إلى الحياة رغم ما لوحظ عليه من اجتناب النّاس وهو بينهم، فلم يكن يكلّم إلّا القليل منهم.

أنّبني الذي جعلتُ ظنّي فيه يقينًا وزدتُ على ذلك، فقلتُ قد أصابته نبوات الزّمان وجفواته. وصوّرته للقرّاء عاجزًا عن قصع قملة.

أنّبني ذلك الشّابّ صارخًا: “جعلتَ حياتي في روايتك أقلّ من حيوات الآخرين حين غيّبتَ أهمّ ما تميّزتُ به في حياتي وافتخرتُ؛ نجاحي الذي صنعته بذكائي وجهدي وليس بغباء الآخرين وكسلهم كما افترت عليّ. ادّعيت أنّي ارتبطتُ بما سمّيته بوليّ نعمتي ارتباط السّلحفاة بترسها وما كان ارتباطي به إلّا ارتباط تلميذ بأستاذه في موسم دراسيّ لا غير”.

لم يكتف العجوز الذي رميتُ به في أرذل العمر بتأنيبي بل رفع عصاه حتّى برق بياض إبطه وضربني ضربة وَقَرَتْ في عظمي. قال لي: “أنا شيخ عجمته التّجارب والدّهور وتقول فيّ ما قلتُ؟”. وكنتُ قد كتبتُ فيه أقول: “مررتُ هذا الصّباح غير الرّباح بعجوز على قارعة الطّريق وقد أقعده الكبر وأحوجته الخصاصة، فأضّته إلى مدّ يده النّحيلة. وقفتُ عليه وسألته عن حاله ذاك، فقال إنّ ابنه بعافية بغل يأتي به صباحًا ويذهب به مساءً وأوّل ما يسأله: “كم اكتسبتَ هذا اليوم؟”.

أنّبني الشّخص الأخير بعد أن نَبَضَ نَبْضُهُ فأخذ بخناقي قائلًا: “والله لن تنعم بحياة سويّة ما دام فيّ عَريق نابض”. وكنتُ قد قلتُ فيه إنّه يتمعّش من الكذب، فجعلته أكذب من أبناء «يعقوب» على الذّئب…

ما حزّ في نفسي كثيرًا هو أنّي لم أسمع من أولئك الذين قلتُ فيهم كلامًا جميلًا أن يقولوا لي: “ما أرقّ عذبة لسانك!”.

محمّد مباركي

قاصّ وروائيّ من المغرب



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى