سلام إبراهيم - قلب الشاعر

لم أتدخل حينما وصلتنا رسالة مؤثرة من "أم صمد" زوجة صديقي الشاعر "علي الشباني" في أواسط تسعينيات القرن المنصرم تصف فيها بأسلوب أدبي مؤثر وعفوي اللحظة التي صارحها بأنه متزوج في السر ورزق بصبي، أتذكر وصفها لقسماته الباردة وأثاث غرفة المكتبة والطاولة والصور المعلقة، جمودها وكأن صاعقة أطاحت بها، فأصابها الخرس لدقائق فأعاد ما قاله، عندها صرخت ونحبت وهبت حافية تركض من الغرفة حتى حافلة كربلاء لتتمسك بشباك "العباس أبو فاضل" الذهب وتشكيه حبيب عمرها الذي خان العهد.
تجنبتُ الحوار مع زوجتي التي تعاطفت بشدة مع "أم صمد" فكتبت رسالة مواساة وتضامن لم تطلعني عليها فقدرت أنها ذهبت بعيداً في توصيف قبح الرجال وخياناتهم ، وقبل أن تقصد صندوق البريد القريب من بيتنا، سألتني:
- ألا تكتب رسالة لها لو لصديقك تشوف شنو الموضوع؟
أجبتها باقتضاب وفي طرف عيني بسمة:
- لا
فطنت لي فعلقت وهي تفتح الباب الخارجي:
- مأساة بعائلة صديق عمره وهو ما مهتم!
أدرك سر إلحاحها، فهي تريد أن تعرف وجهة نظري وموقفي مما فعله صديقي، فقصتنا متشابهة، علاقة حب بها تضحيات وانتظار وكفاح توج بالزواج، فزوجة صديقي من أقربائه أحبته شاباً غضاً لكنه أشترك في سرقة مطبعة وطبع مع جماعته بيانات ضد الحكومة فاعتقلوا وحكم عليهم بعشرين عام قضى منها خمسة أعوام وهي بانتظاره، وقصتي هي الأخرى تشبه قصته نضال سري والتحاق بالثوار وتشرد ثم منفى.
جهدت كي أبدو على الحياد لا فرحان ولا حزنان وأفشلت كل محاولتها لجري إلى مناقشة الأمر، متملصاً بجملة مكثفة
- أولا لكل حياة زوجية أسرارها وثانياً أني بعيد صار لي عشرين سنة!
وأميل عليها أينما تكون أقبلها بعمق وأخرج في نزهة في الحقول المجاورة، متخيلاً صديقي يقرأ رسالتي التي كتبتها له بعد وصول رسالة زوجته بيومين:
- علي أنت صديقي تزوجت واحدة وإلا ألف هههههههههههههههههههه
أتيه بين سنابل القمح وصخور التلال، أضحك من القلب مرددا بيت شعري له أوجز فيه محنته مع الأنثى:
(أنه مشبوح ويه طولك عطش
وسنينك ربيع)
فكيف أشرح الأمر لها، والكثير من الأمور ليس لها تفسيراً أو شرحاً أو تعليلاً أو منطقاً، مثل قلب شاعر عميق ومرهف ومجدد مثل صديقي، مضاف إلى خمسة أعوام سجن حُجِزَ عن الحياة بكل ما فيها من شجر وبشر ونساء وشمس وأنهار وفي عزّ شبابه، كنت أخشى أخبارها بطرف من قصص "علي" ومخيلته الضاجة بالنساء اللواتي تشيأن لطوال الحرمان، ويتجسد ذلك في نهم عينيه وهما تحملقان بامرأة جميلة، جوعٌ مطلق ودهشة دائمة، حتى أنني مرات ألومه وأطلب منه تخفيف النظرات فينتبه كمن فزَّ من سرحان ويتساءل عن الأمر.
أخشى فأنا لا أختلف عنه لا بالمخيلة ولا بالإحساس ولا بالانجذاب، وعدد لا يحصى من النساء يزدحمن في أخيلتي، يعاشرنَّ شرودي، وهي بدأت تتضايق في السنين الأخير كلما تمعّنتُ النظر بواحدة في الشارع، شاطئ البحر، متجر. أقفز بين سنابل الحقل في نزهتي الصباحية رائياً في الأفق الخفيض تلك الأيام البكر تنهض وتأخذني إلى المنتصف الثاني من سبعينيات الديوانية في القرن المنصرم، صديقي بدأ يستقر ويتذوق طعم حياة خف العوز فيها فقد وجدَّ عملاً كأمين مخزن في مصلحة المبايعات الحكومية، سيبقى فيها حتى التقاعد، وتزوج من حبيبته أبنة عمته وتمكن من استئجار بيت وأصبح لديه ولداً. كنا نلتقي في مقهى "صنكر" الكائنة الآن وسط شارع المواكب، نرتادها عصر كل يوم بعد العودة من مدرستي، انتظره أو ينتظرني لنخوض في السياسة والأدب ونذهب في المساء لمشرب نادي الموظفين.
في يوم من تلك الأيام وكنا نتحاور في مواضيع تتعلق بالشعر، رفع رأسه نحو الرصيف الوسطي وصمت فاغراً فمه ملاحقاً شابة بعباءة سوداء طويلة القامة ووجه مدور كقمر أبيض مقبلة من جهة سوق التجار، أقترب مني ودون أن يلتفت نحوي همس:
- سلام شووووووووووووفها، بَعَدْ شويه راحْ تِنْفضْ كذلتها لمن أشاكِسْها مِثِلْ مُهره تِجْفِلْ!
وفعلاً ما أن عبرت فتحة ضيقة وصعدت على رصيفٍ قريب حتى نفضت خصلتها السوداء التي تدلت أمام عينيها الواسعتين في اللحظة التي أعتلت فيها الحافة ونظرت نحو "علي" الذي أطلق آهه وتمايل جذعه الأعلى في جلسته، كنتُ أعرف البنت وكنت لا يعجبني العجب ومثل شكلها لا أعيره أي التفات، تلاشت كتلتها في زحام الرصيف وقرص الشمس الدامي الهابط معانقا رؤوس المارة في أفق الشارع. التفت إليه فوجدته يرتجف والدهشة لم تفارق ملامحه المضرجة ولا أدري هل هي مصبوغة بلون الشمس أم بسطوع شمس الشاعر الدفينة كلما وقعت عيناه على الجمال. أمسكتهُ من ذراعه القريبة وهززته:
- علي أش بيك.. شنو تعرفها تحبها للبنت!
- لا سلومي هاي يوميه كلما تمر تبهذل حالي!
وليلتها استمتعتُ جدا بأخيلته عنها، كنت أحفزه على الكلام وأثناء إنصاتي للقصص الحسية المثيرة والجميلة، الجنسية والرومانسية التي يخلقها صوراً وسرداً، أكتمل مشروعي الخبيث وأوشكت أن أخرجه، فسألته عن أخيلته عن البيت الذي تسكنه، فأنشد على الفور بيت الحلاج
أن بيتاً أنت ساكنه غير محتاج إلى سرج
وسمعت وصفاً وترتيباً لبيت خيال "علي الشباني" جنة محبة وأفياء، ساحة معارك جنسية وأسرار، دخلت غرفه العجيبة، ليلتفت نحوي ويختم:
- لو تقع بيدي لأخذتها إلى بيوت أحلامي!
توقفت عن السير كنا في طريقنا إلى بيوتنا وأم صمد تحمل صغيرها وتمشي على مبعدة عشر خطوات خلفنا، قلت له:
- باچر أزورك بيت مهرتك بالمساء!
حملق بي من تحت أهدابه بنظرة استفهام وعدم تصديق:
- تحكي بجد
- أي بجد
أكدت بثقة، فسألني بعد أن أخفض صوته والتفت نحو زوجته:
- زين أنت تعرفها؟
فانفجرت ضاحكاً من شدة الدهشة التي أربكت قسماته وجعلتها تبرق، وأشتغل ملكي المهندس الخبيث وقلت له:
- لا تسأل باچر أنت راح تدخل مدخل وحوش وغرفة ببيت مهرتك!
ردد بخفوت:
- خرب بليسك سُلُم أش راح ينيّمني الليلة.
تعمدت في اليوم التالي التأخير، وصلت بعد غياب الشمس ونزول المساء، وجدته يرتدي ملابس نظيفة مرتبة وينتشر منه عطراً خفيفاً، لامني:
- فاتتك اليوم لابسه ثوب أحمر وأكو ريح كل دقيقة تنفضها شعلتْ عزيزي
- ...
لم أعلق بشيء وكأني نسيت موضوع البارحة، القت جسدي على القنفة وأخذت نفساً عميقاً، فنظر نحوي بغضب وقال:
- هاي شنو شو گعدت!
- ليش هو أش عدنه
وهنا أرتعش بكل جسده وردد
- وموعدنا!
قلت بلا مبالاة وكأنني على وشك النوم:
- يا موعد علي!
رمي بجسده جواري وهمس:
- تأخذني لبيت المهرة مو هذا الاتفاق!
قالها مكسور الخاطر من نسياني وبرودتي بوجهٍ دبّ في تضاريسه البؤس فكدت أنفجر ضاحكاً وتنفرط الحبكة التي أعددتها بأحكام:
- لا ما نسيت بعد نصف ساعة ونتوجه لبيت الحبيب!
مع حلول الظلام انطلقت به في جولة طويلة، شارع كراج الدغارة، دور نواب الضباط، حي الجمهوري الشرقي والغربي، حي العصري وطوال الطريق في الأزقة والشوارع كان يتسأل:
- سلومي صحيح لو حلم أدخل بحوش هي تتنفس وتفتر وتضحك وترقص وتغسل وتبكي يومية، سلومي صحيح!
وعلي يثق بيّ جداً منذ أيام علاقتنا الأولى سيتبين لي لاحقاً أنه اختبرني بما يحمله من ثقافة وفارق السن وتجربته في السياسة والسجن ووثق بيّ جداً، لذا من المستحيل أن يفكر بأني أنصب عليه.
بعد الدوران الطويل عدت به إلى مركز المدينة، ودخلنا محلة "الجديدة" من جهة –الگرفت- كان ينظر نحوي بين الفينة والأخرى وكأنه يلومني على الدوران الطويل، هو بالحقيقة الوقت الفائض لديّ على موعدي، في زقاق من الأزقة الضيقة أوقفته واتجهت نحو باب حديدي مضاء بمصباح معلق فوقه وقرعت الباب، بعد دقيقة انفرجت الباب وهلهل صديق لنا مشترك معجب جداً بأشعار "علي الشباني" ودعانا للدخول فأشرت كي يلتحق بيّ. كان صديقنا يوجه أمراً
- سوو طريق
وهي جملة تعني نساء العائلة كي يستترن، كنتُ مشغولاً بالحديث معه، لكن أتابع بطرف عينيّ قسمات "علي الشباني" المخطوفة وهي تحملق في طابوق جدران ممر البيت المسقوف، في باحة البيت الداخلية الواسعة المسقوفة، في حوض الحنفية الذي يتوسطها، وأبواب الغرف المغلقة المتجاورة كغرف نزلٍ. وطوال الجلسة لم أدعه يتكلم، إذ أنشغلت مع صاحب البيت بالحوارات الساخنة تاركاً صديقي الشاعر يسرح ويجوب ويتلمس بعينيه النهمتين المندهشتين الشبابيك والآجر والجص وأفرشة الأرض والصورة المعلقة على الجدران، ولم يستيقظ إلا حينما أمسكته من ذراعه قائلاً:
- يله علي أكيد أجاك جني الشعر!
وانفجرت ضاحكاً.
في طريق عودتنا إلى البيت سألني:
- المهرة شو علاقتها بصاحبنا
قلت له:
- أخته.. علي أخته!
ههههههههههههههه
تلك الليلة سهرني نجوب شوارع حي الجمهوري وقرأ لي قصائده، ودارميات قديمة عن سحر الهوى والعشق.
القارئ ينتظر تطورات القصة ومصير العاشق، ما جرى هو لا تطورات ولا تفاصيل، هي بغتة اختفت تماما من شوارع المدينة فعرفت لاحقاً بأنها تزوجت مثل كل حلوة تظهر بغتة بالديوانية ولا تختفي إلا بالزواج، وعلي الشباني عثر على وجه أخر أسره ووجد به شيئاً مما أسره في قصائده عن ولهه بكيان الأنثى.
فكيف تريدني أن أتخذ موقفاً من صديقي الذي يشبهني في الأخيلة والعشق والجنون.

سلام إبراهيم
9-11-2020
الدنمارك

* من قصص "قبلة الصباح"
صدرت عن دار الدراويش-ألمانيا-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى