عصري فياض - ناصر أبو حميد... نضال فأسرٌ...ثم شهادة... ثم أسرٌ حتى الفناء!!

في مفاصل التاريخ النضالي للشعوب المقهورة بالاحتلال والاستعمار،هناك محطات تحمل في طياتها الكثير من التمايز التي تسترعي التوقف،والتأمل،والقراءة والاستدلال،وفي هذه الساعات من تاريخ شعبنا العربيّ الفلسطينيّ المظلوم الذي يعاني من آخر وأبشع إحتلال على وجه المعمورة،تظللنا قصة شهادة الاسير القائد ناصر أبو حميد،الذي قضى في سجون الاحتلال بعد صراع طويل مع المرض،ورفضت سلطات الاحتلال الافراج عنه،أو حتى تقديم العلاج المناسب له حتى فارق الحياة،،بل لا زالت تصر كما فعلت مع أسرى آخرين قضوا،لا زالت تصر على أسر جثمانه بعد أن أزهقت روحه بالتعذيب والاهمال،في تصرف تعسفيّ همجيّ فريد،لم تشهد له البشرية مثيلا،ولم يمارس مثله طغاة العالم ،إلا في زمن الاحتلال الاسرائيلي لأرض فلسطين،والتحكم الجبري القاسي بهذا الشعب التواق للحرية والانعتـــــــــاق.
ناصر أبو حميد ولد لأسرة فلسطينية لاجئة في مخيم النصيرات في قطاع غزة بتاريخ الخامس من تشرين أول اكتوبر من العام 1972،لعائلته تنحدر من بلدة " السوافير " التي تقع في المحتل من أرضنا من العام 1948،ثم إنتقلت اسرته لاحقا لمخيم الامعري جنوب رام الله،بدأت مسيرته النضالية مبكرا وهو في بداية الطفولة،فقد تقدم للمشاركة في مواجهة قوات الاحتلال في العام 1983،وهو طفل ابن احدى عشر عاما،وقد أصيب في إحدى المواجهات بإصابة بالغة كادت أن تختصر عمره الطريّ،لكنه شفيّ،وعاد الى ساحات المواجهة مرة اخرى ،ليسجل له أول اعتقال له في بداية انتفاضة الحجارة في العام 1987،ويحكم بالسجن الفعلي لمدة اربعة اشهر وهو إبن خمسة عشر عاما،وبعد ان امضى الاربعة أشهر خرج ثانية،وعاد لميادين المواجهة التي كانت انتفاضة الحجارة مشتعلة فيها،وقد اعيد اعتقاله مرة ثانية وحكم سنتين ونصف فعلية،وليمضيها في سجون الاحتلال،ويخرج من جديد،وينتمي وهو ابن ثمانية عشر عاما لمجموعة عسكرية تابعة لتنظيم فتح،فيعتقل ويحكم بالسجن المؤبد لأول مرة،وبعد الافراجات التي جاءت بعد توقيع إتفاقيات أوسلو،تحرر أبو حميد من السجن بعد أن أمضى أربع سنوات،وقتها وفي العام 1994 استشهد شقيقه عبد المنعم،فلم يتوقف عن الفعل المقاوم،فإعتقل في العام 1996،وامضى ثلاث سنوات ليخرج من الاسر قبل اندلاع انتفاضة الاقصى بعام،حيث دخلها بقوة هو واشقاءه نصر،ومحمد،وشريف،اللذين اعتقلوا وحكموا بالسجن المؤبد المكرر المتفاوت،وليعتقل هو أيضا في العام 2002،ويحكم عليه بالسجن سبع مؤبدات وخمسين عاما.كما اعتقل شقيقه اسلام في العام 2018 وهو محكوم بالسجن المؤبد نظرا لما نسب اليه من قتل ضابط القوة الخاصة الاسرائيلية في مخيم الامعري في ذلك العام،كما تعرض منزلهم في المخيم للهدم خمسة مـــــــــرات.
أصيب الاسير ناصر أبو حميد بمرض السرطان في الصدر،وقد إكتشف مرضه متأخرا في العام 2021،ومن ذلك الحين،ولغاية يوم أمس وسيل النداءات والاستغاثات لم تتوقف ولم تهدأ لأجل الافراج عنه لقصد العلاج أو إنقاض الحياة أو حتى ان يقضي بين ما تبقى من اسرته وهي أم وشقيق واحد،وقد وصلت قصته كل العالم من خلال منصة الهيئة العامة للأمم المتحدة في ايلول الماضي عندما خص الرئيس محمود عباس حالته وما يعانيه وما تعانيه أُسرته بجزء من خطابة الدوري أمام أكبر محفل دولي أممي،لكن الاحتلال وصلفه المعهود رفض رفضا تاما الافراج عنه رغم خروج اطباء منهم بنتيجة أن شفاء او بقاء ابو حميد على قيد الحياة مستحيل منذ اشهر وأسابيع.
واليوم وبعد أن فاضت روحه الطاهرة إلى باريها،يرحل جسد الاسير الشهيد ناصر أبو حميد إلى ثلاجات الموتى،أو مقابر الارقام،لينفذ هذا الجسد الذي أنهكه المرض ــ حتى كاد أن يتلاشى ــ حكما من الحجز والاعتقال المفتوح لأجل لا يعلمه الا الله،والذي قد يستمر ايضا لفناء ما تبقى من الجسد،إن لم تمارس قوى المقاومة ضغطا قويا،وتقدم عنصر قوة تملكه يؤدي إلى عودة ذلك الجثمان لعيون أُمه وشقيقه وأحباءه لتكون محظوظة في إلقاء نظرة الوداع عليه إن لم يسبق أيٌّ منها القدر،وترتحل هي أيضـــــــــــا.
إن تاريخ هذه العائلة المناضلة،وهذا الاسير الشهيد،لّيُخْجِلَ قلم التاريخ،وحتى التاريخ نفسه في الحديث عنه،او وصفه، ولربما البعض من البعدين عن فلسطين قد لا يصدقوا تلك القصة،ولربما ظنوا أنها من نسج الخيال،لكنها الحقيقة وكل الحقيقة التي جرت وما زالت تجري على إمتداد أكثر من خمسين عاما تحت الشمس،وفي وضح الواقع المعاش والمحسوس،والذي من فرط واقعيته والتعايش مع ألمة كاد أن يكون جلدا،أو طبقة من جلد جديد للمواطن الفلسطيني،وأن مرارة هذا الواقع الذي قد لا تتحمله النفس البشرية إلا قومٌ خصهم الله بأن يكونوا جبّارين،هيئهم من خلال تلك الحالة تمهيدا لأحداث تغيرات هائلة في المسيرة الانسانية التي طغت عليها مظاهر الظلم أكثر من القيم التي تحترم الانسان وتقدر مكانته وحقه في العيش الحر الكريــــــــــــــــــم.
إن تلك الصورة بقساوتها،وبقوة صلفها وتعسفها،وببصمات إجرامها التي لا تحتاج لمكبر أو عدسة،ما هي الا وصمة عار سوداء في جبين هذا الاحتلال الاقسى والأشد ظلما للانسانية الفلسطينية المعتدى عليها ظلماً وزرواً وبهتانا،والتي ما زالت خناجره الدامية،توغر في الجسد الفلسطيني غير آبهن ٍبصراخ الألم وانين الصبر،وإن هذه الصورة الشاهدة والساطعة أمام العالم كله،ما هيَ إلا أكبر إهانة لكل دول العالم التي تدعي حرصها على الحفاظ على الانسان والرقيّ به،ولهي الشهادة الاقوى على كذب وإزدوجية المعايير في التعامل مع إنسانية الانسان وأدنى حقوق البشـــــــــــر.
لن يكون الشهيد ناصر أبو حميد آخر أوجه الظلم الواقع على الشعب الفلسطيني للأسف،هناك أكثر من ستة آلاف ناصر أبو حميد في مقابر الاحياء لدى هذا الاحتلال،ولا أحد يدري من هو ناصر أبو حميد القادم،ولا أدري إلى متى سنبقى نحصي عداد الرحيل المتصاعد والمثبت على بوابة زنازين الاسرى الفلسطينيين،دون ان نفعل شيئا أو يفعل لنا العالم شيئا لايقاف ذلك العداد،أو نزعه وإلى الابــــــــــــــــــــــد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى