مراد الخطيبي - الكاتــب وظله. تحية إلى عبد الكبير الخطيبي

ليلة الإثنين 18 مارس…

بينما أنا منهمك في إعادة قراءة “الذاكرة الموشومة” “La mémoire tatouée”من جديد من أجل إنجاز دراسة علمية حول إشكالات الترجمة خاصة بعد صدور الترجمة الإنجليزية للكتاب، استوقفتني، وكالعادة دائما، هذه العبارة الساحرة حلمت تلك الليلة بأن جســدي من ” كلمات j’ai rêvé l’autre nuit que mon corps était des mots” تمعنت في هذه العبارة بإعجاب شديد. قرأت الترجمة العربية وكذا الترجمة الإنجليزية. استمتعت وأنا أحضن الكتاب إلى درجة أنني نمت ممددا على الأرض مثل غريق، “الذاكرة الموشومة” فوق صدري. تشابكت الخيوط في ذاكرتي. لم أعد أدرك هل أنا في يقظة أم في حلم. عبد الكبير الخطيبي، بنظارتيه الطبيتين وقميصه الناصع البياض ووجهه الذي يفيض شبابا ونضارة، ينصت إلي باهتمام وأنا أحكي له بداياتي الأولى مع الكتابة. بداياتي مع كتابة بعض الخواطر وبعض القصص في مرحلة التعليم الثانوي. طبعا التوتر يلفني والخوف يتملكني. أنا أمام عبد الكبير الخطيبي. نعم عبد الكبير الخطيبي. الكاتب المتعدد والمفكر المتفرد. عبد الكبير الخطيبي الواضح الشفاف الصريح. عبد الكبير الخطيبي صاحب الصراحة المزعجة. خلال حديثي أو لنقل خلال العرض الذي تقدمت به أمامه نطقت كلمة باللغة الفرنسية بطريقة خاطئة. سرعان ما تداركت الأمر. عوض أن أقول: Intrusion تفوهت بكلمة، تبين لي أنها لا توجد في اللغة الفرنسية وهي: .Intrasionقبل أن أقوم بالتصحيح، كان الخطيبي يشير إلي برأسه ممتعضا بما يفيد بأن الكلمة غير موجودة أساسا. لما انتهيت من إلقاء هذا العرض الصعب، قابلني الخطيبي بابتسامة مشجعة. أخرج ورقة من محفظته. أمسك قلما أسود. خط بما يشبه شهادة. كنت في غاية السرور. استيقظت على هذا الحلم الجميل. يوم بهي ورائع سأقضيه بصحبة الخطيبي.

حلم أعاد ذاكرتي إلى لقاءاتي المباشرة السابقة معه وإن كانت معدودة. كنت دائما أهاب التواصل معه إذا لم أكن مستعدا أتم الاستعداد للنقاش حول مواضيع فكرية. عبد الكبير الخطيبي لا يميل إلى الأجوبة العامة. الأجوبة الفضفاضة. يحبذ التفاصيل الدقيقة. دائما يختبرك. يختبر مدى استيعابك وفهمك. لم يكن ممكنا طرح الأسئلة بطريقة مجانية ومباشرة لكونه يقابلها بأسئلة أخرى تتسم بالعمق.

حلم ذكرني ببعض اللحظات الثمينة التي اقتنصتها وأنا برفقته نمشي على طول شاطئ بحر الجديدة. الجديدة التي يعشقها. الجديدة التي في كل زيارة لها يترك السيارة جانبا ويتجول فيها مشيا على الأقدام. يزور الشاطئ طبعا والحي البرتغالي وحديقة “بارك سبيني”. الحديقة المعلمة التي أمضى فيها أجمل أيام طفولته. “الذاكرة الموشومة” شاهدة على ذلك. في كل مقابلة مع الخطيبي، أنتقي المفردات بعناية شديدة وأختار المواضيع بطريقة مركزة جدا لعلي أنجح في استفزاز صمته العجيب. أتذكر أنني مرة أثرت، وأنا برفقته الخلاف الذي حدث بين أدونيس والشاعر العراقي كاظم جهاد والضجة التي خلفها كتاب هذا الأخير والموسوم بـ”أدونيس منتحلا”. كنت أعلم جيدا أن الخطيبي كان صديق الاثنين معا. لم يجبني الخطيبي في البداية بل بدت على وجهه ملامح الانزعاج والتوتر. ساد صمت غريب. بعدها، قال لي بأنه بذل كل ما في وسعه لوضع حد لهذا الصراع بين صديقيه إلا أنه فشل مع الأسف.

ولأنني كنت متحمسا أكثر من اللازم، ولأنني كنت خلال تلك الأيام تحديدا قارئا نهما، حاولت استعراض بعض ما قرأته من كتب. كتب رولان بارت وفوكو والعروي وآخرين. روايات فرجينيا وولف أيضا. لسوء حظي، عندما توقفت عند بعض سمات المشروع الفكري لعبد الله العروي، لم يبد الخطيبي تجاوبا وحماسا ورغبة في النقاش كما يفعل عادة بالنسبة لمواضيع أخرى. صمت قليلا. وضع يديه وراء ظهره. عـيناه على الأرض ثم التفـت إلي قائلا: C’est un idéologue. صدمتني هذه العبارة حينذاك حقيقة. للأمانة، لم أتبين عمقها إلا بعد سنوات. تبدد الغموض بعد قراءتي لبعض مؤلفات الخطيبي الأخرى خاصة “المغرب المتعددMaghreb Pluriel”.

هذا الحلم ذكرني أيضا بحدث ثقافي مهم. مبادرة استثنائية دشنها الخطيبي بمدينة الجديدة. مدينة الهامش. الخطيبي كاتب ومفكر الهامش بامتياز. بدليل اهتمامه المتفرد بالثقافة الشعبية المهمشة وإصداره لكتابه القيم: “الاسم العربي الجريحLa blessure du nom propre ” الذي ترجمه الشاعر محمد بنيس. تتمثل هذه المبادرة في افتتاحه لمحترف الكتابة بمشاركة الروائي الفرنسي المتميز: كلود أوليي. من بين الحاضرين حينذاك كتاب وفنانون وتشكيليون. أذكر مثلا الكاتب والباحث فريد الزاهي. كانت فرحتي لا توصف عندما كلفني الخطيبي بعد انتهاء أشغال هذا اليوم الافتتاحي لمحترف الكتابة أنا والكاتب والباحث المصطفى اجماهري بإعداد بيبليوغرافيا أدبية عن كتاب منطقة دكالة. فخر ما بعده فخر أن يمد الخطيبي إليك يده بسخاء قل نظيره ويدخلك إلى عالم الكتابة والأدب.

هذا الحلم ذكرني أيضا بزياراته إلى مسقط رأسه مدينة الجديدة. زياراته دائما ما كانت مدعاة للفخر لكل أفراد العائلة ودائما ما كانت تشكل فرحا عظيما لا ينقضي إلا بعد أن يغادر الخطيبي المكان. كان يدأب على مشاركتنا أفراح عيد الأضحى لأنه ازداد كما نعلم في هذا اليوم المقدس ومن ثمة جاء اسمه عبد الكبير نسبة إلى “العيد الكبير”.

قبل أن يهم بالقدوم يتصل عبر الهاتف أولا. يحدد برنامج زيارته بكل التفاصيل الممكنة، بمعنى اليوم وتوقيت وصوله وعدد الأيام التي سيقضيها وكذا الأطباق التي يقترحها حيث يفضل دائما الأكلات المغربية خاصة الكسكس الدكالي و”الرفيسة”. ما كنت أستغرب له هو أنه كان يفضل في بعض الأحيان تناول طبق الكسكس ليلا. طبعا قبل أن يتبع في ما بعد نظام تغذية صارم.

ما كان يسهل زيارات عبد الكبير الخطيبي إلى مدينة الجديدة هو أن أغلب أفراد العائلة المقربين يقطنون في الحي نفسه تقريبا. حي الصفاء الذي ازداد فيه.

ونحن، أي أفراد عائلته الجديدية، إذ نستعد لاستقبال هذا الضيف الكبير، كنا نرتدي أجمل الثياب ونتهيأ لاستقبال أسئلته، استفساراته وربما عتابه في بعض الأحيان. لكن عتابه ونصائحه كان يوجهها إلى المعني بها مباشرة ودون حضور أي شخص آخر.

مازلت أحتفظ ببعض الكتب الثمينة التي أهداها لي. أذكر من بينها الآن: كتاب باللغة الإنجليزية كان قد صدر لتوه عن مركز الدراسات العربية المعاصرة التابع لجامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان:

“Contemporary North Africa: Issues of Development and Integration” والذي يضم مقالات مترجمة إلى الإنجليزية لمفكرين ينتمون إلى دول المغرب العربي أمثال عبد الكبير الخطيبي، محمد عابد الجابري، حليم بركات، وغيرهم. وأيضا كتاب بالفرنسية حول الديمقراطية ثم مؤلف كارل ماركس المعروف: “Le Capital”.

في ما يخص مؤلفاته الجديدة، كان فقط يخبر عن صدورها وفي ذلك حكمة بالغة لم أدركها أنا وبعض أفراد عائلتي إلا في ما بعد.

على ذكر الابتسامة، الخطيبي يمتلك سحرا ليس فقط في كلامه “الدارجي” الجميل ولكن أيضا في صمته وابتسامته. لا أقول ابتسامة واحدة بل ابتسامة بالمتعدد. بمعنى ابتسامة تنوب عن الكلام حسب السياق وحسب الموضوع. فقد يعبر عن إعجابه بابتسامة وأيضا عن امتعاضه بابتسامة بل وأيضا عن استغرابه بابتسامة مختلفة.

لا يلبس دائما ثوب الجدية كما يتصور البعض بل كان في كل مرة يأتي إلى مدينة الجديدة إلا وتذكر مع أخويه محمد ومصطفى قصص طفولتهم ومغامراتهم التي سرد البعض منها في سيرته الذاتية “الذاكرة الموشومة” .(1971) وكنت أحضر وأنا طفل بمعية أخواتي إلى هذه الجلسات الجميلة وكنا في بعض الأحيان نلاحظ تضايق أبي لوجودنا لأن عبد الكبير الخطيبي كان يسرد أسرارا لم يكن الوالد ربما يريدنا أن نعرفها. وكنت ألاحظ احمرار وجه أبي المعروف بجديته وصرامته دائما، وهو يحاول إخفاء ضحكه.

ما كان يثير إعجابي في زياراته هو الدقة المتناهية التي يقوم فيها بتوزيع وقته. يستيقظ ثم يتناول فطوره، يتبادل أطراف الحديث معنا. يتأبط محفظته التي لا تفارقه أبدا. يغادر إما لزيارة قريب أو صديق أو جولة في أحياء مدينة الجديدة ثم جولة عبر شاطئ البحر الذي كان يعشقه كثيرا. فهناك تعلم السباحة وهناك مارس كرة القدم.

قبل الخروج من أجل تنفيذ برنامجه الصباحي، يخبر عن موعد رجوعه من أجل تناول وجبة الغداء وبطبيعة الحال هو من يقترح الوجبة. كانت تعجبه الأطباق التي تعدها والدتي (وهي ابنة خالته مينة) كثيرا.

بعد وجبة الغذاء، يلج غرفته. وفي غالب الأحيان يقرأ رواية أو شعرا قبل النوم قليلا. تسللت مرة إلى غرفته ووجدت كتابا لبول فاليري Paul Valery على وشك أن ينتهي من قراءته. مع الأسف لا أتذكر العنوان. رغم وجوده في زيارة عائلية إلا أن الكتب لا تفارقه أبدا.

أتذكر مرة أنه بعد قيلولته التي لا تتجاوز عادة خمس عشرة أو عشرين دقيقة وجدني أنا وإخوتي في المكان نفسه أمام التلفاز، ابتسم ابتسامة فيها كثير من السخرية. ابتسامة ترمز إلى اللوم. ثم قال لنا: “ألم تملوا بعد…الاستهلاك الفارغ… اقرؤوا كتابا عوض هذا التبذير المجاني للوقت”.

عبد الكبير الخطيبي وشم في ذاكرتي لن يتبدد أبدا. مكتبتي تضم بفخر واعتزاز وفرح كتبه وصوره وما كتب عنه. عبد الكبير الخطيبي حاضر دائما. ظله بل وظلاله المتعددة تحكي وآثاره مازالت تنبض بالحياة والتجدد.

مراد الخطيبي



* ملاحظة: الحلم المشار إليه في المقال هو حلم حقيقي. يوم 16 مارس 2023 كانت الذكرى 14 على غياب عبد الكبير الخطيبي.
أعلى