حسام المقدم - مقام النظرات.. قصة قصيرة

هذا هو الأستاذ في طريقه إلى الجامع القريب. تعرفه البيوت المتساندة على بعضها، وتراه تلك العيون البارقة، المختبئة في الشقوق الطولية للجدران الرطبة. عيون لبشر ماتوا، وبعد كل ذلك الزمن يبعثون عيونهم لترصده بإصرار. يقف لحظات مواجها للجدار، يبتسم قليلا ويمضي.
لا يكاد يدوس على الأرض. ينقل خطواته بشكل هامس يشبه التقاء جفنيه وانفراجهما على مهل. كل شيء يتم الآن ببطء واسترخاء..
في الصباح لا ينهض مرة واحدة. يترك قدميه تلعبان حتى تظهرا من تحت الغطاء. هذا طقس اعتيادي لابد منه، لكنه ينتهي دائما بالتفكير في شيء واحد: خروج الروح! إنها تخرج من القدمين أولا، تتركهما يابستين ثم تواصل انسحابها المُميت من باقي الجسد. يُفكر الأستاذ ويغيب كثيرا، بينما تتواصل ألعاب القدمين بحركات متقافزة سريعة. حالا سيترك السرير، حالا.. لكنّ العيون التي في الشقوق لا تتركه. يتذكر العينين اللتين أطال الوقوف أمامهما بالأمس.. عينا "كمال"، اللتان أسبلهما الأستاذ منذ خمسين عاما فوق صهد الرمال، في حرب 1967. نفس النظرة الذاهلة، المأخوذة غصبا من حياة لم تبدأ بعد. وهاتان عينا "عبدالله"، بكل ما فيهما من ألق وذكاء. ياااه.. من يونيو والاستنزاف الطويل حتى أكتوبر، ثم تموت يا "عبدالله" في عز شبابك، بسكتة قلبية على فراشك ووسط أهلك. ألهذا تلمع في عينيك سخرية من النوع المتعالي على كل شيء؟ سيزيح الأستاذ كل شيء، ويتخذ قراره المُتأجِّل بالنزول من السرير.
تطوف به العيون في كل الأوقات. أحيانا لا يطيق ذلك. يضحك في نفسه، ويقتنع أن صلاحيته لا تزال باقية! في سجوده الذي طال أكثر من اللازم في صلاة العصر كانت "نادية".. انغرست عيناها في عينيه المغمضتين بثبات راسخ. عينان طفوليتان، تُشعان بالجرأة والاستهتار والانتعاش. خلطة لا توجد في تحويجة عطّار محترف. يتعجب الأستاذ من هاتين العينين بالذات، والتميمة السحرية التي أبقتهما ضد الزمن. يواصل ضحكاته الرفيعة التي لا تكاد تُسمع. لكنه ضحك بصوت عال في جلسته المفاجئة على القهوة..
اقتحم النداء صمته وهو راجع من الصلاة. توقف ليرى الجالسين، ويتفحص المقهى القديم الذي عاش معه أياما. الوجوه في منتصف العمر. يعرف قليلين منهم. قام أحدهم وألحّ في أدب وتوقير. سحب له الكرسي وطلب الحلبة الحصا. قعد الأستاذ مائلا على عصاه، ناظرا لهم واحدا بعد الآخر. يتكلمون، تعلو أصواتهم ويصخبون. في كل شيء يتكلمون. يكتفي بابتسامة وهزات رأس. تنسحب عيناه لكوب الحلبة ذهبية البريق. لا يشغله الطعم الحلو عن عينين مرشوقتين متنمرتين في مواجهته. إنه "حسام المقدم" الذي يكتب القصص وينشر في الجرائد. يعرفه الأستاذ وله معه كلام، إلا أنه لا يرتاح لنظراته وسكوته. طلب منه مرّة أن يكتب شيئا عن حياته، وتلقى وعدا بذلك. ولما تأخّرَ التنفيذ أعاد الطلب والتذكير. نسي الموضوع، إلى أن رأى الكاتب فتجددت الشجون. لكنّ إيقاع المقهى يأخذه لوجوهم.. سرعتهم في الكلام، ونقاشهم الحامي بالأيدي والأصوات المحتدة. تأتي سيرة الحرب ضمن حديثهم. هذا هو الشيء الذي لا يمكن أن يُسكت الأستاذ. يتكلم، يخرج صوته خشنا في البداية، وبعد ذلك تدور التروس القديمة بأنين وحشرجة. تتداعى الحكايات إلى خاطره وتنسال.. السويس ورجالها، و"يا بيوت السويس..". تغيم عيناه. يتدخل أحدهم باستفسار أو إضافة.. مثل السؤال عن نفق الشهيد "أحمد حلمي"! انفجرت قنبلة من الضحك: "أحمد حِلمي"؟ عينا الأستاذ أصبحتا كرتين كبيرتين. يوشك لسانه أن يقفز من فمه. يتكلم صوت آخر: "نفق الشهيد أحمد إيه صحيح... مِش حِلمي". في داخل الأستاذ نار تأكله: "يا أولاد الجن.. أحمد حلمي، أحمد، أحمد".. ويصيح مُتهللا: "حمدي، أحمد حمدي". يضحك معهم ويخبط على جبهته: "أحمد حمدي". تتواصل خيوط الكلام، متشابكة في بعضها، ويغيب ساندا ذقنه على العصا. يقف بهدوء ويشير إليهم، فيردون السلام في نفس واحد، طالبين تكرار تشريفه لهم.
خطواته اتسعت على غير العادة. لم يقف ليرى العيون الكثيرة التي في الشقوق.. عيون متزاحمة متحفزة.


حسام المقدم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى