عمر الصايم - رؤيا الكبش.. قصة قصيرة

نطح الخروف حاضره بعنف! ضرب الحائط بقرنيه حتى شج رأسه، ثم رقد متكئا على شقه الأيسر يجتر أعشابا جافة وبقايا صحف ورقية. ينسرب ماء العشب إلى بطنه بذات غضبته. مع بزوغ الشمس أدركت الخراف المقيدة بالمنازل مصائرها المحتومة، صدمته معرفته بالأمر، ظل لسنوات ثلاث في هذا البيت يفعل ما يحلو له، ينعم بحياة الخراف الأبدية. زوجته النعجة تغط في نومها كجدي صغير. تحسسها بنظره، عيناها مكتحلتان، أنفها معقوف، ثدياها بازنجتان طريتان. استيقظت لما أحست نظراته، قامت وتمطت بكسل أنثوي، أخذت تمضغ اعشابا جافة وترمقه بنظرة جافة. نطح الخروف الهواء، نشق ذرات البول العالقة فيه، أرخى شفته السفلى، وهز جمجمته بقرنين يبحثان عن عراك قادم. أسقط حاضره وهو ينفض فروته، تمطى ليرى غده؛ ظل يغالب دمعه أن يسقط، يستحى ان تراه النعجة يغادر صمود الأسلاف من الكباش، هي لا تعلم اي مصير سيواجه، اي غد تشرق عليه الشمس!
نطح الخروف حاضره بعنف! جر الحبل مسافة أن يقترب من النعجة، يشده الوتد إلى قيده. أبصر بيت الدجاج البلدي بالجوار. في مرات كثيرة رأى رقاب الديوك تجزها السكاكين، تخضب دماؤها الأرض. يأتي صديقه سالم وببراءة يحملها إلى إناء يغلي بالماء، تذكر انه لم يلحظ توقف الدجاجات عن إخراج البيض. سالم يأتي كل يوم بالأعشاب والماء، يربت على عنق الخروف، يجس ذيله. قبل اشهر نطح سالم، قرناه جديدان، وهو مزهو بهما، ثم عاد وندم على تلك النطحة التي جندلت صديقه كهرة بائسة . أخذ يقترب من النعجة. بادلته جر الحبل حتي لامس أنفها بوجهه. تأمل عينيها الواسعتين، رأى واحة، ماء بارد، وأعشاب لذيذة. كانت عيناها تتسع مع نظراته، تصير بحجم الطشت، ثم فوهة البئر، حتى تحتوي الكون كله. تذكر تلك الأيام! حين يكون مزاج أبي سالم صافيا، وأبيض كالدقيق؛ يأتي ويعتقه من الوتد؛ فيمرح في عالم بلا اوتاد، تمتلئ أنفه بعطر أنثاه، يقضم الأعشاب اللذيذة على تخوم واحتهما العجيبة، لم يكن يشعر بأنه منهك مثلما هو مشدود إلى قيده الآن.
نطح الخروف حاضره بعنف! منتظرا آلامه الموعودة. جاء سالم بحزمة من الكلأ، ألقاها على الأرض مفرقا بينهما، ثم جلس ينظف صوف صديقه، ويمسح وجه النعجة. تذكر أنه نطح سالم ذات زهو، لكأن تلك النطحة نزعت شغبه مع الكائنات الأليفة. في يومه هذا ليس بمقدوره أن يأكل من حزمة الكلأ، أو أن ينظر في عيني صديقه. تساءل: هل حين يذبحونه في الغد سيجلس سالم بجلبابه الأبيض لمائدة لحمه؟! حدجه بنظرة قاسية، وقال: ( أففف لو أكلت من لحمي، وعدت انا للحياة؛ فسأنطحك نطحة قاتلة ) لم يفهم سالم بعبعة خروفه، بيد أنه رمقه بنظرة، وقال: ( سأكون حزينا بعد ذبحك، سأحرم اللحم على نفسي) لم يسمع الخروف شيئا سوي فرطقة الأعشاب في فم النعجة، وهزيز القصب تحت قدمي سالم وهو يغادرهما.
نطح.الخروف حاضره بعنف! اقترب من جردل. الماء، رأي عالما يرتسم على صفحته، شاة تيعر، بقرة تخور، ونعجة تعاني المخاض، كون يولد في وداعة. رفع رأسه دون أن يشرب، مد شفته العليا في شكل قوس. نظر إلى النعجة، ذيلها دسم يتراقص كمؤخرة أنثى بشرية، برقت بين قرنيه أسئلة ساخرة؛ لماذا توجد فوهة الحياة في أكثر الأمكنة وعورة؟ يا لحظ التيوس؛ إناثهن تبدي مفاتنها عارية من ستائر الصوف! تحرك ذيل النعجة إذ كانت تهش ذبابة، برقت عيناه لما رأى حركة ذيلها، تبادلا النظرات، إرخاء الأذنين، والأصوات المهموسة. جاء أبوسالم، تمتم وهو منكفئ على الحبل( الليلة آخر ليلة.. انثر بذورك) . اطلق خروفة من الوتد. رأى أنثاه اجمل إناث الأرض حين قفز إلى الضفة الأخرى من كون الجردل. يجري الدم حارا في شريانه الخارجي. ساعتئذ لم يتذكر شيئا غير أن الجلابيب البيضاء ستملأ شوارع المدينة، على جثته سيتسامح المتخاصمون، يعود المسافرون لقضاء العيد، وسيكون لحمه لقمة سائغة لإناث الرجال الثرثارات، الغلمان، الشيوخ، وكرش أبي سالم. تراءى له مذبح أبيه فحل القطيع آنذاك وهو يرزح تحت شيفرة لا ترحم، غارقا في دمائه.. أغمض عينيه وفتحهما. اقترب من النعجة وتنسم عبقها، قطرات من البلل تناثرت على تلافيفها، ذيلها تقوس، وأرخت رأسها. دس أنفه بين الذيل وساقيها، ثم رفع رأسه نحو السماء ذاهلا عن الأرض. بعد أن فرغا شعر بأنه أجمل أيام الخرفنة في حياته المقيدة. جاء أبوسالم واقتاده إلى مربطه، هناك رقد قويا، يشعر أنه يتسلل الآن إلى رحم أنثاه. يشخص ببصره إلى أفق بعيد، لم يعد يبصر شيئا غير الشمس تنسحب عنه تاركة الشفق الحزين.
نطح.الخروف حاضره بعنف! نامت الكائنات بين جنبيه، الأشجار تحضن عصافيرها، سالم وهو يحلم بشمس العيد، النعجة وهي تلم ماؤه. أغمض عينيه. في الصباح قطع الحبل، انتهز سانحة أن الباب مفتوح للضيوف، أطلق أظلافه للريح، اجتاز مجموعات الأطفال. قابله الرجال ذوو الجلابيب البيضاء، أبوسالم يجري؛ فتهتز كرشه، جمهرة من الناس تلهث خلفه. ارتطم رأسه بكون الجردل، تدفق الماء، وغطى النعجة التي تغط في نومها. استيقظ مربوطا إلى مصير الغد، ينشق رائحة الدم آتية من بعيد.
نطح الخروف كل الأزمنة! رأى السكين تلمع في يد أبي سالم، يضع الجردل أمامه قائلا: ( اشرب الشربة الأخيرة) نظر إلى الجردل، رأى كونا يولد في وداعة. رفض أن يشرب. قال أبوسالم: ( أنت حر! ) ثم أطلقه من الحبل. رأتهما النعجة فصارت تيعر، تحاول أن تجري. حمل أبوسالم الخروف، ووضعه أمام النعجة، ارتفعت عقيرتها بالبكاء، تناثر الكلأ الأخضر على حواف فمها. فيما النسوة يوقدن النار أحس الخروف بالسكين تجز رقبته، ساخنا ينبجس الدم، تتسرب الحياة بين ظلفه ولحمه، يحرك قدميه الخلفيتين ويغرسهما في الفضاء، يتشنج مرات ليرتخي للأبد.
فصل ابوسالم رأسه عن جسده. صاح بسالم ليحمل الرأس للداخل .لم يجده، كان يتهادى حزينا في مكان بعيد عن لحم صديقه. وضع أبو سالم الرأس في الزريبة. رأس خروف به عينان شاخصتان، شفتان منفرجتان كأنها ستلقي كلمة أخيرة، وأذنان تسمعان النعجة وهي تيعر حد البكاء. لم ير احد من الناس شيئا غريبا، قطع اللحم التي تسبح في الزيت الساخن،وهي تحاول الخروج، الرأس الذي يتنفس في زريبته، الشفتان تنفرجان بابتسامة هازئة، العينان تختزنان المشهد من جديد، ماء، كلأ اخضر، ونعجة حبلى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى