سهيل إدريس - استشهاد.. قصة قصيرة

حين انتهت نشرةُ الأخبار، أطفأ أخي الأكبر، زياد، الراديو، وكان صوتُه منذ لحظات يدوّي بأنباء المعركة الأولى في فلسطين. ثمّ صعّد زفرةً طويلة، وجعل يهزّ برأسه إيماءةَ اليأس والخيبة. وما لبث أن قال بصوتٍ مكبوت، كأنّما يحدِّث نفسَه:

ــــ لا فائدة. لقد انتهى الأمرُ وخسر العربُ فلسطين.

وكان من الطبيعيّ أن ألتفتَ إلى أخي الأصغر، عماد، أستقري على وجهه تأثيرَ كلام أخيه، فإذا عيناه تحدّقان به، وفيهما مثلُ الغيظ والحنق المكنون. وإذا هو ينهض بحركةٍ غاضبة، ويلج غرفةَ النوم، ثمّ نسمع جميعًا صوتَ سريره يَصرّ إذ يستلقي عليه.

ومضى وقتٌ قصير، لم ينبس أحدُنا فيه بكلمة. كان يأسُ أخينا قد نشر فوقنا جوًّا من الكآبة، وما عتَّم كلٌّ منا أن مضى إلى سريره.

بيد أنّ طيْف الكرى لم يأخذْ بمَعاقد جفنيّ، فسرعان ما انتقل فكري إلى أخي عماد. فقد لاحظتُ أنه مغرِق في الصمت منذ أكثر من أسبوع، لا يكاد يأبه للّذي يجري حوله.

وكنتُ أعلم أنّه يؤْثر دائمًا أن يصمت على أن يُجيب، لسببٍ يسيرٍ على ما أظنّ: هو أنّ الكلام لم يكن عنده الوسيلةَ المثلى للتعبير عن الأفكار والمشاعر.

كان أخي عماد شابًّا هادئًا عاديَّ الإدراك والتفكير. وأنت إذا أتيح لكَ أن تلتقيه، فلن تلمسَ لديه التماعًا في الذهن أو إشراقًا في النظر. وحين يتناول الحديثُ أمرًا يعلو على إدراكِ طالبِ البكالوريا، ويتشعّب في مناحٍ تَستلزم بعضَ جهدٍ فكريّ، تراه يتأفّف ويُظْهر التبرّم، ثمّ يغادر الجمعَ من دون أن يتكلّم، أو يتمتمُ بين شفتيْه عباراتٍ مقتضبة، سمعتُ مرّةً إحداها:

ـــ خذوا.. أصبح كلُّ أستاذٍ "سقراط،" وكلُّ تلميذٍ "أفلاطون،" في هذا الزمن العجيب!

وقد يدفعك الفضولُ يومًا إلى أن تُلحّ عليه، بغيةَ استطلاع نظرته إلى الحياة، أو "فلسفته" فيها، إنْ كانت له فلسفة، فسترى أنّه عاجزٌ عن الإدلاء بأيّة كلمة. وهو قد يفكّر، ويَجهد في التفكير، ثمّ لا يجد إلّا أن يقول بيأسٍ ظاهر:

ـــ لا أدري ماذا أريد، ولكنّني لا أفهم هؤلاء الناس!

وأحسب أنّي أدركُ من شأنه أكثرَ ممّا يدرك رفقاؤه؛ فإنّني أشدُّ منهم اتصالًا به، ووقوفًا على أموره. وهكذا لم يصعبْ عليّ أن أُدركَ، من اعتصامه الدائم بالصمت، وزهدِه في الحديث، أنّه يؤمن بأنّ الناس يتكلّمون كثيرًا جدًّا، ويعملون قليلًا جدًّا؛ بل إنّهم يفكّرون أكثرَ ممّا يتطلّبه العملُ من التفكير.

ولعلّه كان طبيعيًّا أن أجدَ أخي عماد ينفق معظمَ أوقات فراغه في العمل، سواء كان مجديًا أو غيرَ مُجدٍ. ولا أذكر أنّي رأيتُه يومًا في البيت مقتعِدًا كرسيَّه ينظر في الفضاء حالمًا ومتأمّلًا. وكنتُ ألاحظ أنّه يكره هذه الموسيقى المائعة التي يبعثها الراديو، ولاسيّما حين يرافقها غناءٌ مثلَها مائعٌ. كما أنّه كان زاهدًا في ارتياد دُور السينما، لا يختلف عليها إلّا لمامًا.

حتى إنّ المرء ليحسب أنّ الحسّ الفنّيّ قد انعدم في نفسه أو كاد.

غير أنّي موقنٌ بأنّ رغبةَ العمل كانت تَملك عليه كلَّ إدراكه وجِماعَ أعصابه، وأنّ هذه الميزةَ التي يَنْعم بها أخي عماد لم تكن تتبدّى بأجلى مظاهرها إلّا في الشؤون الوطنيّة والقوميّة:

فقد كان وترًا مرهفًا يهتزّ لأيسر شعورٍ يمسّ الحسَّ الوطنيّ. وقد بكيتُ وسالت دموعي، يومَ اشتركتُ في المظاهرة التي نظّمها عام 1943 في أثناء حوادث تشرين؛ فكان هو الذي يقودها، ويهتف للبلاد والاستقلال هتافًا شارك فيه صوتُه كلَّ ذرّة من ذرّات جسمه، حتى لقد حسبتُه يتميّز ويتقطّع لدى كلّ هتاف. ثمّ جعلتُ أرتعش خوفًا وهلعًا حين برزتْ إحدى المصفَّحات الفرنسيّة، وهمّت بأن توجِّه نيرانَها إلى المتظاهرين، فوقف أخي عماد يتحدّى ويشتم ويهزّ قبضةَ يده الصغيرة في وجه المصفّحة الضخمة، وجسدُه يهتزّ شجاعةً وإقدامًا. ولم تكن الضربةُ الشديدة التي تلقّاها على رأسه بعقب إحدى البندقيّات، فأفقدته وعيَه، هي الضربةَ الوحيدةَ التي لاقاها في المظاهرات.

وكان عماد على طرفيْ نقيض من أخينا الأكبر: كان يؤمن بمواجهة الأمور بالصراحة والعزم والإقدام، حين كان زياد يتحايل عليها بكثيرٍ من الخوف والتراجع؛ وكان ممتلئ النفس ثقةً بالمستقبل، حين كان زياد يَظهر بمظهر الشكّ والارتياب. بيد أنّ عماد لم يكن ليجيب أخاه أو يناقشه إذا جرى الحديثُ يومًا في غير المجرى الذي يشتهي، بل كان يعتصم بالصمت ثمّ يغادر المجلسَ كاظمًا غيظَه.

***

ومنذ ثلاثة أسابيع، أرى عماد يبالغ في الصمت، ويغرق في السكوت، ولا يكاد يصرف وقتَه إلّا بالاستماع إلى أنباء الحوادث في فلسطين، وإلى الوقوف على أثر قرار التقسيم في سائر البلاد العربيّة. وكان ينطلق في الصباح المبكّر إلى مدرسته، ولا يعود إلّا في ساعة متأخّرة من الليل، إذ يقضي نهارَه بالاتصال برفاقه في مختلف المعاهد ويعمل على تنظيم الإضرابات.

وقد رأيتُه ذات صباح يُقْبل على خزانة أمّي، فيتناول منها سبع عشرة ليرةً ذهبيّة كان قد ادّخرها. وحين سألتْه أمّي عمّا ينوي فعله بها، أجاب باقتضاب:

ـــ سأرسلها إلى حيث يجب أن ترسَل.

فابتسم أخي زياد بسمةً باهتةً حاول [عماد] أن يتجاهلَها ويغضَّ عنها طرفَه.

وفي مساء الجمعة الماضي، وهو اليومُ الذي أضربتْ فيه بيروتُ إضرابًا شاملًا، وتظاهرتْ ضدّ التقسيم، عاد عماد منهوكَ القوى، مكدودًا من طول المسافات التي قطعها في التظاهرات. واستلقى على المقعد الطويل، يستمع إلى آخر أنباء الحوادث والمناوشات بين العرب واليهود في فلسطين.

وحين فرغ المذيعُ من إلقاء نشرة الأخبار، التفت أخي زياد إلى عماد يقول له مداعبًا:

ــــ نسيتُ أن أسألك: هل تطوّعتَ في سبيل فلسطين؟

فنظر إليه عماد، تكسو وجهَه مسحةُ ضيقٍ، ثمّ أومأ برأسه إيجابًا. وإذا بأخي الأكبر يطلق ضحكةً رنّانة، ويقول بصوتٍ يَقْطر بالسخرية:

ـــ إذن.. لقد أنقذتَ فلسطين!

ونظرنا جميعًا، فإذا عماد ينتفض مرتعشًا، وقد احمرّ وجهُه، وتشنّجتْ قسماتُه، وغامت عيناه بسحابةٍ من الغضب الشديد والألم المعذِّب، وارتعشتْ شفتاه ارتعاشَ الشيخوخة على شفتيْ مسنّ. ولا أذكر أنّي رأيتُه يومًا على مثل هذا الوضع من شدّة الغيظ وتوتّر الأعصاب. كانت أصابعُه منكمشةً في قبضةٍ يصبغها الدم. ولاحظنا جميعنا حيرتَه واضطرابَه. ولكن لم تكد تمضي لحظات حتى هبّ مقتربًا من زياد، ثمّ ألقى يدَه على كتفه، وأخذ يهزّه بعصبيّةٍ بالغة، جاحظَ العينين، وهو يمتم بغيظ:

ـــ حذارِ، إنني لم أعد أطيقك. إنّك تحاول دائمًا أن تجرح كرامتي.

فإذا هي قهقهة داوية تنبعث من صدر زياد، ثمّ يتوقّف لحظةً ليتابع:

ـــ ومتى كانت لك كرامةٌ يا عماد؟ إنّك ما زلت طفلًا يا أخي.

ولستُ أدري من أين أوتي عماد ذلك الإقدامَ وتلك القوّة؛ فلقد رأيناه يهجم على أخيه، فيأخذ يلكمه في وجهه وعنقه وصدره، وفي كلّ موضعٍ تستقرّ عليه يده، ثمّ يدفعه بسرعة حتى يبلغ به الجدار، ويستمرّ في ضربه ولكمه، ولا يكفّ عنه إلّا ساعةَ رآه يمتنع عن ردّ ضرباته. إذ ذاك، يتراجع ببطء إلى المقعد، فيرتمي عليه ويُطْرق برأسه من غير أن ينبس.

وتمضي لحظاتٌ، فينسحب عماد إلى سريره، وقد التمعتْ في عينيه دمعة.

***

وأفقتُ في صباح اليوم التالي على صوت أمّي تجهش بالبكاء. فركتُ عينيَّ ونظرت، فإذا أخي الأكبر زياد جالسٌ على حافّة سريرها، يروي لها أنّه قد استيقظ في موهن الليل على شفتين تلامسان جبينه، فإذا هو عماد مكبٌّ فوق رأسه يقول له، وفي صوته نشيج:

ـــ أرجوك أن تسامحَني يا أخي على ما بدر منّي ليلة أمس. لم أستطع أن أضبط أعصابي!

فلم يسع زياد إلّا أن يمدّ ذراعيْه، فيحوِّط بهما أخاه وهو يجيب بتأثّر:

ـــ بل أنا أطلب الصفح. لقد آذيتُكَ يا عماد في أنبل شعورٍ يضطرم في صدرك.

ولكنّه حين انفصل عنه، ألفاه مرتديًا ثيابَه الكاملة، فانتفض وسأله جزعًا:

ـــ ولكنْ إلى أين يا عماد؟

فتردّد لحظاتٍ قبل أن يجيبَ في الظلام بصوتٍ يمتلئ حياةً وبهجةً وأملًا:

ـــ إلى حيث يجب أن أذهبَ يا زياد. إنّني لم أشأ أن أؤذي أمّي، فقرّرتُ أن أذهب الآن وهي نائمة. ولكنّي أوصيكَ بأمرٍ واحدٍ يا أخي: هو أن تقبّل أمّي، وترجوها أن تدعو اللهَ من أجلي. فأنا أغادرها لتحتضنَني أمٌّ ثانية، أمُّنا الكبرى، الأرضُ الحبيبة التي أتوجّه إليها: فلسطين!

***

أمّا أنا، فسأنسى هذه اللحظةَ أنّي أخوكَ يا عماد، لأدعو لك اللهَ أن تُستشهد في معركة فلسطين. ذلك لأنّ فلسطين لن تعيشَ فيها العروبةُ إلا إذا مُتَّ أنتَ وأمثالُكَ من الذين خُلقوا لا ليتكلّموا، وإنّما ليموتوا مجاهدين صامتين.


* عن مجلة الاداب

تعليقات

المقدّم:
سماح إدريس


قصّة لسهيل إدريس (ضمن مجموعة نيران وثلوج، 1948)

نقدّم في الذكرى العاشرة لرحيل سهيل إدريس قصّةً كتبها في أوّل شبابه، نشرها قبل تأسيس مجلة الآداب بعدّة أعوام، علمًا أنّ لإدريس 3 مجموعات قصصيّة صدرتْ بين العامين 1947 و1949، وحملتْ عناوين: أشواق، نيران وثلوج، كلُّهنّ نساء.

حين أعاد إدريس نشرَ مجموعاته القديمة هذه بعد عقودٍ طويلة، ضمْن كتابٍ بعنوان قصص سهيل إدريس ــــ أقاصيص أولى (عن دار الآداب)، قدّم لها بنبرةٍ اعتذاريّةٍ وخجولة، بل قاسية، فكتب أنّه يشعر "بعدم الرضى عنها،" لِما في بعضها من "سذاجةٍ أو فجاجة... وتكلّفٍ في الأسلوب، وتقعّرٍ في اللغة، وحشوٍ، وإطناب..." وحَكَمَ بأنّها لا تمثّله "بعدُ."

غير أنّه ما لبث أن توقّف عند كلمة "بعدُ،" فرأى أنّ ذلك يعني أنّها كانت تمثّله "من قبلُ،" في فترةٍ من إنتاجه. وتساءل إنْ كان يَحقّ له أن يُسقطَها من "حساب التطوّر الفنّيّ" الذي مرّ به ذلك الإنتاج؟

إدريس في مقدّمته تلك حاول أن يلتمسَ الأعذارَ لقصصه الأولى، فذكر السنَّ التي كتبها فيها (بين الخامسة عشرة والثالثة والعشرين)، و"الثقافةَ المحدودةَ التي رفدتْها،" و"التجربةَ الضيّقةَ التي ألهمتها." ولكنّه عزم على نشرها من جديد كي يتيح للنقّاد دراسةَ تطوّره الأدبيّ بين تلك "المرحلة الرومانتيكيّة" الأولى، والمرحلةِ الباريسيّة اللاحقة (مع رائعته: الحيّ اللاتينيّ، 1953)، وما تلاها.

لكنْ لماذا نعيد نشر قصّة إدريس اليوم؟

لسببيْن. الأول هو للإشارة إلى الهمّ العروبيّ، والهمّ الفلسطينيّ، والهمّ النضاليّ العمليّ (لا الكلاميّ الخطابيّ فقط)، لدى سهيل إدريس في تلك السنّ المبكّرة (1948 أو 1949)؛ وهي همومٌ رافقتْه، بل اشتدّت اضطرامًا، على مرّ العقود، حتى رحيله في شباط/فبراير من العام 2008.

أما السبب الثاني فهو للإشارة إلى أنّ إدريس لم يقف يومًا عند "السنّ" أو "الخبرة" حين كان يقرّر نشرَ مادّةٍ لكاتبٍ ما، سواءٌ في مجلة الآداب أو دار الآداب. كان أبي سهيل يعي أنّ النضجَ عمليّة تراكميّة، وأنّ الأدب العربيّ لن يتطوّر إلّا إذا رعاه أساتذةُ الجيل ـــ وكان يثق بأنّه واحدٌ منهم ــــ بالتشجيع والعناية والنقد والحبّ والتفهّم.

إنّ الآداب تعتزّ بأنّها تواصل نشرَ إبداعات الكتّاب الشباب (بعضُهم لم يتجاوز السابعة عشرة). صحيح أنّ القارئ قد يشعر أحيانًا ببعض الهفوات والوهن فيها، كالتي ذكرها سهيل عن كتاباته في "المرحلة الرومانتيكيّة،" لكنّ مجلتنا تؤمن بأنّ أحدًا لا يولد أديبًا، وأنّ دورَ المنبر الملتزم هو الإسهام في "صناعة" الأديب.

بيروت

***
 
أعلى