نجيب مبارك - يُوغا بنظرة طويلةٍ إلى الغصون

من هذه النافذة لا يدخُل ضوء. بالكاد أرى طائرين غير مُتوازيين في سماء الخريف.

كلّ يوم يمرّ بلا قطرة مطر هو يومٌ حزين، آهلٌ بالذّكرى والضّباب.

كلّ يوم أفقدُ صباحَ الخير بانحناءةٍ طفيفة على خيوط الحذاء.

كلّ يوم يقذف الرسّام الأكبر، بلامبالاة، شخبطةً جديدة وكئيبة على لوحته الرثّة والمملّة.

كلّ يوم يقضم الزمن تفّاحة العمر الصفراء، التي بقيت مهملة أسابيع طويلة في درج المكتب ولم تفسد بعد.

كلّ يوم تهوي مطارق كبيرة على سقف دار الأيتام، التي لم تنته أشغال بنائها بعد، ومع ذلك يعثرون كل فجر على رضيع متخلّى عنه في البرد عند باب مسجد أو داخل حاوية قمامة. يعثرون على حياة جديدة، أو فاصلة حياةٍ بلا نقطة، هي نسخة شقاء لا أقلّ ولا أكثر.

كلّ يوم تنتصر الحروب في الشّاشات على الدماغ والأمعاء وكأنّها تصنع كعكَ بشاعةٍ لذيذة لمشاهدي برامج الطّبخ.

كلّ يوم هو كلّ يوم ينحني لكي تمرّ قذيفة سريعة من بلد إلى بلد، بيت إلى بيت، من عين إلى عين، من فم إلى أذن.

كلّ يوم ينجح المعذّبون في الأرض في التّحايل على الموت بالصّبر والتلصّص.

كلّ يوم يسيرُ العالم بجوقة إيقاعات هجينة مثل كرنفال في شارعٍ طويل بلا مخرج.

كلّ يوم تنظر حمامة طليقة إلى السماء نظرة بلهاء بلا معنى.

كلّ يوم أتفرّس ملامح الأعمى الّذي أشتري منه مناديلَ ورقية بجوار البريد المركزي.

كلّ يوم أمضغُ علكة فراولة بلا سكّر لأرميها بعد حين وأضع مكانها علكة أخرى بطعم البطّيخ. أضعُ يدي في جيب معطفي المثقوب وأتسكّع في الظهيرة بين العباد.

كلّ يوم أخرج من كابوس الحديقة لأدخل في زقاق ضيّق أو العكس. ولا أرى نهاية لهذا البؤس.

كلّ يوم أنصتُ لقطعة الجاز نفسها، وأتخيّلني جالساً لوحدي على طاولة، أدخن تبغاً أسود وأرشف من كأس نبيذ، في حانةٍ ضيّقة تعجّ بالشقراوات، في ليل شيكاغو الثلاثينيات، ببذلة داكنة وحذاء جلدي أبيض. ومع ذلك، لا أبتسم.

كلّ يوم أخترع صلاة جديدة سرعان ما تنقلب إلى صمت، تبدأ من النّهاية وتنتهي إلى البداية، أُردّدها بغمغماتٍ بطيئة وأُكرّرها في اللّيل بأنينٍ خافت ورتيب.

كلّ يوم أنهض بيقينٍ تامّ أنني لم أُغادر جزيرة اليوم السابق.

كلّ يوم أفتح نافذتي لكي يدخل الضّوء فلا تدخل سوى الريح.

كلّ يوم أفكرّ في لانهاية الحب، تلك التي تُشبه جملةً ناقصة من مخطوط أشوري.

كلّ يوم أسقي نبتتي "أوفيليا" بماء معدني، أمارسُ يُوغَا العطش بنظرة طويلة إلى الغصون.

كلّ يوم أحرّر رقبتي من ربطة العنق البغيضة. أضعُ عبوديتي بين قوسين.

كل يوم أتمرّن على التمريض الذّاتي بقرقعة الأصابع.

كلّ يوم أتفقّد أثَر النّملة التي صعدت ونزلت مراراً على عمودي الفقري.

كلّ يوم أطوي ورقة من حجم A4 وأكتب فيها كلمة واحدة فقط: أحلم.

كلّ يوم أحقّق في جريمة غامضة اسمها الحياة، مثلما كان يفعل قرّاء شارلوك هولمز الأوائل.

كلّ يوم أزداد كرهاً للسماسرة والصيارفة وأصحاب عربات الحلزون.

كلّ يوم أخيط جرح ذراعي الأيسر بإبرة لامرئية في هذا الكهف الحديث، المؤثّث بجهاز تكييف آخر طراز. أعصبُ جبهتي بخرقة سوداء قبل أن أهوي مع الشلّال.

كلّ يوم أعيد قراءة سطرين من الكوميديا الإلهية، وأترك السطر الثّالث إلى الغد.

كلّ يوم تتزين نخلة لسبب آخر غير عيد الميلاد.

كل يوم نقترب من نهاية العام ولا ننأى عن نهاية العالم.

كلّ يوم ينسى الأمل مفاتيحه في بيت قديم، في ضاحية نائية من مدينة مجهولة.

كلّ يوم رميةُ نردٍ بلا طائل.

من هذه النافذة يدخُل ضوء. بالكاد أرى طائراً شريداً في سماء الخريف.
  • Like
التفاعلات: الحمولي السعيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى