نور الدين وحيد - الجنرال الحمري.. سايغون درة يا ثوار.. بورتريه

رفاق السلاح في فيتنام يسمونه “الذهب”. ورد ذكره في كتب التاريخ باسم الجنرال الحمري، نسبة لبلاد احمر؛ تلك الربوع التي، في خضم الأحداث نسي كل شيء إلا انتسابه إليها . من صهد الكنتور إلى قر الألب فمروج صايغون ومن جندي إلى جنرال؛ ملحمة صاغها الرجل بقوة الساعد و حضور البديهة، على الأرض و في الميدان وإلى جانب شعب باسل مستبسل في وجه قوى الظلم و الطغيان: فرنسا وبعدها مريكان: انه المواطن المغربي أحمد بن علال الترغي، من دوار سيدي بومهدي الغوتي، جماعة اليوسفية الكنتور…
تقول الأسطورة……
لم تكن للشاب أحمد بن علال الترغي المزداد أواسط العشرينيات من القرن الماضي علاقة بالسياسة و ما يجري خارج محيط قريته ، إلى أن كان يوم ضبط فيه نصرانيا يلبس الشورت !!! و يقيس فدادين الذرة بالمنظار! ! ! و بنات الدوار في الطريق إلى البئر! ! ! وفوق كل هذا يتعجرف!؟ ما كان منه الا ان حمّل قبضته الفلاحية حقد السنين ، و كال للفم التي لا تقول السلام عليكم . خر النصراني أرضا. ما تركل ولا زفر…مات!…
صار على ولد علال أن يهجر المكان قبل وصول سلطات الاحتلال. هاجر لا يدري إلى أين ولا متى سيعود. زاده تين مجفف وماء قليل و سلاحه هراوة شأن الأنبياء والصديقين. و أكيد أنه، على هضبة “الزاوية”، التفت يلقي نظرة استوداع، لا وداع، على تلك الربوع
 “آه سير آ الزاوية، ما أنا ساخي بيك، آ ربي…
………………………………أنا سخاك الزمان علي”….
.مع أولى تباشير الصبح كان يدخل سوق الخميس. استرعت انتباهه جمهرة جنب حائط و شاحنة عسكرية فمشى إليها من باب الفضول. سأل ماذا هناك فقيل له”هل تبحث عن عمل؟” قال”نعم” قيل “مااسمك؟” قال “الحمري”، فبهذا الاسم سجل من حيث لا يعلم في كناش الجندية الفرنسية وبصم بأصابعه العشرة ثم ركب الشاحنة العسكرية. فمنها لأخرى إلى الثكنة إلى الباخرة…إلى الحرب العالمية : ….الخطوط الأولى للنار.
من الصهد إلى الثلج، من السيوف و العصي إلى الاسلحة النارية، تأقلم بسرعة فائقة ولما وضعت الحرب أوزارها كان برتبة سرجان، و البحث عنه جار باسم احمد ولد علال الترغي، ما حتم عليه البقاء في الجيش الفرنسي إمعانا في التخفي، وفي ليلة ظلماء شحن كالبضاعة على مثن طائرة إلى…الهند الصينية؛ هناك حيث يتعين على المرء أن يعتبر نفسه ميتا كي لا يباغثه رشاش من وراء أكمة أو من داخل جدع شجرة ، أو يطلع عليه من تحت مياه جارية سهم يخترق العنق فتكون ميتة بلا سلام على ملائكة الرحمان.
شيء من هذا لم يرهب الحمري، فقد اعتبر نفسه ميتا ولم يعد له ما يخسره لولا أن افتتن ببسالة ذاك الشعب العظيم، ما أثار أسئلة لديه لم يلبث أن وجد أجوبة عنها غداة اقتحام قرية صغيرة بعد مقاومة بطولية. راعه منظر جثت الأطفال والنساء! ! !
-”أنا ما جئت لأحارب الأطفال والنساء؛ سيدي الرقيب!”
قال ورمى السلاح في وجه الرئيس. فلاحتواء الوضع حكم عليه بأيام في “الكاشو”، بعدها نقل إلى التكنة حارسا على مستودع المؤونة، وعلى الطرف الآخر شعب يقاوم ببسالة منقطعة النظير. افتتن الحمري بهذا الشعب، رجالا و نساءا!؟ واحدة بعينها يتنهد كلما أتى على ذكرها. تؤمن بشيئين اثنين: الحب و الثورة. مناضلة شيوعية. علمها الشهادتين…و تزوج منها !خرجت ذات يوم ولم تعد. يحصل هذا في زمن الحرب. ماتت ولكن ليس قبل أن تمد الجسور بين الثوار والحمري الذي ظل يزودهم بالمؤونة، من خزين فرنسا، إلى أن افتضح الأمر وفتح تحقيق في الموضوع قاد إليه، ولكن إحدى قريبات الهالكة سبقتهم إلى الثكنة. فقبل وصولهم كان يعبر النهر إلى الضفة الأخرى، دليله امرأة من طمي وطين ونار، في رحلة مثيرة جدا جدا . بالليل في الغاب علمها الشهادتين، و تزوجها . في ملة الجنرال و اعتقاده؛ الدخول بامرأة من دون زواج أمر غير مستساغ نهائيا و مطلقا، ولا يخطر على البال.
استقبله الثوار بحذر واضح و مفهوم جدا، فالحاجة إليه حارسا لمخازن المؤونة، لا محاربا مثار شكوك عدة . صعب أن يحظى المرء في مثل الحال بثقة الثوار، و لكن الحمري بلغة الشهامة و الشجاعة حاز عليها. و مع الأيام لقب ب “الذهب”، و وشح جنرالا!!! أول عملية من إيحائه وتخطيطه كانت اعتراض سبيل قافلة تموين ، ثم أخرى وأخرى . فمن خزائن المؤونة إلى خزائن الذخيرة سارت كفة الحرب تميل للجهة الأخرى.
أفتح قوسا هنا لأقول إن الكثير الكثير من التفاصيل تفيد أن الحمري انضم لصفوف الثوار بصفة أحادية و مبادرة شخصية واختيار فردي، و إلا ما كان ليخضع للكثير من الاختبارات. و المناضل الشيوعي المغربي المعروف باسم “معروف” لم يبزغ دوره في نشر وتعميم رسالة المجاهد عبدالكريم الخطابي انطلاقا من مصر إلا وقد بلغ الحمري رتبة جنرال في حرب العصابات. وهذا بشهادة بعض المستجوبين من طرف de lanoe في poussières d’empire. و إذا كان معروف قد عاد إلى الجزائر بداية الستينات ليقضي بلا مجد، في ظروف مذقعة، فإن الجنرال لم يعد مع الأوائل للمغرب سنة1972 لسببين اثنين: أولهما أن أوفقير وقت إعداد لوائح العائدين كان رجل النظام القوي، وبين الحمري و أوفقير حسابات أخرى، خصوصا في معركة دان بيان فو الشهيرة، حيث جرى الدم المغربي وديانا من كلا الطرفين؛ فمن جهة الثوار كانت أعداد كثيرة من المغاربة قد انضمت بفعل تعميم رسالة الخطابي، وفي الجهة الأخرى “قبطان إسمه أوفقير” لايجد سبيلا لإرضاء سادته في باريز رغم العدة والعتاد…سحقه الحمري محقه و أسياده، حكايات تشبه الأساطير جديرة بهوليود العرب يا عباد الله. باختصار شديد جدا؛ ما كان الحمري ليعود إلى المغرب و أوفقير في السلطة…أما السبب الثاني الذي أجل عودة الجنرال لبلده و دواره فهو نداء صايغون وحرب فيتنام ضد مريكان هذه المرة. وقتها كان الجنرال قد رزق ذرية من ذاك الشعب العظيم، ما زاده بطشا و شراسة، من هانوي إلى صايغون ؛ الرصاص كالمطر و وحده الله يحيي و يميت .
رحمة الله عليه كان يستنكف عن ذكر أهوال الحرب حتى لا نشيب لهولها نحن الولدان. ينظر في يديه ظاهرهما وباطنهما و يشعل سيجارة و يرسل بصره في البعيد البعيد . لكنه لا يتمالك نفسه لرؤية فيلم أمريكي ؛ ينفجر ضاحكا مجلجلا . أركان سينما”الحمراء” و”م.ش.ف” باليوسفية تحكى عن ضحكته المجلجلة تلك :”أمك يا أمك! ! !…”" يقهقه عاليا و يضيف مستخفا هازئآ : الحولي آ بّا! ! !” تم يطلق صفيرأ ….”سييييير سير” . طوال العرض لا يسكت و لا يكف عن السخرية . . . من تعاليقه تلك تعلمنا نحن الأطفال وقتها كيف “نتعامل” مع هوليود!…ولا أدل على ذلك من أننا، أطفالا، كنا نلقب الابطال منا بأسماء الهنود الحمر، والحقراء منا “دجينكو”، “رينكو” “صاباطا”…هوليود لم تخدع كمشة أطفال فقراء في مدينة إسمها اليوسفية! مدينة الجنرال.
في زمن الحرب، يقول الجنرال الحمري، لا تنظر في عين عدوك، فلن تستطيع قتله إن فعلت. مهما تكن قاسي القلب فلسوف تتردد لحظة قد تذهب بعمرك أنت. مرة “أخطأ” الجنرال ونظر في عين أسير فلم يقدر على الأمر بقتله، وكان أن أدى ثمن هذا “الخطأ” من خيرة رفاقه…اسمه مبارك…وهو ذات الاسم الذي سيطلقه على ولده البكر:مبارك. صايغون يا صايغون؛ الرصاص كالمطر، و الموت مطلب عزيز في حال الأسر…و التوالد الكثير استراتيجية حربية.
وضعت حرب فيتنام أوزارها بهزيمة نكراء لأمريكا وانتصار الشعب البطل، فما عاد الشوق للوطن يقاوم؛ خصوصا و أوفقير مات. حظي بحفل وداع في القصر الرئاسي بحظور هوشي مينه والجنرال جياب و كبار الضباط، و عزف النشيد الوطني على شرفه و هو يمشي في المطار على البساط الأحمر حتى الطائرة. عاد و زوجته “فاطمة الزهراء ماو” وأطفاله إلى المغرب سنة1976. وجد ” أصحاب الحال” بانتظاره في المطار. شتان بين مراسيم توديعه هناك، و استقباله هنا. جردوه من كل شيء و أرسلوه إلى هامش مدينة مهمشة، بعد أكثر من 30 سنة من حرب لأخرى، من جبال الألب حتى مروج آسيا الصغرى. سكن بيتا متواضعا بابه تشرف على بوابة مدرسة لن تطأ أرضها أقدام أولاده لأن لا أوراق لديهم ولا بطاقة تعريف ولا قنصلية!…و لا شغل للجنرال…و بعض الحقائق مؤلمة موجعة، و لكل مقام مقال. و الأهم أن الجنرال قضى بقية عمره الطويل، من 76 حتى 98، على عتبة الفقر و الإقصاء و التهميش الصريح العبارات، و المراقبة اللصيقة من طرف أذناب المخزن …لكنه وإلى آخر يوم في حياته ظل على إبائه و أنفته يمشي في الشوارع جنرالا مرفوع الهامة مضبوط الخطو يبتسم للأطفال، و يقهقه عاليا لرؤية القبطان قائد الحامية وقد ثقلت موازينه فاندلقت بطنه “كرش حرام”. مرة في إحدى المرافق الإدارية، نادى الموظف المكلف بتوزيع بعض الوثائق على المواطنين…نادى:” احمد بن علال الترغي…” فرد عليه الجنرال و كان وسط الناس بالانتظار: “الجنرال آ وليدي…الجنرال الحمري.” اعتذر الموظف قائلا ” اسمح لي آ سيدي؛ ما عرفتكش…”….قهقه الجنرال قائلا “واش تعرف؟…تمضغ المسكة؟”
جل المستجوبين في كتاب poussières d’empire تحدثوا عن الجنرال الحمري. لا أحد كان يعرف أنه عاد إلى بلده، و أنه عاش إلى حدود 98 مراقبا عن كثب إلى أن فارق الحياة على حين بغثة…دخن سيجارته و شرب كأسه ونام و لم يفق . ترك وراءه امرأة حقيقية من ذاك الشعب العظيم لم تتبدل مع تبدل الأحوال بين وضع جنرال و وضع عاطل، و أبناءا لم يدخلوا المدرسة قط…و مدينة شوارعها و الأزقة و الأشجار تشهد أن مر الجنرال من هنا، و على تلك الناصية قعد يرقب حركة السير وفي عينيه نظرة نمر حبيس.
أمريكا يا أمريكا؛ من يبدأ العدوان لا ينهي الحرب يا أمريكا.
وطني التليد يا طويل العمر؛ كن عادلا قبل أن تكون غفورا رحيما.
مون جنرال :
سلااااام سلاح !!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى