كرة القدم شريف حتاتة - "مارادونا".. خواطر غير كروية

أعترف أنني لم أهتم في يوم من الأيام بمشـاهدة مباريات الكرة التي تذاع على شاشات التليفزيون . لست " أهلويا"، ولا "زملكويا"، ولا نصيرا متحمساً لأي نادي من نوادي الكرة، لا أتابع الدورة الأفريقية، أو الأوروبية، أو "المونديال". وذلك ليس لأنني لا أرى في كرة القدم لعبة جميلة، وممتعة تحتاج إلـى ليـاقـة بدنية وعقلية، إلى كفاءة فردية، وجهد جماعي، إلـى سرعة بديهة، إلى مرونة وتخطيط في الدفاع والهجوم، ولا لأنني لا أعشق الرياضة ، فقد واظبت على ممارستها طوال حياتي حتى وأنا في السجن لأنها مهمة لصـحة الجسم والنفس.
ربما علاقتي الوحيدة بلعبة الكرة ، هو مقال كتبته منذ عدة سنوات ، تحت عنوان " عن المونديال وأشياء أخرى في الحياة" . عبرت فيه عن أضرار إستغلال هذه اللعبة الجميلة مـن قبـل الحكام وأصحاب المال كوسيلة لصرف أنظار الناس عن أشياء مهمة، وتعبئة حماسهم لخوض صراعات تشـعل الضغينة والتعصب الفارغ، ولا تمس مشاكلهم الحقيقية في الحياة، كمـا تحولت إلى وسيلة للإثراء، وموطنا للفساد في ترسيخ "السوق الحرة" التي تغلغلت إلى مختلف المجالات.
كل هذا لا يعني أنني ضد مشاهدة مباريات كرة القـدم، فالناس في حاجة إلى الترفيه، وإلى الإستمتاع ، شريطة ألا يساء إستخدام هذه الحاجة على نحو يصرفهم عن الإهتمـام بـنـواح أخرى مهمة في الحياة. وهذا هو ما يجب علينا جميعا أن ننتبه إليه فيما يتعلق بهذا المجال.
رغم ذلك حدث في يوم من الأيـام ، أننـي فتحـت جـهـاز التليفزيون بحثا عن برنامج يجذب إنتباهي ، لأقع مصادفة علـى مباراة لكرة القدم بين أحد النوادي الإيطاليـة، ونـادي آخـر، فانجذبت عيناي إلى لاعب قصير القامة، مربع الجسد، رأسـه الكبير مغطى بشعر أسود غزير. شاهدت هذا االلاعـب وهـو يخترق صفوف المدافعين بسرعة وليونة فائقة ، متحركـا مثـل الراقص بينهم، متفاديا الإصطدام بأجسامهم ليسدد قذيفة فـي شبكة الفريق الآخر.
كان يرتدي فانلة كتب عليها رقم 10، وكان أسلوبه فـي اللعب بديعا، أسلوب فنان ليس فيـه خشـونة، فاستمتعت بمشاهدته. عرفت أن اسمه "دييجو مارادونا"، وأنـه مـن "الأرجنتين"، وقرأت فيما بعد أنه ترك النادي الإيطالي لينضـم إلى فريق آخر فـي "الأرجنتين"، وأن نجوميتـه، وشهرته ومكاسبه الكبيرة ، أفقدته توازنه فانغمس في تعاطي المخـدرات وعلى الأخص الكوكايين، واستغرق في ملذاته، وفي سلسلة من الفضائح والأساليب الماليـة الملتويـة ليواصـل حياتـه الفاسدة . حزنت لا لسبب ، إلا لأنه من المحزن دائما أن نشـاهد صاحب موهبة أو كفاءة خاصة ، وهو ينهار ويسقط في القـاع. وكم من المواهب والكفاءات يقضى عليهـا عالمنـا المـلـيء بالقسوة، والمظالم، والفساد، والإغراءات الضارة، فـي عـالم ظلت فيه القيمة العليا لمنْ يملك مالا أو سلطة.
لكن "مارادونا" صعد من القاع. عاد في دور ربما يكـون أهم بكثير من دوره السابق كلاعب كرة قـدم. عـاد ليوظـف شهرته في الإعلام ليس إلى جانب الطغاة الذين يتحكمون على مصائر العالم حتى الآن، ليس إلـى جـانـب أصحاب المـال، والشركات الكبرى على حساب الفقراء في أمريكا اللاتينيـة، ولكن إلى جانب الذين يقاومون مشعلي الحروب، ويقفون ضـد نظام عالمي أمريكي يريد أن يفرض سياسته، ومصالحه علـى الشعوب، على سكان أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية.
حاول " مارادونا" عدة مرات أن يتخلص مـن إدمانـه "للكوكايين". في كل مرة كان يعالج ثم يعود إليه من جديد. ثـم دعاه "كاسترو" إلى "كوبا" وخصص له فريقا من أمهر الأطبـاء لعلاجه فتخلص بعد ستة شهور مـن الـداء الـذي اسـتعبده سنوات. تخلص منه في جزيرة "كوبا" التي تبعد عن الولايـات المتحدة مسافة لا تزيد عن مائة وعشرين كيلو مترا، في بلـد صغير يزيد سكانه قليلا عن ستة ملايين ولكنهم ظلوا يتحدون الغزو، والحصار الذي فرضته عليهم أضخم قـوة عسكرية اقتصادية عرفها التاريخ.
لكن " دييجو مارادونا " لم يشف فقط بسبب مهارة فريـق الأطباء الذي أشرف علي علاجه، أو بسبب الجو الإنساني الذي أحيط به . لكن لأن هذا الإهتمام من أناس مؤمنين بقيم التضامن والعدالة التي تعارض مختلف أنواع التفرقة ، ساعده علـى أن يجد معنى جديدا لحياته، أن يقف إلى جانب شعبه وقضاياه، أن ينضم إلى جماهير أمريكا اللاتينية ضد مشروع "السوق الحرة" التي لن تجلب لهم سوى الخراب ومزيدا من الفقـر لتتضـخم ثروات أغنى الأغنياء، أصحاب آلاف الملايين من الدولارات، الذين يملكون شركات البترول والسلاح، والإعـلام ويريدون فرض إرادتهم وسياساتهم علـى شـعـوب الأرض مـدعين أن "سوقهم الحرة" هي طريق الخلاص.
إن ما قدمته حكومة "كوبا" لـ "دييجو مارادونا" هو ليس إلا ظاهرة من بين الظواهر العديدة التي تدل على إنبثاق نهضة فكرية، وإبداعية أخذت تجتاح مختلف المجالات في عدد متزايد من بلاد أمريكا اللاتينية.

من كتاب " يوميات روائى رحَال " 2008


شريف حتاتة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى