عبدالله بنسماعين - كيليطو: النّسيان والنّسخ.. ترجمة: إسماعيل أزيات

صلة عبد الفتاح كيليطو الوثيقة بالكتابة أشبه بصلة المقصّ بقطعة القماش: في مستطاعه أن يمنحها الشكل الذي يريد. قارئ للنصوص الأدبية العربية القديمة، لألف ليلة وليلة، هذا الشّغف يتقاسمه مع بورخيس الذي هو، بشكل ما، نظير له في "حصان نيتشه". هو الكاتب، لا ينشد المقالة ولا الرواية، إنّما يتطلّع إلى الكتابة.
المسار من المقال إلى الحكي معبّد بعلامات والانتقال من القراءة إلى الكتابة ينشأ من كيمياء يمكن أن تكون متشكّلة من النّسيان. ألم يقل رشيد بوجدرة "أنّ تكتب هو، في الحقيقة، أن تتذكّر، كما كان يقول بروست. أن تتذكّر ليس فقط ما هو متعلّق بك، بل أن تتذكّر النصوص الأخرى. نعثر هاهنا على تداخل وتناص بين نصوص يتميّزان بالإطناب والإسهاب إذ، في النهاية، نقول دوما الشيء نفسه حيث كلّ أدب هو تكرار لأدب آخر وهكذا دواليك."
أعطى عبد الفتاح كيليطو، لهذه المسألة، ما يشبه بعدا ميتافزيقيا من خلال الأمر الذي تلقّاه أبونواس من معلّمه الذي فرض عليه حفظ ألف قطعة شعرية ثمّ أوجب عليه أن ينساها بعد ذلك قبل أن يسمح له بقرض الشعر.
كيف يمكن نسيان ما تمّ حفظه في الذاكرة؟ هل هذا المحو لحظي وآني أم أنّه مندغم في الزّمن، وتبعا لأيّ منطق يلزم أن تُمحى هذه القصيدة قبل الأخرى؟
يقول الطّرس إنّ كتابة ما لا تنمحي، إنّها تختفي جزئيا أو كليّا وراء الشكل الخطّي الذي يتلوها على الحامل نفسه... يبيّن التحليل النفسي المشيّد على العلم، بصورة محدّدة، أنّ النّسيان لا يوجد على التّدقيق وأنّ الذّاكرة لا تنمحي: اللاّوعي يساهم في تدبير متحايل يلزم أن نعثر خلفه من جديد عن الأثر الأصلي !
لا تكمن أهميّة الطّرس في المكتوب الأخير،بل في الكتابات التي سبقته والتي أصبحت غير مقروءة بفعل "الطباق".
قراءة الطّرس هو عمل الأركيولوجي الذي لا يقرأ الطبقات المترسبّة، لكن يقرأ تجاويف الخطوط التي تسمح برؤية العلامات... كيليطو الذي أعلن "بما أنّني نشرت القليل من النّصوص التخييلية، تبدو المقالة، إلى حدّ ما، تمثّل كتاباتي بشكل جيّد. لكن، فيما يخصّني، قلّما أرى فارقا بين النوعين: من "العين والإبرة" مثلا إلى "حصان نيتشه" ليس لديّ انطباع بأنّني أغيّر السجل بشكل أساسي"، حفظ جيّدا درس رولان بارط "الأدب الخالص لا وجود له"، وأنّ "تحليل نص أدبي يستوجب معرفة أبحاث مستجدّة في ميادين أخرى. الأدب هو ملتقى جملة من المعارف". التعلّم بمعنى الذاكرة والنسيان كانا موضوع تحليل جيّد في "الكتابة والتناسخ".
في "حصان نيتشه" ليس المنظور منظور نسيان للبرهنة على عمل الشّاعر، أوحتى الكتابة نفسها وإنّما النّسخ، أسلوب آخر في القراءة. ليس "القرد الخطّاط" صورة هازئة، بل إنّه الرّمز ذاته حيث تصير العقوبة المدرسية بنسخ نص نقطة ارتكاز ضرورية لبلوغ الإبداع بمعنى الكتابة. النسخة، بالنسبة للأثر الإبداعي، هي بمثابة "عالم سحري حيث لا وجود لأصالة، لانتحال، لاختلاق إذ كلّ نص هو إعادة إنتاج مضبوطة لنص آخر وإذ البصمة الشخصية تنحصر في شكل الحروف وفي ألأخطاء الإملائية التي لا مهرب منها".
ضمن هذا المنظور، ليس الكاتب الأصلي هو الذي له نظير من خلال "ناسخه"، وإنّما النص المنسوخ، لكن ليس أبدا جزئيا، لكن في مجموعه ! شكل الخط ليس نتاج المطبعة، وإنّما نتاج اليد بكلّ الأمانة التي يمكن ليد النّاسخ أن تتكفّل بها. "القرد الخطّاط" هو استعارة من حكاية في ألف ليلة وليلة تروي قصّة أمير مُسخ قردا لكنّه احتفظ بمواهبه البشرية في الكتابة "المطلوبة بشدّة لجودة خطّه" ولذكائه كلاعب شطرنج رهيب.
فكرة النّسخ التي همس بها الفيلسوف ألآن إلى أندريه موروا المقدم على الكتابة، هي شكل آخر لتعلّم الكتابة. النّسخ هو المرحلة الأولى من القراءة. النّسخ يقتفي أثر القراءة لا يتقدّم عليها سواء تمّت من خلال علامة ذات معنى ــ كلمة أو جملة تامّة ــ أوكتاب باعتباره تراصفا أو تضامّا لطبقات يلزم رفعها طبقة طبقة ليس بدءا من سطحها وإنّما من أعماقها. أن تصير كاتبا لم يعد أن تتعلّم، لكي تنسى بعد ذلك، لكن أن تنسخ أعمالا دون انمحاء لا الخط ولا المعنى كما لا يتعلق الأمر بإخفاء اسم الكاتب بذريعة النّسخ.
ينخرط عبد الفتاح كيليطو عبر كتاباته في حوار مع ألف ليلة وليلة، مع المؤلّفين العرب القدامى، مع الأعمال الكبرى للأدب العالمي... ومع بورخيس الذي يسحره على ما يبدو كما أمكنه أن يسحر عبد الكبير الخطيبي. التعلّق بتدبير النّسيان والنّسخ، أليس تماثلا أو خلقا لنظير؟ أحد كتب عبد الفتاح كيليطو يحمل هذا العنوان الرّمزي " المؤلّف ونظراؤه" (الكتابة والتناسخ). على هذا المنوال، يمكن أن نستشهد بــ"الكاتب ونظيره" لعبد الكبير الخطيبي، "ظلّ الشّاعر" لماحي بنبين، و"ظلّ كاتب مقالات" لنور الدين الصايل.لكن هل يدلّ الظلّ ويقود إلى الفريسة؟* النسخة إلى الأصل؟ النّسيان إلى الذّاكرة؟ ليست هذه هي القضية وليست مطلقا الفرضية الابستيمولوجية التي يهتمّ بها عبد الفتاح كيليطو.

• إحالة من الكاتب إلى إحدى خرافات لافونتين : كلب ممسكا بفريسته، رأى ظلّها فحسبه فريسة حقيقية، أطلق الأولى وجرى نحو الثانية، فلم يعد يقبض لا على الظل ولا على الجسد (من وضع المترجم)
L’Opinion , 23 Juin 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى