موسى الثنيان - نافذة إلى السجن.. قصة

في سجن التحقيقات ثمة تشديد مكثف على نزلاء السجن ، وكنت إذا أردتُ الخروج إلى الحمام لا أخرج إلا بمرافقة حارس هو من أشدهم غلظة، رجل ضخم الجثة ،يأخذني مكبلا إلى حيث الحمام في دهاليز مظلمة ، في كل مرّة يعاجلني بطرق الباب دون توقف ، فالحارس لا يطيق الانتظار والوقوف في سبيل راحة نزيل السجن… عندما طلبتُ الذهاب إلى الحمام كنت أدرك أنه خلال دقائق يجب أن أقضي حاجتي ، دخلتُ ذلك الحمام الضيق وفي الأثناء لاحظتُ شيئا قد مرّ بي سريعا ، نظرتُ إلى الأعلى يمينا ويسارا ، فرأيتُ عصفور الدوري وهو يقف عند حافة النافذة ، كان فزعا ومرعوبا ، صدره يرتفع وينخفض بسرعة وقد تبلل ريشه البني المرقط بالأسود ، ربما فضوله قاده إلى أن يدخل عبر شق صغير في شبّاك النافذة إلى مكان لا شجر فيه ولا شمس وقد ضل طريقه إلى العودة… برقت عينيّ بالفرح :ما الذي أتى بك إلى هنا ؟!! أخذتُ نفساً عميقاً : لقد أعدت إليّ ذكريات جميلة حين كنت طليقا مثلك، أيها العصفور كنت وأصدقائي نصطاد العصافير في الحقول صباحا … شعرتُ أن العصفور رمقني بنظرة غريبة فأدركتُ كلامي وأكملتُ : لا لا… إننا نطلقها عند الغروب محلقة في السماء.. أيها الدوري الصغير هل جلبت أملا معك من هذه الفوهة الصغيرة وبينما أنا كذلك طرق الحارس عليّ الباب ، وقال بصوته الخشن : هيا أخرج ، وبسرعة أنهيت حاجتي ولبستُ ثيابي ، وأنا أراقب العصفور الذي ظل جفلا عن الاقتراب مني، يقف في ركن قصي من السقف ، أعاد الحارس الطرق بقوة أكثر من ذي قبل ، أحسست هذه المرة بأن الباب سيقتلع وأنا أهم بالخروج سريعا ، طاب لي أن يبقى العصفور معي ، وأملأ به السجن فرحا وبهجة ، فكان مني أن اصطاد العصفور بيدي بسرعة البرق ، ووضعته بداخل سترتي وقبضتُ عليه بكفي ، كي لا يصدر أي حركة تريب الحارس ، كانت مجازفة قد ألاقي جزائي بالجلد ، كنتُ أقبض بقوة على بطني متظاهرا بالألم ولم أكن متأكداً من أنني قد خنقتُ العصفور ومات أم لا ، وصلتُ إلى الزنزانة مع العصفور الدوري بسلام ، ولما أقفل الحارس الباب بمفاتيحه ، طفقت أقلب العصفور بيدي ، دمعت عيناي حين تذكرتُ النخيل والبحر ، أطلقته في تلك الزنزانة الضيقة ، فراح العصفور يلوذ بالفرار بنافذة صغيرة على الجدار وقد وضع فوقها سياج حديدي ، أحسست بالوحشة التي يعيشها العصفور ، كم كنت أنانياً بجلبك إلى هنا. التفت فإذا بالحارس يطل عليّ من النافذة الصغيرة وسط باب الزنزانة ، كان الأمر غير عادي…حيث اقتدتُ إلى التحقيق ، فوجود العصفور في مكان لا يصل إليه ضوء الشمس إلا قسرا أثار شكوك المحقق في غرفة التحقيق !!أخذ يقلب العصفور بيده ويبحث لعله يجد رسالة سرية أو حبوب مخدرة قلت له : ليس إلا عصفورا !ظللت أشرح كيف دخل العصفور؟ ولماذا أخذته معي؟، توسلت إليه أن يطلقه ويتركه وشأنه ،فهو ليس إلا عصفورا قاده حظه العاثر إلى نافذة تطل على حمام السجن…لكنّ توسلاتي لم تزد المحقق إلا شكوكا وريبة ، همس المحقق في أذن الحارس بشيء ما لم أسمعه ، فخرج مسرعا ليعود وبيده مدية ، كي يريح المحقق نفسه من الشكوك وضع المدية على عنق العصفور وذبحه ، كنت أنظر إلى العصفور وهو يرفرف بجناحيه وقد اختلط الدم بريشه… كنت أشعر بأني قد ذبحتُ أنا الآخر…



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى