عبداللطيف ولد عبد الله - فلسفة الموت

يعتبر الموت المرحلة الأخيرة من الحياة وذلك عندما يفقد جسد الإنسان أهم وظائفه الحيوية مثل الدماغ و القلب. ولكن الموت بيولوجيا يختلف عن الاعتقاد السائد للموت عند أغلب البشر إذ يمكن للقلب و الدماغ أن يتوقفا لمدة أيام في درجة حرارة معينة ثم يعودا للعمل مجددا. فهل تعد هذه الظاهرة عودة من الموت؟ وإذا كنا نملك خبرة عن الحياة ونعرف بعض مظاهرها فإننا لا نملك أي معرفة حقيقية عن الموت والذي يعتبره البعض مرحلة ثانية بينما يراه البعض الآخر مرادفا لتوقف الحياة البيولوجية عن العمل.
وحتى بعد إعلان موت الإنسان فإن خلايا جسم الإنسان بمعناها البيولوجي لا تتوقف إلا بعد أسابيع. فما هي حدود الحياة ومتى يبدأ الموت. ولنفرض أن الموت قد حدث بالفعل فما الذي سيكون بعد ذلك إن كان هناك وجود. في نهاية المطاف نحن لا نملك أي تفسير مقنع عن الموت.

فكرة محورية

لقد مثلت فكرة الموت عبر العصور فكرة محورية لكل الشعوب، فشيد لها الفراعنة الأهرام و البابليون الزاقورات. فمثلما تشيد البيوت للأحياء شيدت القبور للأموات وظهرت طقوس الموت في أغلب الديانات واختلفت طرق الدفن والتعامل مع الجثث ولكن أغلب الحضارات استعانت بالقبور لأنها تمثل مكانا فاصلا بين مرحلتين يستعد فيه الميت للحياة المقبلة. لقد رأينا أن الإنسان قبل مئات الآلاف من السنين وحتى بعد ظهور الديانات السماوية قد اعتبر الموت حدثا مهما لابد من فهمه والاستعداد له. فتعلق الإنسان بالآخرة يجعل من رغبته قوية في تصديق أن هناك عالما آخر يمكن أن يجمعه مجددا مع من يحب. إذ أن فكرة الموت تعتمد من أصلها على الوهم. ولذلك نجد في قبور القدماء بعض الحلي و الأواني وحتى الغذاء معتقدين أنه سيحتاج لها في الحياة الثانية. تمثل هذه النهاية تحولا هاما بالنسبة لمن لم يبلغوا هذه النقطة بعد. ورغم ذلك يبقى السؤال يتآكل في دماغ الإنسان وهو الكائن الذي تسبب له إدراكه ووعيه في محيطه الشقاء. فالتفكير بالحياة مرتبط بكل معانيها ويستحوذ الموت على جزء أساسي من خيال الإنسان.
مع تطور الديانات أصبح الموت يمثل معضلة حقيقية للبشر فقد تحول إلى هاجس ومصدر لقلق دائم وبحثا عن تعويض لما فقد في الواقع. وعوض أن يكون الموت شيئا طبيعيا وضرورة بشرية أسبغ عليه الإنسان هيبة جعلت منه مركزا لعدة معتقدات ميتافيزيقية وقد تضاءلت قيمة الحياة أمام أهوال الموت وما سيأتي بعده. هكذا أصبح الإنسان أمام معضلة حقيقية وهي ” أن الوهم أصبح أشد رسوخا من الحقيقة بل إنه متجذر فيها بالدرجة التي يصبح متطابقا معها ومطابق لها تماما.”
قد لا يسمح المقال بمناقشة جدوى هذه الاعتقادات ومدى صحتها ولكن يمكن أن نشير فقط إلى أثر ذلك على الحياة البشرية. وبداية علينا أن نفهم كيف تعامل البشر الأوائل مع الموت، فقد كان لتمجيد الأجداد وعبادتهم دور كبير في تقديس الموتى وهذا نوع من طلب المعونة من القوى الخارقة لإبعاد الشر واستدرار الخير. لقد عرف الإنسان البدائي كيف يتكيف مع الطبيعة وكيف يندمج فيها حتى أصبح شيئا منها وإليها فكرا وجسدا.
أظن أن البشر فقدوا الاتصال بعالمهم الطبيعي وأسسوا مملكة وهمية جعلت من الحياة وسيلة لها بدل أن تكون هي الغاية. كانت هذه محاولة للتغلب على قصور الحياة عن طريق تعويض وهمي آخر. يعتبر المؤمنون أن الموت هو بداية حياة أخرى وقد يكون للبعض مجرد مأساة و البعض الآخر يعتبره شيئا طبيعيا يمكن أن نتعايش معه بدون خوف ولا حزن.
وفي هذا الصدد حاول الفلاسفة معالجة هذه الأفكار ومن أبرزهم الفيلسوف اليوناني ” أبيقور ( 341-271 ق.م )الذي حاول أن يبين أن لا سبب لدينا يدفعنا إلى أن نخشى الموت إذ تنشأ خشية الموت من تخيل خاطئ، يتمثل في أننا سنكون موجودين بعد موتنا ، فنأسى على ذلك ولكن الموت غائب طالما كنا أحياء، أما حينما نموت فلا نعد موجودين حتى يصيبنا الأذى وسواء كنا أحياء فالموت لا يضرنا أو إننا أموات ولا شيء سيضرنا كما إنه يقول إننا لا نقلق في العادة بسبب أبدية وجودنا قبل الميلاد فما الذي يدعونا إلى أن نقلق بسبب أبدية عدم وجودنا بعد الوفاة.” ولكن لنفترض أن لا وجود لحياة أخرى بعد الحياة الدنيا ”ويتعلق كلام برهاني أبيقور بخوفنا من الوجود أو العدم وهما لا يقيمان مسألة الخوف مما قد يحدث بعد الوفاة.
فلو كانت هناك حياة بعد الموت من الممكن أن يكون لها من السمات التي تجعل من العقلانية أن نخشاها، مع إمكانية تمضية تلك الحياة الأبدية في الجحيم مثلا. ومن الاحتمالات الأخرى التي طرحت بكل جدية فكرة أن يتحول الخلود إلى حياة لا طائل من ورائها سوى السأم، وهو أمر يحق لنا أن نخشاه” فلا يمكن أن يصبح شروق الشمس وغروبها أمرا ممتعا وسيتحول كل مظهر مثير للدهشة مألوفا جدا بل وباعثا على الملل ” إن ابتهاجنا برؤية أنماط الضوء و الظلال داخل الغابة نابع من أن تأثيراتها وقتية، قد لا نراها كما هي من جديد، وحقيقة أننا فانون تدفعنا إلى أن نتيقن من قيمة الحاضر. فقد لا يكون المستقبل متاحا لنا. وبالتالي يتميز تاريخنا الشخصي من نمط اختياراتنا.
ومما يحدث لنا في الحياة. أما لو كنا سنعيش إلى الأبد بعد الموت فلن يتسنى لنا هذا المعنى. و الوقت حينها سرمدي متاح لنا. لنفعل خلاله ما نشاء. قال برنارد وليامز (1929-2003) إن مثل هذا الخلود سيكون مضجرا ولا معنى له ، فحقيقة الموت و النهاية هي التي تضفي على حياتنا كثيرا من المعاني التي تحتويها.”

حياة ما بعد الموت

هناك من يتخذ حلا وسطا بين الإيمان وعدم الإيمان إما بوجود إله أو حياة بعد الموت، فحجة هؤلاء تقوم على مبدأ عدم المقامرة إذ سيكونون رابحين في كلا الحالتين إذ ليس لديهم ما يخسرونه في حالة ما آمنوا بوجود إله ولم يكن هناك من حياة بعد الموت عكس عدم إيمانهم بالإله ووجود الحياة بعد الموت فهكذا سيغامرون بالخلود في الجحيم مثلا. ويدعى هذا المذهب ببرهان المقامر وهذه الكلمة مأخوذة من كتابات باسكال 1632-1662 والمعروف ببرهان باسكال ولكن المفارقة هنا أن إيمانهم ليس مبنيا على قناعة حقيقية بل يقوم أساسا على مبدأ النفعية فقط وهذا يناقض مبدأ الإيمان.
ألهم الموت كثيرا من البشر وجعلهم يستعملون الفن و يبتكرون الأساطير و الديانات لفهم كنه الموت والتعبير عن شعورهم حياله. إن إدراك العالم ومحاولة فهمه جعلا من الإنسان كائنا شقيا وكان الوهم من تبعات ذلك الشقاء، إذ يعمل الوهم على التخفيف من معاناة الإنسان رغم أنه خادع ومزيف. أما مجهودات العلم فلم تصل إلى أبعد من الخيال في معرفة حقيقة الموت إلا أن الفلسفة تحاول دائما أن تجيب عن بعض هذه التساؤلات بالبحث في الميتافيزيقا. ولكن هناك بعض الفلاسفة يرفضون كليا التطرق له لأنه بلا معنى. فهل نتجاهل الموت نهائيا لأنه لا يقدم شيئا إلى الحياة المادية التي نحياها؟
هل يمكن أن نعتبر الموت تسمية لشيء لا وجود له. الموت مرحلة من الحياة ويجب أن نقبل به كما قبلنا بوجودنا دون رغبة منا في البداية. منحنا هذا الشكل الجسدي وهذه الحياة بظروفها عند مولدنا بدون أن نملك الخيار في ذلك ثم وضعنا في عالم قاس خاضع للقوانين ورغم ذلك نأمر بفهمه عكس قوانينه معتمدين على الأوهام والاساطير وتمر حياتنا القصيرة بدون أن نبدد شيئا من جهلنا بهذا العالم الذي يطلب منا أن نكون أحرار فيه وفي الأخير نغادره بنفس الطريقة التي أتينا بها مجبرين دون أن نعرف شيئا عن المكان الذي نذهب إليه. فكل ما حصل عليه الإنسان طوال الآلاف من السنوات هو معرفته الأرضية الضئيلة التي لم تتح له الوسائل لفهم طبيعته البشرية بطريقة صحيحة. يبقى الموت من طبيعة البشر وإن أردنا أن نتسامح مع أنفسنا فعلينا أن نتقبل طبيعة كوننا بشرا فانين. ونتوقف عن اعتبار الموت مأساة. هكذا لن يكون للموت تأثير سلبي على الحياة بل سيذكرنا بأهميتها وبقيمتها وستكون كل ثانية منها مهمة مادام أنها لن تتكرر وهكذا سنقدس الحياة عوض تقديس الموت. أحيانا تمتد حياة البشر أكثر مما تسمح به قوانين الفيزياء أي حتى بعد الموت. معناه أن الموت الحقيقي لا يحدث إلا بعد فقدان كل أثر لنا في هذه الحياة. فالأثر يعيد تشكيل الأخيلة البشرية كأن تترك عملا فنيا أو أثر قدم على الأرض أو حتى ذكرى. ” فما يحدث في هذه الهنيهة يتلاشى ويمحى من الحاضر لكن لا ينسى فقد يسترجعه المخيال الإنساني في شكل طيفي وشبحي. قد تدركنا الأخيلة و الأطياف من حيث لا نحتسب، إن في النهايات حديث عن بدايات مفتوحة مختلفة عن بدايات الزمن الماضي. ففي النهايات فوهات غير مسدودة تسري فيها الأشباح وتحضر عبرها الأخيلة و الأطياف ذلك أن الأثر من مخلفات صاحبه، فيفنى بعده سواء كان الأثر اسمه أو صورته أو صوته أو حتى فيلما تصويريا مسجلا عنه.” يمكن لحياة الفرد أن تطول أو تقصر كما يمكن لسمفونية بيتهوفن أو نصوص الجاحظ أن تستمر عبر الزمن وكل هذا يجعل منهم أحياء بطريقة ما.
هناك أشياء غير موجودة ولا يمكن تسميتها أو فهمها عكس الأسطورة المستمدة من خيالنا. فالعدم شيء مطلق لا يقابله شيء آخر. والحياة كما نعرفها قاصرة ولا ترقى لأن تكون ضدا للعدم.
نحن نطلق أسماء على أشياء غير موجودة حيث تستمد وجودها من اللغة فحسب. إننا لا نعرف قيمة ما نملكه أصلا، فالحياة بمظاهرها لا تزال مدهشة وأغرب من أي خيال إنساني حتى الآن ومحاولة فهمنا لهذا العالم لا تزال بعيدة كل البعد عن ماهيته. فتجاهل إرث 15 مليون سنة من الحياة على هذا الكوكب و بناء مستقبلنا على الوهم سيكون خسارة فادحة للبشرية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى