أدب السجون عصري فياض - رمال ساخنة

-1-
سبع وتسعون يوما، كان قد مر على وجودنا في معتقل النقب الصحراوي، المعروف فلسطينيا بـ " أنصار 3" وإحتلاليا بـ " كتسعوت"، ليصل بنا التاريخ للصباح السادس عشر من آب من العام ثمانية وثمانين، فقد نُقلنا بقسوة وعنف من سجن جنيد،يوم الثاني عشر من أيار المصادف ليوم شديد الحرارة من الثاني عشر من شهرر مضان المبارك، كانت رحلة عذاب قاسية ومهينة، كان علينا أن نجلس في مقاعد الحافلات مكبلين مطأطئي الرأس، تحت وابل من الشتائم والضرب والتنكيل والتهديد والوعيد بنقلنا لمرج الزهور، المكان المعروف في جنوب لبنان الذي ينقل اليه المبعدون من الاسرى إلى خارج الوطن،... أخرجونا من سجن جنيد في الساعة التاسعة الا ربعا،وصلنا عصرا لتلك الرقعة الصفراء الجافة التي تضيف للرحلة الشاقة المهينة وما فيها قسوة إضافية، عندما تترجل من الحافلة وأنت منهك، وقلق وحائر لهذا الواقع الذي تشاهده لأول مرة،تجد أمامك الصراخ وأوامرالجلوس أرضا على الرمل تحت وطئة الشمس، كان عليك أن تجلس طويلا وسط التوبيخ والشتائم والضرب، أحيانا كي يتم التأكد من شخصيتك،وبعد ذلك تنقل غير بعيد لإستلام ملابسك القديمة العفنة التي ستلاصقك من الآن فصاعدا بلونها النبيّ القاتم دون أن يسمح لك إدخال أيُّ حزام لثبيت سروالك حول جسدك الموعود بالنحافة.
دخل الليل، جاء ضابط كبير في المعسكر .... حاول من خلال حديثه معنا أن يقنعنا بحتمية الإنسجام مع هذا الواقع... تشجع بعض الاسرى ،
سألوه :
- لماذا لا تسمحون لنا بإدخال الامشاط لشعرنا؟؟
.. فرد بجلافة واستهتار :
- ممنوع
سألوه :- الأمشاط التي في أماناتنا بلاستيكية وهي لا تخل بأمن المعسكر !!
كرر الموقف الرافض، فسأله الاسرى :
- كيف سنمشط شعرنا إذا ؟؟
فقام بفتح المسافات بين يدية ومررها بين خصل شعره الاشقر الناعم قائلا:
- هكذا تكون الامور على ما يرام
كان آخر من دخل قسم 2، المربع الاول مجموعة كنت من ضمنهم، وذلك بعد الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بعد أن أفطرنا على حبة تمر واحدة فقط، وجرعة ماء، لنرمي أجسادنا المنهكة على قطعة من الفراش الاسفنجي الرقيق والقديم والعفن، ونلتحف "ببطانية" أثرية ذات رائحة كريهة، تسبح في الرمل والحصى والغبار، و"بطانية"أخرى بنفس الميزات مثنية تحت رؤوسنا لتكون وسادة خشنة تضيف حرارة إضافية في هذا الجو الصحراوي اللاهب،.... لنصحوا رغما عنا صباحا لأجل وجبة العدد الإجباري الاول،.... نجلس في الشمس على الرمل مكبلي الايادي للخلف،ضامي الارجل، وبعد الصلب العددي لربع ساعة على الاقل،نتوجه بشكل جماعي وكان عددنا يقارب المئتين وخمسين معتقلا في المربع الواحد للمغسلة التي يوجد فيها عشر مواسيرتستمد ماءها من تنك معدني واحد، فيه الف لتر ماء مطلوب أن يغطي كل إحتياجات المعتقلين غسيلا ووضوء وحاجات أخرى...
*
سبعة وتسعون يوما، كانت معاناتها وقسوتها كفيلة بتنحيف الاجسام بشكل مذهل، فيكفي أن تعرف أننا أجبرنا على لبس السراويل البنية بدون حزام حيث ثبتنا زرَّها بالعروة الاولى، لتكتشف وبعد هذه المدة أن الزرّ نفسه ما عاد يثبت عليك السروال الا بالعروة الرابعة،فالمسافة البدنية بين الزرّ والأول والثالث ضاعت نحافة في فترة لم تتجاوز الثلاثة أشهر... إضافة إلى أن الشبح في عز الحر اللافح كان عقابا فورياً لأي خطأ يرتكبه أي أسير، أو القاء قنبلة الغاز،.... وبالنسبة للطعام، معالق من الارز، وفنجان سادة من الحساء، وبالنسبة للحم، فقد قدموا لنا من مخازن جيشهم معلبات "البالموليف" منتهية الصلاحية منذ خمس سنوات حسب ما قرأناه على خليفة تلك العلب، فرفضناها، ولم يأتو بغيرها الا أصابع "النقانق" الصغيرة كل مدة، أما الشاي والقهوة فكانت حلما، الشاي مرتين إسبوعيا، والقهوة موسمية، كما كان مطلوب منا إجبار بعض الاسرى للعمل الشاق من الساعة الثامنة صباحا حتى الساعة الثامنة مساء، والاجرة خمس سجائر من نوع "اسكت"، ولما كان قسمنا هو القسم 2 يضم خمس مربعات الاول والثاني والرابع أسرى اداريين من الضفة ، والخامس اداريين من قطاع غزة، وبعد أن رفض أسرانا العمل لأننا إداريون،ولأن الحركة الاسيرة أبطلت هذا البطش ( العمل الشاق) في أول مواجهة مع سلطات السجون في بداية السبعينيات، قامت إدارة معتقل النقب التي كان يترأسها العقيد "دفيد تسيمح" الضابط ذو الخبرة في الشرطة العسكرية، حيث خدم في معسكر أنصار في جنوب لبنان بعد إجتياح عام 1982، قامت بنقل أسرى من قطاع غزة الى المربع الثالث، وهم من الاسرى المحكومين لكي يأخذ عددا منهم ويجبرهم على العمل الشاق يوميا...
-2-
في صباح ذلك اليوم الموافق للسادس عشر من آب، وبعد العدد الصباحي مباشرة، هناك همسات وتداولات بين اللجان التنظيمية التي تطورت شيئا فشيئا بين الاسرى، وكانت المشاورات سرية الى حد ما،خوفاً من بطش إدارة المعتقل وضابطيّ القسم اللذان كانا يتلذذان في التنكيل بالاسرى، إنتهى العدد، وجاء كل من الضابطين لإخراج أسرى المربع الثالث للعمل الشاق، رفض الاسرى بعد تنسيق موقفهم هذا مع كافة الهيئات التنظيمية وبتشجيع منها، فأعلن الاستنفار، وأجبر الجميع في ذلك المربع على الخروج للساحة تحت وطئة الشمس الحارقة من الساعة السابعة صباحا، وحتى الساعة الثانية ظهراً، وكان التنكيل بشتى الالوان والاشكال، من تكبيل و ضرب بالهروات وبصق وركل وشتم وتعنيف، حتى وصل لان يقوم الضابطان الساديان بالدعس على رؤوس بعض الاسرى بعد تكبيلهم ودفع وجوههم الى الرمال أرضا....
لقد كنا في المربع الاول نحس بوجود توتر ما،لكن لا نعرف التفاصيل،هناك حركة جنود نحو المربع " المتمرد "، لكن كونه محجوب عنا بالمربع الثاني، فإننا لا نراه،.... قيادة التنظيمات كانت بمعظمها في المربع الاول،كنت أنا في الخمية رقم 1 من المربع رقم واحد التي تضم 22 اسيرا من فتح والحزب الشيوعي " حزب الشعب" حاليا،كان الموجه التنظيمي لهذه الخيمة مصطفى جرادات ومسؤولها الاداري عادل ابو زيد،طبعا نحن ومع مرور الوقت،ونتيجة هذه الظروف أصبحنا أكثر توترا،وفي ذلك الصباح طلب مني الصديق وزميل الاسر سموح أن اشاركة لعبة الزهر،حيث لا توجد لعبة للتسلية غير طاولة زهر لكل خيمة أحضرها الصليب، فلا مذياع ولا قلم ولا صحف ولا كتب ولا حتى سماع لصوت موسيقى قطعا، بدأت اللعب مع صديقي سموح ففزت بالجولة الاولى، وأصر أن يرد غلبه في الجولة الثانية، حاول مرارا، لكنه لم ينجح، أصر على الفوز، فرفضت بعد أن شعرت بضيق وتوتر، ومع إصراره ومحاولة العبث بالاحجار تطور الوضع بيني وبينه حتى دفعت عليه وعاء بلاستيكيا كنا نستخدمة لمزج الشاي المتبقي من الطنجرة ببعض الخبز والمربى لكي نصنع منه الحلوى، ثم وقفت متحفزا لاي ردة فعل منه على وقع نوبات الضحك المتواصل التي كانت من كل من مصطفى جرادات وعادل ابو زيد وباقي الخيمة، فما كان من سموح السموح الصامت الا أن غلبني بأخلاقه وببعض كلماته للضاحكين، فخرجت نادما على ما فعلت، فتبعني الصديق ناصر الدمج القريب من القرار التنظيمي وأخبرني أن الجو متوتر وأن الصدام قد يقع في أي لحظة...

إقتربت الساعة من الثانية ظهرا وخمس دقائق، المربع رقم 5 من القسم الذي نحن فيه والمقابل للمربع 3، كان فيه معتقلون إداريون من غزة، عندما شاهدوا الضابطين ومجموعة من الجنود يدوسون رؤس الاسرى، إنفجروا بالتكبير ورميّ الطناجر وأواني الطعام نحو الجنود، فإنتشر الهتاف و التكبير في كل المربعات، حتى في المربع الخاضع للقمع، فإنسحب الجنود وهرب الضباطين الى الممر الذي يقسم المربعات الخمسة، فتصاعد التكبير، وبدأت الحجارة تنهال على الجنود من كل ناحية وصوب، وبدأ الجنود بالقاء قنابل الغاز بكثافة، والضابطين يطلقون الرصاص نحو أقدام الاسرى كلما اقتربوا من بالأسلاك الشائكة التي تحيط بالاقسام، المربعات الخمسة طمرت بالغاز، وأحيطت بطلقات النار الحية من كل جانب، فسقط معظم الاسرى في حالة إغماء شديدة في خيمهم، بينما كان الضباط والجنود في حالة إرباك وتوتر خوفا من إنفلات الامر واقتحام الاسرى للسياج المحيط بالمربعات وتهديد الجنود،وبعد ربع ساعة من المواجهات إمتلات خلالها ساحات المربعات الخمس بقابل الغاز المسيل للدموع الخانق، شوهد بعض الأسرى وخاصة من المرضى وكبار السن وقد أغميَ عليهم قرب البوابات، وبقي بعض الاسرى واقفين بشموخ يواصلون رشق الجنود حتى هدأ الوضع قليلا، فدخل المدعو العقيد دافيد تسيمح يحمل سلاحة الرشاش بيمينة ويشق الطريق الفاصل بين المربعات الخمسة منفردا....
نظر الى المربع الاول الذي كنا فيه ....فقط 3 الى 4 أسرى هم الذين لم يسقطوا جراء كثافة الغاز، توجه الى المربع رقم 5 ( غزة اداري).... تقدم من باب القسم فشاهد عدد من الاسرى... وضع رشاشه على الباب وصوبه نحو الاسرى وقال بالعبرية :
- هل يوجد بينكم رجل؟؟
أدرك الاسرى أنه ينوي القتل، فقاموا بإدخل زملائهم للخيم بشكل عاجل، أسعد الشوا أسير إداري من غرة، كان يتقن اللغة العبرية، وكان يدخن سيجارته، رماها وداسها بقدمه، وهو داخل الخميمة المرفوعة الجوانب، وتقدم متحديا لتسيمح قائلا:-
- أنا رجل... فماذا انت فاعل...؟؟
إلتفت الاسرى للشوا وهو ينظر بعين حادة لتسيمح، فأعأدوه وهو مُصّرٌ على التقدم نحو البوابة الرئيسية للمربع حيث يقف "تسميح"، زملاؤه يدفعون به لداخل الخمية والشوا يتمنّع... وما زال "تسيمح" مصوب سلاحه بإتجاه الشوا، وما أن أصبح الشوا داخل خيمته ونظره ما زال نحو "تسيمح"،ضغط "تسميح" على الزناد موجها رصاصه الى صدر الشوا فإرتقى شهيدا على الفور، ثم غادر القاتل يتفقد باقي المربعات... أطلق النار على حمامات المربع 3...ثم التف نحو المربع 2، حيث كان المعتقل بسام السمودي إبن بلدة اليامون متوجا لخيمته، بعد غسل وجهه من آثار الغاز، فأطلق عليه النار من الخلف لتخترق الرصاصة جسدة ويرتقي شهيدا،واصل "تسيمح" سيرة وجاء للمربع الاول،فأطلق أربع رصاصات على حمامات المربع الاول بقصد القتل،وبحمد الله لم يكن في الحمامات التنكية أي شخص،لأن الرصاصات الاربع إخترقت الحمامات الثمانية جميعها...
أمام أبوب المربعات الخمس سقط ثمانية وعشرون جريحا من المربعات الخمس منهم بالرصاص الحي والحروق والاغماء والنوبات القلبية، وسرعان ما حضرت للمعتقل طوافتين عسكريتين نقلت الشهيدين والجرحى لمشفى سوروكا في بئر السبع على عجل...
في المطبخ الذي يعد الطعام الهزيل للاسرى من حيث الكم والنوع، كان يعمل نحو تسعة أسرى من كافة التنظيمات،هناك شاب كان من بين طاقم المطبخ كان يتابع مع زملائه ما يجري، عندما شاهد إدخال الشهدين مدرجين بدمائهم الى عيادة القسم المجاورة للمطبخ.... صرخ وأسرع الى السكين بعد أن إنتابته نوبة غضب، فأمسك به زملاءه، وإنقضوا عليه ليمنعوه القيام بأي عمل قد يقود لمجزرة جديدة، وبصعوبة سيطروا عليه، ثم عادوا جميعا الى مربعهم الاول في حالة من الذهول...
كان يوما قاسيا وصعبا، فجر باليوم التالي هبة كبيرة في قطاع غزة والضفة المنتفضتين،وأعلن الاسرى في معتقل النقب على اثرها الاضراب المفتوح عن الطعام...
وفي العام 1992، و بعد خمس سنوات على تلك الحادثة، وعندما توفي أحد الاشخاص في بلدة اليامون، قاموا بحفر قبره بجوار قبر الشهيد بسام السمودي، ففتح قبر الشهيد،وإذا به كما هو لازال عرقه على جبينه، ولا زال رمل النقب على خده.

بقلم عصري فياض

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى