مولود بن زادي - الانقلاب الشتوي من الأعياد الرومانية وفرصة للتأمل والتفكير

يتسم الطقس في الجزر البريطانية بتقلباته الدائمة. فالطقس في هذه المنطقة الممتدة في عرض المحيط الأطلسي لا يختلف من يوم إلى آخر فحسب، بل يتغير في اليوم الواحد، من ساعة إلى أخرى. وقد ساهمت تغيرات المناخ التي تشهدها الكرة الأرضية منذ عقود في زيادة تغيرات الطقس في هذه المنطقة من أوربا حيث تميل الفصول إلى التداخل، بعيدا عن النظام المعهود والنمط المتوقع. فلا عجب قد تسطع الشمس في سماء لندن في شهر ديسمبر/ كانون الأوّل ويناير/كانون الثّاني، وقد تتساقط الأمطار المتجمدة وتسود أجواء باردة أشبه بالأجواء الشتوية في منتصف فصل الصيف!


الفصل الأكثر قساوة

يُعدُّ الشتاء الفصل الأكثر برودة ورطوبة واضطرابا لسكان القسم الشمالي من الكرة الأرضية لا سيما الجزر البريطانية التي تتعرض لتأثيرات تيارات المحيط الأطلسي الباردة والممطرة. وفضلا عن برودة الطقس وانخفاض درجات الحرارة إلى دون الصفر أحيانا لا سيما في شمال إنكلترا واسكتلندا وإيرلندا الشمالية، تتميز هذه المنطقة بانخفاض معدل تعرضها لأشعة الشمس وقلة الضوء. ويُعدُّ ديسمبر/ كانون الأوّل الشهر أقل شهور السنة سطوعا وضوء. ويُعرف الانتقال من فصل الخريف إلى الشتاء فلكيا باسم "الانقلاب الشتوي"


موعد بدء الموسم الشتوي

إن سألت أحدا عن تاريخ بدء فصل الشتاء، اختلفت الأجوبة والآراء بلا ريب. إنه أحد الأسئلة البسيطة التي قد توقع المرء بسهولة في فخ الارتباك والخطأ. وهذا ما لمسته شخصيا اليوم وأنا أسأل مجموعة من السياح المقيمين معنا في أحد فنادق شرم الشيخ بجنوب سناء – مصر حيث نمضي إجازة نهاية السنة. تراوحت أجوبة الزائرين القادمين من دول كبريطانيا وجمهورية بيلاروسيا وطاجيكستان وأوكرانيا وروسيا بين "لا أدري"، و"1 ديسمبر/ كانون الأوّل". وقال أحدهم، "25 ديسمبر/ كانون الأوّل"، وخاله آخر يوم "1 يناير/كانون الثاني.


التقويم الفلكي

وهكذا اختلفت الردود والمفاهيم بشأن يوم بداية فصل الشتاء. والجواب الصحيح أنّ ثمة طريقتين مختلفتين لتحديد موعد بدء هذا الفصل. أولهما تقويم الأرصاد الجوية، وهو تقويم ثابت يعتمد على تقسيم فصول السنة إلى أربعة فصول بالتساوي حيث يتألف الشهر من ثلاثة أشهر. يحدد تقويم الأرصاد الجوية موعد اليوم الأول من فصل الشتاء هذه السنة في المملكة المتحدة بيوم 1 ديسمبر/كانون الأول 2022.

التقويم الثاني المعتمد لتحديد بدء فصل الشتاء هو التقويم الفلكي الذي يعتمد على الدوران الطبيعي للأرض حول الشمس، وهو بذلك تقويم غير ثابت، يتطلب إرصادا فلكيا. وفق هذا التقويم، يحدد موعد بداية الشتاء هذا العام بيوم الأربعاء 21 ديسمبر/كانون الأول 2023.


الانقلاب الشتوي

يدعى يوم الانتقال من الخريف إلى الشتاء بالانقلاب الشتوي. إنّه أقصر يوم في السنة، وهو أيضًا أطول ليلة فيها. ويتم الانقلاب الشتوي عندما تدور الأرض حول محورها وينحني القطب الشمالي مبتعدا عن الشمس، ما يؤدي إلى قلة تعرض القسم الشمالي من الكرة الأرضية لأشعة الشمس، ما يؤدي إلى نقص ضوء النهار. ويحدث الانقلاب الشتوي في الجزر البريطانية هذه السنة اليوم، الأربعاء، على الساعة 4:48 مساءً. إنه يوم السنة الذي يشهد أقل قدر ممكن من ضوء النهار، ما يؤدي إلى رسم أشكال في السماء أشبه بظلال طويلة ونحيفة تتراءى في حدود الظهيرة. بعد الانقلاب الشتوي، يزداد ضوء النهار تدريجيًا مع مرور الأيام والأسابيع والأشهر إلى غاية الانقلاب الصيفي الذي يكون في حدود يوم 21 يونيو/حزيران.


تاريخ حافل

الاحتفال بالانقلاب الشتوي ليس بأي حال من الأحوال حديث النشأة. إذ أنه يضرب بجذوره في أعماق التاريخ. نجد له آثارا في الأديان القديمة. فقد اهتم الإنسان منذ قديم الزمان بهذا التغير الموسمي، فخصه بتقاليد روحية وثقافية وراح يحتفل بميلاد ضوء الشمس مجددا بعد حقبة طويلة من الظلام.

مصطلح "الانقلاب" من كلمة solstice الإنكليزية، المنبثقة من الفرنسية القديمة، من كلمة solstitium التي تعني "الشمس التي لا تتحرك". فالإنسان قد نظر إلى الشمس كما لو أنها تتوقف بغتة خلال رحلتها الطويلة في مدارها في هذا اليوم بالذات معلنة ميلاد يوم جديد في السنة، وميلاد ضوء الشمس بعد أحلك فترة في السنة. ويرجح أن يكون الإنسان قد انتبه إلى الانقلاب الشتوي في وقت مبكر من العصر الحجري الحديث – وهو الفترة الأخيرة من العصر الحجري، الممتدة من حوالي 10200 سنة قبل الميلاد.


استخدمه القدماء للعبادة

قامت الشعوب والقبائل القديمة بإعداد مهرجانات واحتفالات على شرف حلول الانقلاب الشتوي، محتفلة بمشاهدة أشعة الشمس الأولى في السنة بعد فصل مظلم طويل. كما قامت بعض الشعوب ببناء آثار لممارسة هذه الطقوس، يبقى عدد منها شامخا في أوبا ومناطق أخرى في العالم. إذ يرى علماء الآثار أنّ المعالم الأثرية من العصر الحجري الحديث الموجودة في إيرلندا واسكتلندا مرتبة على نحو يوافق شروق الشمس أثناء الانقلاب الشتوي. يرى فريق من علماء الآثار أن هذه الهياكل التي تشبه القبور أُعدّت لأغراض دينية، لأنّ سكان العصر الحجري كانوا يقومون بطقوس دينية لاستقبال أشعة الشمس في أقصر يوم في السنة. وكان الانقلاب الشتوي جزء لا يتجزأ من الأعياد الرومانية حيث أقام الرومان القدماء عدة احتفالات مع اقتراب موعد الانقلاب الشتوي. من جملة هذه الأعياد عيد ساتورن تكريما لساتورن، إله الخصوبة والزراعة حيث تستمر الاحتفالات لمدة أسبوع.


فرصة للتفكير والتدبير

ومهما اختلفت نظرات البشر إلى الانقلاب الشتوي وتعددت طرق الاحتفال به حتى بلغت حد العبادة، يشترك البشر في الإيمان بأنّ الانقلاب الشتوي يُعدّ نقطة تحول هامة في السنة وفي حياة البشر على سطح هذا الكوكب. إنها اللحظة التي تتيح للبشر جميعا فرصة للتفكير والتدبير، يتأملون فيها ما عاشوه في الموسم المنقضي وكل ما حصل في الماضي. وتمنح الإنسان فرصة للنظر إلى ما هو قادم والتطلع إلى موسم أكثر خير ومستقبل أفضل.



مولود بن زادي – كاتب وباحث مقيم في بريطانيا




1671642602722.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى