عبد الحكيم قاسم - الخوف

كنت مخمورا أحاول جهدي أن أستجمع وعيي. سائق التاكسي رصين الكتفين. والعربة تمرق علي الإسفلت المبلول المضاء بمصابيح الطريق .


يبدو أنني مريض بالكبد. كمية الخمر الرخيص معدتي تثقل علي وعيي مثل كلكل الجمل لكنني يقظ وعارف ومن طرف خفي أرقب تتابع ا؟الأرقام في عداد التاكسي. هذا السائق كتفاه تتساوقان في حركة رتيبة أكيده. بعد لحظات سأقول له

- هنا ...

عندئذ يقف وأعطيه حسابه. سآمره بالوقوف في صوت خفيض, لكنه قوي وأمر حتى لا يلحظ أنني سكران, عيناي علي عداد السرعة.. تسعون كيلو في الساعة. يا ربي. العربة تسلبني بهذا المروق الخارق علي الإسفلت الناعم. أطرافي باردة بخوف مبهم

هنا علي اليمين ..

بليونة وقفت العربة . تفتحت عين خضراء في لوحة العدادات, ضغطة هينة علي مقبض الباب انفتح المعدن صقيل بارد. العربة جديدة متحفزة. بعينين ساجيتين متعاليتين ألقيت نظرة علي العداد أنا أعرف ما فيه سلفا لكنني حريص علي أن أبدو طبيعيا بأناة خلعت قفازي ودسست يدي في جيب معطفي وأخرجت ورقة ذات خمسة جنيهات. عليه أن يرد لي ثلاث جنيهات .

بنفس النظرات السجية المتعالية تأملت كفه القابضة علي ورقة النقود ووجهه الذي تنعكس عليه أضواء لوحة العدادات . سألني وأسنانه تبرق بيضاء لامعة : معاك جنيهين .. –لا ..

ثم ترقرق في قلبي الأسى فأردفت

-أسف ,,

ثم قلت متوسلا

- لا يهم

لكنه أزاح رجائي بقبضته القوية ثم جذب محول السرعة وقفز بالعربة تاركا في أذني أمرا باترا

- انتظرني هنا حتى أعود بالباقي ...

تسمرت في مكاني مرتبكا وخائفا قليلا. تتعلق عيناي بالعربة التي تبتعد مسرعة. وجدتني وحيدا. في مواجهتي علي الضفة الأخرى من الشارع صف طويل من أبواب الدكاكين عمياء صامتة واقفة علي حافة امتداد إسفلتي لا متناه مضاء بمصابيح الطريق .

صمت مريب الوحشة تزحف علي من جميع الاتجاهات وأنا في بؤرة مخيفة, أنطلق مسرعا إلي بيتي. حذائي يضرب حصاء الطريق في أرتبك ولهفة. أسرع. أزيد سرعتي أفر هاربا. دفعت الباب الحديدي فصر صريرا عاليا ككلب دست علي ذيله صعدت الدرجات القليلة قافزا أتلفت ورائي كالمطارد. فجأة ملا سمعي محرك السيارة. لقد عاد بدا يطلق نفيره بقوة يدي تبحث عن ثقب المفتاح. النفير يدوي رهيبا, المفتاح يصطك بكل مكان ماعدا ثقب المفتاح, بدا السائق ينادي كحيوان مفترس

يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ..

صفقت الباب ورائي بقوة في ثوان كنت قد خلعت ملابسي وطوحت بها وقفزة إلي سريري وأحكمت الغطاء حولي ومازال السائق يزأر - يا أستاذ لك ثلاث جنيهات باقية ...

تشبثت بالغطاء وأنا أرتعد. أحاول لأن أهوي إلي قاع اللأوعي لأنجو

هدر صوت العربة راحلا. أحسست بالخلاص لابد أن الشارع لآن ساكن تماما. عيناي مغمضتان الحزر يضغط علي وعيي يدوسني بأقدم ثقال. ذلك الامتداد الإسفلتي المضاء بمصابيح الطريق, فتحات أبواب الدكاكين امتداد شاسع يوغل في البعد حتى لأحس بالدوار. مستطيلات واقفة متتابعة فيها مسوخ شائه. ناس أو هي جثث فئران هائلة هائلة متأكله ظلال تام ما عدا هذا المستطيلات المضاء التي تقف فيها هذه الأشكال المخيفة. في داخلي تسح دموع دافقة .

جدل العنف والوهن

صاحبة النزل :

تسكن في الطابق الأول . والغرفة اللاتي علي الأرضي تؤجرها مفروشة لطلبة الجامعة , أما في الصيف فيعمرها الآتون ينشدون الطراوي وريح البحر . نحن الآن في عز الشتاء وهموم الطلبة , تنزل كل يوم في الصباح تنظف وتروق وتنظر فيما حصل من تلفيات وتؤنب الساكنين علي النظام وهي في ذلك مسلحة بسلاح الإسكندرية من الشخر والشخط والنطر والأح وكل مايبلي الغريم بالخرس والذهول في عينيه وربما يغفر فمه خيبة وتعسا

والولد الساكن في غرفة تحتية يقول لها " حاضر طيب .. حاضر يا ستي .. وتفكر الولد في أمر السيدة أنها امرأة عجوز أهرمها السن فليس لها من الطلبة الساكنين ألا فلوس الإيجار ثم تصعد لشقتها بعد التفتيش اليومي لزبائنها من النساء المومسات , كلهن جئن إليها يشربن قهوتها ثم أن المعلمة تشوف لهن الفنجان وتقول للواحدة منهن أربع كلمات حسان طيبات إذن تطلع علبة السجائر والعزائم وبالقطع الفضية وورقات النقود وكل واحدة من ضيفاتها تبقي عندها ردها كمن الزمن وتذهب بعد ذلك لشغلها وتبقي السيدة وحدها مشغولة بصداعها .

ثم تبكر لجولتها اليومية تفتش علي غرفها والولد ينتظرها قال في نفسه أنه امرأة هرمه ولكن بقي لها بهاء في الوجه يتورد إذا ضحكت.. آه ياسلام وهي قالت في نفسها الولد الذي سكن عندها أخيرا له عليه عين تحزر عينه. تدور وتلف والولد قاصدها أردافها وصدرها يلطسها لطسا ببسطة كفه يلمس ويمسك وكلما أرادت ان تفر قبض علي يدها يستبقيها. بذلك وقعت في الناصية أنبهرت وبهرت أنفاسها وأقتم اللون الوردي في وجناتها ثم صعدت لزبوناتها من النساء المومسات جلست معهن شاردة لا تستطيع أن تفتيهم في أمرهن شيئا .

وفي تاني يوم وجدته ينتظرها يزنقهت تحاول أن تفلت بكومة لحمها لكنها لا يطاوعها جسمها أن تشخر فيه. تصغره وتلزمه الأدب. انفرطت منه عدتها الإسكندرية. أن تصرخ فيه فخانها صوتها وحولت أن تفر وكانت سبقت ارتبكت في شباكه 0قالت له ماذا تريد مني يا ولد ؟

قال لها " أريدك أنت.. أريدك كلك.. آكلك.. صعدت إلي مسكنها وهي ترتجف ارتجافا حتى المومسات جئن يتضاحكن وقعت عينها فيهم وتحت الطلا بأساء المهنة قالت في نفسها أنهن عندهن الرجال من كل نوع ثم يأتينني لينشدا حظا عند الوحيدة قالت لهن بالإذن يا أخواتي أروح لزيارة أمي؟ فخرجن كلهن وهي نزلت إلي طابق الأسفل قالت للطالب وهي تدخل غرفة وتغلق الباب وراءها "يا ولد" وفي صوتها كل الهزيمة قبض علي ذراعيها وضمها إلي صدره ولف ذراعيه علي ظهرها وقبلها في شفتيها وقالت له دائخة "لا.. لا.. ليس هنا سيكون ذلك عندي قبلها تقسم علي المصحف ألا تفضحني..؟ تأمل الكومة الهرمة علي السرير .. رد عليه كالمخدر نعم اجيك.. وأحلف وصعدت السيدة صاحبة النزل إلي مسكنها استحمت صففت شعرها وصبغت خدودها ولبست قميص نوم حريري أحمر كان عندها من زمان نظرت في المرآة ارتجفت قامت تنشد المصحف الشريف, وجدته فردته علي حجرها لا تعرف القراءة , أغلقته نظرت في المرآة ففزعت هتفت الولد لم يأت... تقطع الشقة بخطوات متسرعة ملهوجة ثقيلة والمصحف تحت ذراعها اليمين فتحت باب شقتها وانطلقت تعدو الدرجات النازلة للغرف تصفق باب الولد بيدها أليسري ولا من مجيب. تركت المصحف يسقط لتصفق الباب بيديها تصفق وتصفق ثم نطحت الباب برأسها وصرخت وسقطت والدم ينبجس من جبينها


حالات الجسد

ركب عربة عسكرية يقودها جندي واثنان أخران يجلسان في المقعد الخلفي صامتين ملتبسي الوجهين بمشاعر غامضة أمامه تسير ناقلة وقود هو في حراستها. يعرف أن طائرات العدو تغير علي طرق النقل التي تسير عليها قوافل الإمداد ويعرف أن الفترة التي تمتد بين غارتين عميقة الصمت وشديدة الإملال تفصل بين بأسا الحرب .

وهو بذلك يكره العدو حين يهجم وحين يتركه ينتظر الهجوم لكن أي نوع من الكراهية تملكه... ليست أبدا هي التي سودت قلبه يافعا وشابا في قريته البعيدة من مرامي النيران الآن يعرف جيش الأعداء يعرف أفراده يري وجوههم الأيدي تحرك آلات الهلاك, الأجساد الغضة تردي بالرصاص وتطعن بحراب البنادق. المعرفة إذا حميمية كيف يقتلهم أيضا ويخاف الي الرعب أن يقتلوه .

عربته العسكرية تسير خلف ناقلة الوقود, تئز دواليب العربات في جوف الصمت ثم إذا ينقسم من أزيز العربات صفير طائرة مغيرة تنبه جسده اليقظة تسري في عضلة أمشاجا أمشاجا علي قد الصفير المحلق ألتفت إلي الجنود الثلاثة يسمعون وتقتم الوجوه وتزم الشفاه وتضيق العيون أمامه تدب الناقلة. هل تأرق سيرها ؟ والطريق آت من عمق سحيق مرسوم مجراه بالإسفلت وحواليه فراغ مزحوم بتلال الرمل. والصفير يجيء من خلف السحب يرطم القمم الرملية ويتردد مضطرب الأصداء تصلب جسده. انتبه زفر تحكم في الشهد علي جانبيه وأمامه يأتي من خلف الناقلة يوغلان في الأفق بطيئا ينتفخ قلبه والمخ بالصفير من ثقبي الأذنين اللذين اتسعا بآلة الخرم المدومة انقضت الطائرة وقفز الجنود ولحق بهم انبطحوا .

دفن وجهه في الأرض خلف نبته جعضيض ملتفة أنفاسه تجذب له ريحها وذرات من الرمل الذي يريح عليه خده. تقبب رأسه وعلت قبتها حتى لا تصيبها رصاصات الطائرة التي تحلق وتهبط في دورات متتالية وقشرة رأسه تعلو كل مرة لتستقبل الطلقات. ترن في التجويف في كل جسده. لكن قدميه أوغلا في البعد سرحا في الأفق من وراء ظهره فلا طاقة له علي أن يحركهما ولا طاقة له علي يديه أن يمدهما يستر بهما قمة رأسه من القذائف والقذائف تنتشر تصيب كل خلية من خلاياه يحس بها يحس بالوخز في كل واحدة علي حده وسط الألم وسط كل هذه الضجة كان يحلم بما حصل

هجوم الطائرة كابوس يعاني منه الجسم يرقبه في صفيرها خلف السحب . يشتد الصفير. انقضت صرخ في جنوده ولحق بهم انبطح علي الأرض وفي أذنيه الضجيج وفي عينيه خيال الناقلة وجسمها مرشوق بالقذائف تميل من علي الطريق وقد تخلي عنها سائقها وزملاؤه. تمضي مترنحة جراحها التهبت نارا حتي رست علي تل من الرمال صارت كتلة لهابة متي تنفجر...؟

والطائرة تذهب وتجيء وفي كل مرة تفرش الأرض بوابل من الجحيم ثم انكشحت اختفت غاب صفيرها ثم يصفر وجه الأرض عن تشوهاته عن النار والدم عن البقايا من الحديد والأجساد ثم يسفر وجه الوقت عن الانتظار الممل للغارة المقبلة ثم قام وقام من حوله من بقي من جنوده تأمل حوله مطروحون علي الأرض قتلي ومجروحون يتأوهون من الألم أنها تلك حالات الجسد مقتول أو مجروح أو سليم يعيش يرقب الضرب



عبد الحكيم قاسم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى