حنان الدناصوري - أسباب أخرى للبكاء

تقفين وحيدة في ردهة المستشفى مرعوبة مما يحدث في الداخل، لا تراودك أدنى رغبة في التسلل لرؤيته، كأنك لا تريدين نهاية للانتظار. منذ حمَلته سيارة الإسعاف إلى هنا وذهنك مشوش، لا تعلمين إن كان في غيبوبة أم لا؟ حين خرج به رجال الإسعاف على المحفَّة كنت ترقبين الموقف من وراء باب موارب احتميت به.

استيقظت مبكرة بينما أمك متفائلة ترتدي ملابسها وتكحل عينيها، تعرفين أنها تتصنع الهدوء، فصارحتها بحقيقة مخاوفك، فردَّتْ بسؤال وهي تمسد شعرها: «معقول أبقى هادية كده وحالته خطيرة؟». لماذا صدقتِها هذه المرة وكذَّبتِ مشاعرك؟ ألأنك كنتِ تريدين التصديق، حتى أنك نمتِ بعدها مباشرة ولم تشعري إلا بصوت خالتك: «مامي بتقول تعالوا شوفوا باباكم». عبارة لم يكن لها سوى معنى واحد، لكنك رفضتِ تصديقَه أيضاً، أين يكمن الخطأ إذن؟ في شخصيتك أم في شخصية أمك؟ دخلت أختك عليه أولاً، بينما فضَّلتِ الوقوفَ في الردهة. هل كان الذهول بادياً حتى يرسل العابرون إليكِ نظرات شفقة ثم يمضون، وتربت كتفك سيدة عجوز: «مالك يا بنتي»، فلا تجيبينها سوى بمزيد من الدموع الصامتة، وحين فكرت في أن تلقي بنفسك في حضنها، كانت قد مضت إلى حالها. أول أمس، ظهرت عليه علامات «التوهان»، فهربتِ كالعادة، ونزلتِ بذريعة شراء أدوات مدرسية، ومررت على صديقتك أميرة، أخبرتها للمرة الأولى. على رغم مرور سنوات على مرضه ـ بأنه يبدو تائهاً، وأنك خائفة هذه المرة، ثم غلبتك الدموع، فطمأنتك أمها قائلة أن الحر شديد، «يلف الدماغ». كنتِ تعرفين أنها تكذب أيضاً لكنك كنت تريدين أن تصدقي ذلك، فاجتمعتِ بصديقات أميرة اللاتي جمعتهن والدتها للتسرية عنك، لكن قلبك كان هناك. تأملين في نهاية للانتظار لكنك تخشينها في الوقت ذاته، تأتي خالتك أخيراً فتتعلقين بها وتبكين، فترد بابتسامة مطمئنة، وتدعوك إلى بيتها القريب من المستشفى في «العجوزة» والبعيد من «مصر الجديدة»، فتوافقين فوراً. وهي تدخلك إلى سيارتها، كنتِ تعلمين أنها تكذب حين عادت إلى الداخل بحجة توديع أمك بينما تستأذنها في اصطحابك. موافقةُ أمك التي لا توافق على مثل هذه «الخروجات»، كانت باعثاً على القلق، لكنك كنت تتوقين إلى أن تهربي مع خالتك بعيداً قبل أن تشاهدي أو تسمعي شيئاً يؤلمك. متى بدأ الهروب وأين انتهى؟ تراقبين الطريق. رجال ونساء وأطفال يعبرون، يتكلمون، يضحكون، يتشاجرون، والحياة تسير كأن شيئاً لم يكن. لا أحد يشعر بك، وأنتِ من وراء زجاج السيارة صغيرة، وحيدة وهشة فيما رجل- ربما يكون حبك الأوحد- يحتضر هناك، ولا شيء في العالم توقف. صدمتك الحقيقة التي اكتشفتها للتو وسترافقك للنهاية.

حاولت الاندماج مع بنات الخالة حتى حضرت أمك في اليوم التالي، وجلست صامتة في زاوية من الحجرة، بلا كحل هذه المرة، ولا فستان أسود متسع، ظهرها للحائط ضامة ركبتيها إلى صدرها، تصرخ إذا اقترب منها أحد «سيبوني لوحدي». تلوذين بالشرفة وتحاولين التركيز في حكايات ابنة الخالة التي لا تنتهي، لكن الصوات يصلك كأنه من بعيد، ومع ذلك تراوغين، لم ترتد أمك السواد، إذاً لم تأت النهاية بعد، تشعرين بالراحة لأنها غادرت من دون أن تودعك.

احتميت في الليل بضحكات الصديقات الصافية، وحكاياتهن البريئة عن أولاد يتتبعونهن في العودة من المدرسة، ضحكاتهن المكتومة والخجلى وأنت تمتعضين من المعاكسات على رغم سعادتك المضمرة، وقد سمحت أمك بعد مرض أبيك بعودتك من المدرسة برفقة صديقاتك، لكنك وأنت تتشبثين بأذيال عالم بريء يوشك على المغادرة، كانت الهواجس تطاردك.

مع غبشة الغروب جاءت المرأة التي ترتدي السواد هذه المرة، وأخذتك من يديك، فارتميت في حضنها، وظللتما صامتتين في مواجهة نظرات جاثمة لطائر عملاق لا يجدي معه هروب حتى اهتززتما معاً بنشيج مكتوم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى