أشرف الصباغ - جنون العصافير

في المرة قبل الأخيرة، رآها الناس تزحف نحو الأشجار، تدور حولها، تمسح على لحاء سيقانها ثم تمسح بيدها على صدرها. تجمع ملء قبضتيها بالتراب تنثره من جديد على جذوع الأشجار، في حين تتساقط الدموع عليه من عينين لم يتبق بهما إلا بصيص ضئيل من النور في انتظار الآتي من النهر أو من الفضاء أو من داخل الجزيرة أو حتى من داخل الشجرة الكبيرة.

كانت الأشجار تكبر وتنتشر فروعها لتظلل مساحات كبيرة من تحتها. صار المكان وجهة للأطفال والكبار والعشاق والمحبين. وبمرور الزمن امتدت الأرض قليلا داخل المياه، بدت وكأنها ناءت بحمل كل تلك الأجساد والأقدام وبكتلة الأشجار التي كانت تكبر بسرعة غير اعتيادية. بدت تلك القطعة الصغيرة من الأرض وكأنها تريد الانفصال عن الجزيرة التي كانت تشبه منذ سنوات سفينة برأس سهم. وحتى عندما ظهرت فرق العمال والآلات الضخمة لهدم بيوت الجزيرة وبناء أبراج سكنية وغير سكنية وناطحات سحاب وبنوك ومطاعم وكمباوندات للأثرياء، ظل الناس يذهبون إلى تلك المساحة الظليلة.

ظهرت المرأة مرة واحدة فقط بملابسها السوداء المتربة وهي معصوبة الرأس بمنديل أسود مهلهل، وكأنها غادرت للتو قبرها. حدث ذلك عندما حلت على الجزيرة وجوه غريبة مصحوبة بحرس مسلح ومعها آلات ضخمة لقطع الأشجار. يومها ضربوا الناس وطاردوهم إلى داخل الجزيرة ثم حاصروهم هناك، أخلوا المكان وحاولوا قطع الأشجار وتكسير لسان الأرض الصغير الذي امتد في السنوات الأخيرة إلى قلب النهر. هي نفسها لا تعرف كيف حملتها قدماها حين اتجهت وحيدة نحو الأشجار. قالوا إنها مجنونة، دفعوها بكل الطرق لإبعادها، ولكنها كانت تتعثر وتنهض، تسير من جديد وكأنها قاطرة فولاذية، أو قطة تسعى لإنقاذ أبنائها من حريق كبير، ثم ألقت بنفسها على جذع الشجرة الكبيرة.

مع الوقت، نسي الناس حكاية الرجل الذي طار مع العصافير، وتحول إلى ظل سقط في النهر، ثم خرج من المياه واختفى بداخل الشجرة الكبيرة، وظلوا يحكون عن تلك المرأة التي كانت تأتي في شم النسيم من كل عام، تطعم الناس والأسماك، وتنثر التراب على جذوع الأشجار وترويه بدموعها، لكن أحدا لا يتذكر أين ذهبت. البعض قال إنه رأى البلدوزر الكبير يسحقها ويسوِّي جسدها بالأرض، والبعض الآخر أكد أن الحراس المسلحين ألقوا بها في النيل، بينما أكد آخرون أنها قفزت إلى المياه بمحض إرادتها. امرأة واحدة فقط أقسمت أنها رأتها بعينيها تدخل إلى الشجرة الكبيرة وتختفي بداخلها. وقالت إنهم اقتلعوا بعض الأشجار الصغيرة التي نبتت خلال الأعوام الأخيرة حول الشجرة الكبيرة. ولكن الحيل أعيتهم عندما حاولوا اقتلاع الكبيرة، لم تنفعهم الآلات الضخمة والبلدوزرات، فقرروا قطعها، ولكنهم فوجئوا بسيول من الدماء الحمراء الداكنة تنطلق من جذعها الضخم وتتجه نحوهم، تطاردهم وتتناثر على أجسادهم ووجوههم.


أشرف الصباغ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى