محمد بشكار - المُرْضِعة وصرختُها المُوجِعة..!

كَمَنْ يسْتجير بالرَّمْضاء مِنَ الرمضاء صاحت أمٌّ مفجوعة من نافذة اليوتيوب واحليباه.. وهي لا تقْصد ذلك الحليب السائل الذي نسْتَدِرُّه من ضِرْع البقرة أو يُباع في عُلب كرطونية عند البقال، إنَّما تعني الحليب المسحوق تماما مثل أوضاعنا الاجتماعية المسحوقة تحت الحذاء، وهو مُخصَّص للرُّضع تقتنيه الأمهات من الصيدليات كأيِّ دواء عساه يخفف الوجع !
لا أعرف طريقة تصنيع الحليب المسحوق، وأوّل ما يتبادر لذهني أنا الكسول في الفيزياء والكيمياء، أنهم يُجفِّفون هذا السائل الأبيض بالنار أو الكهرباء أو ربما بطاقة بديلة تحت أشِعّة الشمس، لا أعرف إلا أن أُفتِّت لُباب الخبز للعصافير، ولكن أعرف أيضا كيف يصنعون المواطن المسْحوق، حين يُجفِّفون كل مَرَق الطاجين الذي يجمعنا تحت غطاء واحد، ومعه اللحم والبرقوق !
واحليباه.. صوتٌ جريحٌ ليس كأيِّ الأصوات ولو ذهب أدراج الرِّياح ليوقظ الأموات، لأنّه نابعٌ من أحشاء أُمٍّ عوضت ثدْيها الجاف بعلبة حليب معدنية تشتريها بحوالي مائة درهم، من أين تأتي كل يومين بهذا المبلغ مع دخْل محدود وجامد لتسُدَّ رمق الرضيع، ما أفظع أن ينمو الطفل وقد رضع من أمِّه عِوض مسحوق الحليب الإدانة والغضب، ما أفظع أن نصْنع في المهد للمستقبل مشروع ثائر يقود الجياع، ولا يهُمُّه إذا احترق هو ومن معه في البلد !
واحليباه.. نداءٌ حين تسمعه النَّعجة من حَمَلِها ثغاءً، تُهرْول إليه لِتُلْقِمَه ضرْعها وهي مُجرّد حيوان، فكيف بالإنسان لا يهمُّه إلا توسيع إمبراطوريته المالية على حساب مسحوقي الحليب وبعدي الطوفان !
ما الذي يحدُث في البلد، هل يُعْقَل زيادة كل يومين في جميع المواد الغذائية، لقد اشتدَّ الخِناق على المواطن الضعيف واحتقن في الأعْيُن الحِقْد، أكاد أسْتشعِر لفْح شرارة تُنْذر بفوضى قريبة تسري تحت الهشيم قد تعيدنا إلى زمن السِّيبة، كيف لا ودائرة الأصوات المُرتفعة بنداء وداء الحاجة في اتِّساع مُسْتمِر، فلا تسمع إلا واحليباه.. واخبزاه .. ودواءاه .. إلى آخر الآه الذي لا يتردَّد كما عوَّدْتْنا الأغنية المعلومة أو المكلومة من شِدة لواعج الحب، بل مِن تأْثير الكراهية التي أحْدثها الفقر بعد أنْ وصل بسكِّينته للعظم، أما كان الحليب ببياضه وما زال رمزاً للصفاء، نُقدِّمه مع التمر هديةً للحبيب، فَمنْ يرْفع الأسعار في كل يوم حتى أصبحتْ عُلْبته المُعبَّأة لُغْما يُهدِّدُ بالانفجار، من لوَّث بياضه البريء ليغدو رمزا للعداء، كان بوُدِّي أن أكتب بَدَل هذا الأنين قصيدة تُسلِّي الأرواح خفيفة الإيقاع، ولكن يبدو أنَّ الأزمة أثقل من أنْ يحْتمِلها أيُّ إيقاع ولو بالضرب على البندير، أثقل بالارتفاع المُضْطرد للأسعار التي تحدُّ أيضا من تدفُّق الأشْعار !
لقد أصبح كل البيْض بكتاكيته المُجهضة في سلَّةٍ واحدة، مِمّا قدْ يُؤدِّي بأبْسط هزّة إلى الانكسار، كيف لا وقد اسْتوى في جَرَبٍ يُصيب بحكَّته الجيوب الموظَّف اليائس والمُياوم المُقاومُ الذي يقف على باب الله، وتلك نتيجة حتْمِية قد يُفْضي فهْمها إلى الجنون.. وإلا من أين يمكن للمرء أن يسْتمد توازُنه الطبيعي في الحياة، بل من أيْن له حتى أن يبقى على قيد الحياة وهو يتقاضى أجراً جامداً منذ عقود بالمُوازاة مع الزِّيادة اليومية في أثمنة المعيشة، أليْس يقولون إنَّ الزيادة في الماء تحْتاج أيضا للزيادة في الدقيق، وإلا سيخْتل النظام الاجتماعي في عجينة غير مُتماسكة جارية، ويطفو الجميع من شدّة الاحتقان الاجتماعي في بِرْكة آسنة !
واحليباه.. ما أقسى استغاثة الأم وهي تُطالب بقُوت وليدها الجائع، تُطاردني صرختها في النوم واليقظة، أمَا كان أجْدر أن يكون هذا الصِّنْف من الحليب وغيره من المواد الحيوية المُسْتعْجلة بالمجان، على الأقل في مثل هذه الظروف العصيبة التي جعلت الحكومة تُسْقِط كل خيباتها على الأزمة العالمية، ولا أعْجب إلا لِمنْ يُخْضِع البنزين والحليب لنفْس العَدَّاد، وكأنَّ السائل الذي يُعبِّىء السيارة هو نفسه الذي يُطْعم الرضيع، لقد وصَلْنا للأسف للزَّمن الذي أصبح فيه الإنسان أرْخَص من الجماد!

محمد بشكار

..............................................
..
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 27 أكتوبر 2022




1666809828029.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى