عمر أبو القاسم الككلي - نصوص من سجنيات عمر أبو القاسم الككلي.

* اللحم والأسمنت

داوم الرجل على الوقوف، معتمدا بمرفقه على قاعدة النافذة متشاغلا بمتابعة زملائه وهم يتحركون ويتوزعون في ساحة القسم، عدة ساعات يوميا( تقريبا)، مدة عشر سنوات.

نشأ، على مرفقه، شيء يشبه الكلكل، وتكونت، في موضع ضغط المرفق على القاعدة الأسمنتية للنافذة، حفرة صغيرة.


* عدم إسقاط الأمتعة

فتحوا علينا سيارة الصناديق المطلية نوافذها بالأسود، التي جلبتنا من سجن الشرطة إلى السجن العسكري، وأخذوا ينزلوننا واحدا واحدا، صائحين علينا بضرورة الركض.

– هَرْوِلْ!.

عندما جاء دوري كان عسكري أمامي منشغلا بضرب أحد الرفاق، وكان عسكري آخر يركض نحوي من بعيد، فانبجست في ذهني خطة إنقاذ مؤداها أن أركض حاملا أمتعتي القليلة بأقصى جهدي، كي أتجاوز العسكري المنهمك بالضرب قبل أن ينتبه إليَّ، وأن أفر من العسكري الراكض[ كمن يمرق بين لسان لهب توجهه الريح إلى الجهة الأخرى ولسان آخر تدفعه نحوه] وأجتاز منطقة الخطر قبل أن يصلني [لست أدري لماذا نشأ لدي نوع من الاعتقاد، وقتها، بأني لو وصلت إلى النقطة التي كانوا يريدوننا أن نقف فيها قبل أن يدركني فلن يواصل مطاردتي.].

لكن العسكري المندفع نحوي تمكن من أن ينشب يده في ذيل كنزتي المشقوقة غير المزررة التي لابد وأن الهواء كان يدفعها إلى الخلف وسدد لي لكمة تحت أذني جعلتني أمدد على البلاط السميك الصلد أطرافي الأربعة [دون أن أسقط أمتعتي] وكان كل همي عندها [من أول إحساسي باللكمة وحتى إحساسي بالأرض القاسية تحتي] أن أنهض وأواصل فراري تجنبا للركلات المحتملة، إن ظللت ملقى، وتفاديا لمزيد من اللكمات.

فنهضت سريعا مستأنفا ركضي، وأشبعت تلك اللكمة شهية العسكري للضرب.


* رسالة

إلى ع. ض: صاحب السؤال، وكذلك إلى ع. غ: صاحب الإجابة.

خطر للسجين، وهو يمد يده بالصحن لتلقي نصيبه من الغداء، أن يخاطر ويسأل العسكري الذي كان يوزع الطعام:

– لماذا أخذت كمية الطعام التي تمنحونها لنا تتناقص، هذه الأيام، يا عريف عمر؟!.

فسارع العريف عمر إلى الرد، بهدوء، وهو يضرب الغارف مكفيا على الصحن:

– كثرت أمة محمد!.


* استدلال

في اشتداد الصيف، كان يمكن لمن في الزنزانة أن يرى، رأي العين، ما يشبه الضباب ينتشر متعاليا في فضائها.

لم تعد الروائح غير المرغوبة تضايقهم.

لأنهم ما عادوا يشمونها.

ذلك أنه “إذا دام البلاء بالعبد ألفه”(4) مثلما صرح الحلاج.

إلا أنهم كانوا يستدلون على وجودها من حركة وملامح العسكريين الذين كانوا، حين يأتون للتتميم ليلا، يفتحون الباب على سعته، ويتقهقرون قليلا ليقوموا، بعد برهة، بالإحصاء من أبعد نقطة ممكنة.


* رقصة تجديد الهواء

إلى أحمد الفيتوري ومحمد العدل: مجددي الهواء.

في الصيف، حين يأسن الهواء في الزنزانة، ممتلئا بروائح الأنفاس والعرق، ويثقل التنفس، قليلا، وكدر النفوس يزداد، ينهض اثنان ممن في الزنزانة، يمسكان فيما بينهما ملاءة بيضاء (ككفن الميت، وراية المستسلم، ومعاطف الممرضين والأطباء، وثوب العروس، وزهور الياسمين والبرتقال، وبياض العين الحوراء…) ويأخذان بهزها، كما لو كانا ينفضان ما علق بها من غبار.

كان واحد عنصرا ثابتا، لأنه هو الذي كان يقوم بالمبادرة، ويتغير العنصر الثاني أحيانا.

كنت أظل أراقب (حين لا أكون أحد المهويين، ونادرا ما أكون) ارتفاع وانخفاض الملاءة وتموجها مستمتعا بلطافة ما تحدثه رفرفتها من نسيم، متأملا، بالخصوص، وأنا أخفي ضحكة منبجسة، حركة عنق صاحب المبادرة، الشبيهة بحركة طائر يطاول بمنقاره ثمرة معلقة.

وكثيرا ما كنت أقول في نفسي: إذا ما حدث وأن خرجت من هنا، فسوف أقترح على مصمم رقصات تصميم رقصة باسم: رقصة تجديد الهواء، وأخرى باسم: الطائر المقيد، والثمرة المعلقة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى