أحمد عبدالمعطى حجازى - فى الذكرى التسعين لرحيل شوقى

1-
هذا الصمت المطبق الذى قابلنا به الذكرى التسعين لرحيل حافظ إبراهيم وأحمد شوقى، والذكرى المائة والخمسين لميلاد حافظ وخليل مطران، كيف نفسره؟ لا أظن إلا أن هناك تفسيرا لهذا الصمت هو أن نشاطنا الثقافى عامة يمر بمرحلة من الخمول والركود لها أكثر من وجه وعليها أكثر من دليل. ويكفى أن نسأل أنفسنا عما ننتجه فى هذه الأيام، هل يدل على يقظة وحيوية وتفاعل مع الواقع الذى نعيشه؟ وأين هو هذا الإنتاج الذى نريد أن ننظر فيه ونستدل به؟ ما الذى ننتجه الآن فى الشعر والرواية والقصة؟ وفى المسرح والسينما؟ وفى النحت والتصوير؟ وفى الفكر الدينى والفكر الفلسفى؟ أسأل وأطلب من المؤسسات الثقافية ووسائل الإعلام، أن تجيب، لكنى متأكد أنها لن تفعل. ويكفينا فى الإجابة عن هذا السؤال أنها لم تحتفل حتى الآن بالذكرى التسعين لرحيل حافظ وشوقى والذكرى المائة والخمسين لميلاد حافظ وخليل مطران، وبهذا فوتت علينا فرصة للقراءة والمراجعة والحوار لن تتاح من جديد إلا بعد سنوات تعد بالعشرات والمئات. وفى هذا من اللامبالاة والتقصير وانعدام الشعور بالمسئولية ما يكفى لإساءة الظن فى نشاطنا الثقافى الراهن. وهناك من يعتقد أن الاحتفال بهؤلاء الشعراء لن يكون إلا منبرا تلقى منه كلمات لا تضيف كثيرا إلى ما نعرفه عنهم، لأننا لم نتوقف طوال العقود الماضية عن الاحتفال بهم والكتابة عنهم وعن شعرهم. وهذا اعتقاد ساذج غير مسئول ودعوة لنسيان الماضى، أى لنسيان الثقافة، فالثقافة ليست إلا الدروس التى اكتسبناها من تجاربنا السابقة التى يجب أن نتذكرها ونرجع إليها ونراجع ما تعلمناه منها ونعيد النظر فيها مستفيدين من خبراتنا التى نمتحن بها دروس الماضى ونتأكد من صحتها. وهذا ما يجب أن نفعله فى كل مناسبة نتذكر فيها الماضى وما كان يجب أن نفعله طوال هذا العام إحياء لذكرى شعرائنا الثلاثة الكبار. وهناك من يعتقد أن الحديث عن هؤلاء الشعراء لا يهم إلا جماعة محدودة من المصريين الذين يحبون أن يتكلموا فى النحو والصرف والعروض وفى المدح والغزل. وهذا أيضا اعتقاد ساذج، لأن الشعر ككل نشاط إنسانى يصدر عن واقع يتأثر به ويؤثر فيه. وشوقى وحافظ ومطران لم يكونوا معزولين ولم يعيشوا حياتهم فى أبراج عاجية، بل كانوا متصلين بالواقع الذى عاشوه يخاطبونه ويستوحونه ويتفاعلون معه، ونحن ننظر فى شعرهم فنرى صورا من صور الحياة التى عاشوها والنهضة التى عاصروها وكانوا ألسنة معبرة عنها. والاحتفال إذن بشوقى وحافظ ومطران هو الاحتفال بمصر وبالنهضة المصرية الحديثة التى يجب أن نتذكرها وأن نتمثلها ونرفع شعاراتها من جديد. ولنبدأ بأمير الشعراء ننظر فى النقد الذى كتب عنه منذ نشر الجزء الأول من ديوانه عام 1898 وحتى وقت قريب فنجد مكتبة حافلة بالمؤلفات والأبحاث والمقالات والدراسات التى شارك فيها النقاد المعروفون والكتاب والصحفيون والأساتذة والطلاب الجامعيون المصريون وغير المصريين من العرب المشارقة والمغاربة، وحتى من المستشرقين الأوروبيين والأمريكيين. هؤلاء لم يكونوا بالطبع نسيجا واحدا أو مستوى واحدا، لا فى قراءة الشعر وتذوقه والكشف عن أسراره، ولا فى التجرد والموضوعية، ومع ذلك فشوقى عند معظمهم شاعر كبير، وهى حقيقة وجدوا أنفسهم متفقين فى التسليم بها رغم كل ما يختلفون فيه. لكن اتفاق هؤلاء فى الاعتراف بمكانة شوقى لم تمنع آخرين من الطعن فيها والانتقاص منها، أو الوقوف متحفظين بين ما يرونه فى شعر شوقى من المزايا وما يعدونه من العيوب، وهو خلاف لم يحسم حتى الآن مع أنه مجال فسيح يتسع لمراجعة المواقف وطرح الأسئلة وإجراء الحوار. ونحن فى القضايا الثقافية التى نختلف حولها لا نحتكم للعدد، ولا نحكم للجانب الذى تقف فيه الأغلبية بأنه على حق لأنه يضم الأغلبية، بل نستمع لما تقوله الأقلية والأغلبية ونناقشه مناقشة موضوعية يظهر فيها الحق الذى يصدقه العقل والذوق قل عدد القائلين به أو كثروا. وبعد، فإليكم فى شعر شوقى هذه الشهادة التى قدمها الأستاذ أحمد حسن الزيات، وهو كاتب وناقد ومترجم، أصدر مجلة «الرسالة» التى كانت منبرا من أهم المنابر الثقافية فى النصف الأول من القرن الماضي. وهو صاحب «وحى الرسالة» و«دفاع عن البلاغة»، و«تاريخ الأدب العربى» ومترجم «آلام فيرتر». يقول عن شوقى: «اجتمع رأى المعاصرين - ماعدا الشعراء - على أن شوقى. طيب الله ذكره - كان تعويضا عادلا عن عشرة قرون خلت من تاريخ العرب لم يظهر فيها شاعر موهوب يصل ما انقطع من وحى الشعر، ويجدد ما اندرس من نهج الأدب، ويحفظ للبيان العربى قسطه المأثور من التعبير الملهم عن كلمة الله المنبثة فى الكون وأسرار الجمال المضمرة فى الطبيعة، ومعانى الخير الغامضة فى الحياة ... وسيدور الفلك ويدور، ويقصد النقد ويجور، ويتطور الذوق ويسمو، وشعر شوقى ثابت الحق، خالد ما خلد القرآن، مقروء ما بقى العرب». وباستطاعتنا أن نضيف إلى هذه الشهادة شهادات أخرى تعد بالعشرات وتتفق كلها فى الإشادة بشوقى واعتباره واحدا من أكبر شعراء العربية فى كل العصور. لكننا نعرف من ناحية أخرى أن الذين عابوا شوقى وشككوا فى قيمة شعره ليسوا أقل قدرا ممن وقفوا فى صفه وأشادوا به. هم أقل عددا لكن كلمتهم كانت دائما مقروءة، وكانت مسموعة فى بعض الأحيان.

ويكفى أن نشير إلى كتاب «الديوان» الذى لم يترك فيه الأستاذ عباس محمود العقاد نقيصة إلا ونسبها لشوقى ولشعره ولقراء هذا الشعر المعجبين به. وفيما يلى بعض ما قاله العقاد عن قصيدة شوقى فى رثاء الزعيم الوطنى محمد فريد. قال: «تعود أيها القارئ إلى هذه القصيدة فلا ترى فيها مما لم تسمعه من أفواه المكدين والشحاذين إلا ما هو أخس من بضاعتهم وأبخس من فلسفتهم. كلها حكم يؤثر مثلها عن حملة الكيزان والعكاكيز إذ ينادون فى الأزقة والسبل «دنيا غرور. كله فان، الذى عند الله باق، ياما داست جبابرة تحت التراب، من قدم شيئا التقاه»!.

وفى الأسبوع المقبل نواصل حديثنا فى هذه المعركة التى كانت حامية!


2-
الآن، ونحن نحتفل بالذكرى التسعين لرحيل شوقى نحتاج لمراجعة موقفنا منه ومن شعره، وليست هذه المقالة والمقالة التى سبقتها إلا دعوة للقيام بهذه المراجعة بعد أن مرت تسعة عقود على رحيله، وأصبح علينا أن نستعد من الآن للاحتفال بالذكرى المائة التى لا يجوز أن تحل قبل أن نقوم بهذه المراجعة. ولا أظن أن أحداً يخالفنى إذا قلت إننا مدينون بما نعرفه عن شوقى لما كتب عنه بأقلام الذين عاصروه منذ ما يقرب من قرن أو يزيد عليه، وفى مقدمتهم طه حسين، وعباس محمود العقاد، وأحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعي، فإذا كانت هناك كتابات ظهرت بعد كتابات هؤلاء فمعظمها امتداد للكتابات الأولى وليست مراجعة لها، ولأن شوقى عاش حياته وحصل ثقافته ونظم شعره فى ظروف كان لها تأثيرها العميق الحاسم فيما عاشه وفيما نظمه، ولأن نقاده عاشوا وحصلوا ثقافتهم وقرأوا شعره وفهموه وكتبوا عنه متأثرين بما كانت عليه مصر والعالم فى أواخر القرن التاسع عشر وفى الثلث الأول من القرن العشرين، فقد أصبحت المراجعة الآن واجباً لا يصح أن نتأخر عن أدائه وإلا كنا مقصرين فى حق شوقي، وفى حق الشعر.

وقد رأيتم فى مقالة الأسبوع الماضى كيف كان العقاد يرى شوقي، وكيف كان يقرأ شعره ويتحدث عنه فيقول فى كلامه عن رثاء شوقى للزعيم الوطنى محمد فريد إنه «أخس من بضاعة الشحاذين وأبخس من فلسفتهم!» هذا فى الوقت الذى كان فيه المصريون وغير المصريين فى البلاد العربية الأخرى يفخرون بشوقى ويحفظون شعره ويتغنون به ويستعدون لمبايعته أميراً للشعراء. أليس من واجبنا الآن وقد مر تسعون عاماً على رحيل شوقى وأكثر من مائة عام على صدور كتاب «الديوان» الذى تناول فيه العقاد شوقى بهذه الصورة التى رأيناها ـ أليس من واجبنا أن نراجع ما قلناه عن شوقى سلباً وإيجاباً ونمتحنه فى ضوء الظروف والدوافع التى كانت وراءه ؟ أعرف بالطبع كما يعرف غيرى أن شوقى شاعر كبير. كان شاعرا كبيرا وسيظل شاعرا كبيرا. لأن ديوانه لايزال بين أيدينا. واللغة التى نظم بها شعره لاتزال لغتنا. والمقاييس التى نحكم بها على هذا الشعر الآن هى المقاييس التى يحكم بها الناس على الشعر فى كل عصر وفى كل ثقافة والمنزلة التى حظى بها شوقى لم تأته من أفراد أو من جماعة محدودة، بل كانت إجماعا أو ما يشبه الإجماع الذى شارك فيه العامة والخاصة، والمصريون وغير المصريين. وهذا الإجماع هو الموضوع الذى يجب أن براجعه لتكون معرفتنا لشوقى حقا نشارك فيه الذين عاصروه وليست مجرد ميراث نسلم به أو حكما نهائياً نخضع له، كأن شوقى معصوم لا يقع فى خطأ أو ضعف أو زلل، سواء فى الأدوات التى ينظم بها قصائده أو فى الأراء التى يعبر عنها والمواقف التى يتخذها.ومن المؤكد أن شعر شوقى ليس مستوى واحدا فيه الرائع، وفيه الجيد، وفيه أيضا الضعيف المصطنع. وشوقى الذى يقول فى قصيدته التى تحدث فيها عن مكتشف مقبرة توت عنخ آمون : أفضى إلى ختم الزمان ففضه ... وحبا إلى التاريخ فى محرابه.

وطوى القرون القهقرى حتى أتى ... فرعون بين طعامه وشرابه فترى الزمان هناك قبل مشيبه ... مثل الزمان اليوم بعد شبابه

وشوقى الذى يثير فينا الشعور بالكرامة والاعتزاز بماضينا القديم والمسئولية عما يجب أن نحققه فى حاضرنا ـ شوقى الذى يعبر عن حنينه لوطنه فى سينيته المشهورة التى نظمها وهو منفى فى إسبانيا فيقول :

أحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس ؟!

وطنى لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتنى إليه فى الخلد نفسى !

وشوقى الذى يقول فى قصيدته «توت عنخ أمون» :

زمان الفرد يافرعون ولى ... ودالت دولة المتجبرينا

وأصبحت الرعاة بكل أرض على حكم الرعية نازلينا

شوقى هذا الذى يندد بحكم الفرد، ويذم الطغيان، ويدعو للديمقراطية هو الذى كان يعتبر نفسه عبدا مملوكا للخديو توفيق ويفخر بهذا النسب المخزى لحاكم مستبد رمى نفسه فى أحضان المستعمرين الانجليز ونكل بالثوار العرابيين، فنظم فيه شوقى أكثر من عشر قصائد يمدحه فيها ويقول إنه يركع له ويسجد، ويقبل أذيال ثوبه وأطراف أصابعه.

مولاى عذراً، إن لى فكراً أبت ... إلا الزفاف إلى عفافك بنته

فأسمع لعبدك وابن عبدك منطقا ... متطايراً بك فى القوافى صيته.

لما لبست ثياب عزك راق لى ... ذيل المفاخر والعلى فلثمته

وتقول ياعبدى وشاكر نعمتى ... فأقول ياركنى ومن أملته !!

ثم يجد أن أماديحه فى هذا الخائن لا تكتمل إلا بأن يهجو الزعيم الوطنى أحمد عرابى الذى أيقظ المصريين وأوقفهم فى وجهه يلزمونه حده ويقولون له إنهم مواطنون أحرار، وذلك فى الوقفة المجيدة التى وقفها هذا البطل الشجاع يطالب فيها «بإسقاط الوزارة المستبدة .. وتأليف مجلس نواب على النسق الأوروبي». فقال له الخديو «كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها. وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن أبائى وأجدادي. وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا!» فرد عليه عرابى رده البالغ الذى حفظته الأجيال : «لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً وعقاراً، فو الله الذى لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم !».

وأنتم تعرفون الباقي. الخديو الخائن لجأ إلى المستعمرين الإنجليز الذين احتلوا مصر، وعرابى حوكم ونفى هو ومن معه إلى سيلان حيث قضى تسعة عشر عاماً فى المنفى عاد بعدها إلى وطنه ليستقبله شوقى بقصيدته المخزية التى يقول فيها :

صغار فى الذهاب وفى الإياب ... أهذا كل شأنك ياعرابى !

وأنا بالرغم من هذه السقطات لا أشك فى أن شوقى كان شاعرا كبيرا راجع نفسه وتحرر من هذا الماضى المهين، وأن العقاد كان متحاملاً عليه فى معظم ما كتبه عنه، وهذا ما سوف نراجعه فى الأربعاء القادم.


3-
قلت فى ختام مقالتى الأخيرة إن العقاد كان متحاملا على شوقي، ولم يكن فى معظم ماكتبه عنه ناقدا لشعره، وإنما كان عدوا لدودا واقفا لغريمه بالمرصاد، لا يكفيه أن يطعن فى شعره، إنما يوجه طعناته للشعر ولصاحب الشعر ساعيا لتشويه صورته وإسقاط هيبته وتجريحه والتمثيل به وفض الناس من حوله.

ولاشك فى أن السياسة كانت دافعا أساسيا من دوافع العقاد فى هذه الحرب الشعواء التى شنها على شوقي. أما دعوة العقاد ومن كان معه للتجديد فشوقى المحافظ لم يكن ضدها ولم يهاجم أصحابها إلى الحد الذى يستفز العقاد ويدفعه للقيام بهجوم مضاد بل نحن نرى أن «شوقي» كان رائدا من رواد الدعوة للتجديد. وهذا واضح فى المقدمة التى كتبها للجزء الأول من ديوانه الصادر عام 1898م وفيها يتبرأ شوقى من شعر المديح ومن التكسب بالشعر وجعله مطية لتحقيق منفعة شخصية أو للوصول إلى هدف قريب كما كان يحدث فى العصور التى سبقت نهضتنا الحديثة. يقول شوقي: «إلا أن هناك ملكا كبيرا ما خلقوا ـ أى الشعراء ـ إلا ليتغنوا بمدحه ويتفننوا بوصفه، ذاهبين فيه كل مذهب، آخذين منه بكل نصيب. وهذا الملك هو الكون. فالشاعر من وقف بين الثريا والثري، يقلب إحدى عينيه فى الذر ويجيل الأخرى فى الذري. يأسر الطير ويطلقه، ويكلم الجماد وينطقه، ويقف على النبات وقفة الطل، ويمر بالعراء مرور الوبل. فهنالك ينفسح له مجال التخيل، ويتسع له مكان القول، ويستفيد من جهة علما لا تحويه الكتب، ولا توعيه صدور العلماء». وأنا لاأجد فى حديث شوقى هذا عن الشعر ما يتعارض مع حديث العقاد أو غيره من المجددين. فالشعر فى هذا الحديث ـ حديث شوقى ــ حوار مبدع خلاق لا بين الشاعر وطرف آخر محدود، بل بينه وبين الكون كله الذى لا يستطيع أن يتمثله إلا إذا انفعل به. الشعر إذن تجسيد لهذا الانفعال وتعبير عن هذه التجربة التى لا يستطيع الشاعر أن يعيشها إلا إذا كانت حواسه يقظة، و مشاعره صادقة، وخياله طليقا حرا، وشخصيته متأهبة حاضرة. فإذا وضعنا كلام شوقى عن الشعر وكيف يكون إلى جانب كلام العقاد الذى يلخص فيه دعوته للتجديد فماذا نجد؟ نجد أن كلام شوقى لا يتناقض مع كلام العقاد الذى يلخص فيه مذهبه فى التجديد فيقول: «وأقرب مانميز به مذهبنا أنه مذهب إنسانى مصرى عربي. إنسانى لأنه من ناحية يترجم عن طبع الإنسان خالصا من تقليد الصناعة المشوهة، ولأنه من ناحية أخرى ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة ومظهر الوجدان المشترك بين النفوس قاطبة. ومصرى لأن دعاته مصريون تؤثر فيهم الحياة المصرية. وعربى لأن لغته عربية». نحن لانجد أى تناقض بين ما قاله العقاد فى هذه السطور التى نقلناها من كتاب «الديوان» الذى أصدره هو والمازنى عام 1920 وما قاله شوقى فى المقدمة التى كتبها عام 1898م ، أى فى الوقت الذى كان فيه العقاد طفلا لم يبلغ العاشرة بعد لأنه ولد عام 1889 على حين كان شوقى فى التاسعة والعشرين شابا ناضجا وشاعرا موهوبا ومثقفا ثقافة جامعة حصلها بالعربية والفرنسية وقرأ فيها مشاهير الشعراء العرب أمثال أبى نواس، والمتنبي، والمعري، والبحتري، وأبى فراس، كما قرأ مشاهير الشعراء الفرنسيين، وخاصة الرومانتيكيين أمثال فيكتور هيجو، ولامرتين، وألفرد دوموسيه. بهذه الثقافة نظم شعره الذى حاول أن يوفق فيه بين التراث العربى الحى والروح الرومانتيكي. وبها أيضا كتب مقدمة ديوانه، فإذا كان العقاد قد قرأها فى السنوات التى كان يتلمس فيها طريقه إلى عالم الشعر والكتابة فهذه المقدمة علامة من العلامات التى اهتدى بها العقاد. فإن كان صحيحا أن شوقى بدأ مجددا، وهو لاشك صحيح، وكان كلام العقاد لا يتناقض مع كلام شوقي، وربما كان متأثرا به، فكيف نفسر هذه الحرب التى شنها العقاد على شوقى وأنكر فيها كل ما أنتجه شوقى ولم ير له ميزة يذكرها أو حسنة يعترف بها؟.

يصح فى الرد على هذا السؤال أن يكون الجواب هو أن شوقى الذى تزود بهذه الثقافة الجامعة، ودعا لتجديد الشعر وتخليصه من أيدى الذين أفقدوه قيمته حين جعلوه تقليدا ومحاكاة، وسلعة يتكسبون بها فيتحول هذا الفن الجميل على أيديهم إلى ثوب رث وخرق ملوثة، شوقى الذى سبق غيره إلى احترام الشعر ورد الاعتبار له ليؤدى دوره فى إحياء اللغة وإيقاظ الضمير ومخاطبة الوجدان وإنهاض المجتمع لم يكن وفيا دائما لما بشر به ودعا له. وبدلا من أن يجد نفسه ويقنع بمكانه الذى احتله فى نفوس المصريين وفى حركة النهضة وصار به أميرا للشعراء العرب ارتمى فى أحضان الخديو الخائن وصار كما قال عن نفسه «شاعر الأمير وما بالقليل ذا اللقب»!. ولاشك فى أن أماديح شوقى فى الخديو الخائن توفيق صفحات سوداء فى ديوانه وفى سيرته. لكن شوقى كما قدمه لنا محمد حسين هيكل وطه حسين ليس شاعرا واحدا، وإنما هو شاعران مختلفان شعر الأول ومواقفه تختلف اختلافا بينا عن شعر الآخر ومواقفه. الأول شاعر مجدد، ومثقف حر، ومواطن مصرى يطلب الاستقلال والدستور لبلاده، ويناصر المرأة، ويدافع عن حرية التفكير والتعبير. والآخر شاعر مقلد مداح يهلل للأتراك فى كل مناسبة وينطق باسمهم ويفخر بالانتماء لهم، فيثير فى النفس شعورا بالاستغراب والصدود والنفور لأنه فى مديحه للأتراك وحكامهم وسياساتهم يناقض نفسه، ويتنكر لثقافته التى حصلها فى مصر وفى فرنسا، ويبدو بهذا وكأنه يعارض الدعوة لاستقلال مصر ويرضى بأن تظل هى والبلاد العربية الأخرى ولايات عثمانية تعانى من التخلف والفقر والجهل والقهر والطغيان والعدوان الدائم على حقوق المواطن والإنسان. ومن شأن هذا الجانب السلبى أن يستفز العقاد الذى كان ينتمى لجيل جديد تربى فى أحضان النهضة وتبنى شعاراتها، من شأن هذا الجانب السلبى الذى رآه فى شوقى أن يستفزه، ويدفعه لأن يرد عليه بعنف، وأن يعممه على كل ما يقوله شوقى وكل ما يفعله، ثم لا يراجع نفسه إلا بعد حين. وللحديث بقية.


4-
من الطبيعى أن تتعدد مواقف النقاد من شوقى وتختلف آراؤهم فى إنتاجه وتتضارب فى بعض الأحيان، لأن شوقى جملة من المواهب والطاقات، فهو شاعر وناثر وروائى ومسرحى، وإنتاجه فى معظم هذه الفنون وفير وإذا كان شوقى وهو فرد واحد متعدد على هذا النحو، فمن الطبيعى والمنطقى أن يكون نقاده وهم كثيرون متعددين، وخاصة فى ذلك الزمن الذى ظهر فيه شوقى وعاش وأنتج، إنه هو أيضا زمن متعدد متداخل جمع بين مخلفات العصر المملوكى العثمانى وطلائع العصور الحديثة. ونحن نعرف أن شوقى كان ثمرة عدة أجناس اجتمعت كلها فيه، وهو يحدثنا عن نفسه فيقول: «أنا إذن عربى، تركى، يونانى، شركسى بجدتى لأبى، أصول أربعة فى فرع مجتمعة تكفله لها مصر، كما كفلت أبويه من قبل». ونعرف أنه ولد بباب إسماعيل، كما قال فى مديحه للسلطان حسين كامل.. أأخون إسماعيل فى أبنائه.. ولقد ولدت بباب إسماعيلا.. ولبست نعمته ونعمة بيته.. فلبست جزلا وارتديت جميلا..ونعرف بعد ذلك أن الخديو بعث به إلى فرنسا ينهل من ثقافتها، ويكمل تعليمه فى جامعاتها، وأنه عاد ليعمل فى القصر، ويصبح شاعر البلاط إلى قيام الحرب العالمية الأولى التى انحاز فيها الخديو للأتراك فخلعه الإنجليز المحتلون ونفوا شوقى الذى قضى سنوات الحرب فى إسبانيا، وعاد إلى مصر ليبدأ مرحلة جديدة فى حياته أعطى فيها نفسه لقضايا الوطن. ونعرف أن شوقى كان يملك اللغات الثلاث : العربية والتركية، والفرنسية، فإذا عدنا لنقاده رأينا فيهم ما يقربهم منه ويبعدهم عنه. فى الثقافة كانت العربية تجمع بينهم وبينه، وكان منهم من تعلم مثله فى فرنسا وامتلك لغتها مثل طه حسين ومحمد حسين هيكل، ومنهم من تعلم الإنجليزية وامتلكها مثل عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازنى وعبد الرحمن شكرى، لكن العلاقة التى كانت تربط بين شوقى وقصر الخديو فى مصر وقصر السلطان فى إستامبول، وكان الشعر أداة من أدواتها نظر إليها عدد من المثقفين المصريين بتحفظ، ومنهم من اعتبرها سببا كافيا لإعلان الحرب على شوقى، كما فعل العقاد والمازنى، خاصة وأن شوقى لم يكتف بأن يمدح الخديو والسلطان والأتراك، وإنما تجاوز هذا الموقف، وأصبح يهجو بعض الرموز الوطنية المصرية، ويشهر بها كما فعل فى شعره الذى هجا فيه الزعيم أحمد عرابى، وكما فعل مع شخصيات أخرى كان مترددا إزاءها عاجزا عن أن يحتفل بها ويعطيها حقها، ومن هذه الشخصيات الأستاذ الإمام محمد عبده صاحب الدور المشهود فى ثورة عرابى. شوقى الذى لم يبخل بالرثاء على غير المصريين من المعروفين والمجهولين، ومن هؤلاء نجل إمام اليمن الذى رثاه شوقى بقصيدة زادت عن أربعين بيتا لم تجد قريحته إلا بثلاثة أبيات قالها فى رثاء إمامنا نحن محمد عبده الذى انحاز للتفكير العقلانى، وتزعم الدعوة لتجديد الفكر الدينى، والتحرر من السيطرة العثمانية، والانتقال من حكم الفرد إلى النظام الديمقراطى. وفى الوقت الذى كان فيه الملك فؤاد يعمل على الاستئثار بالسلطة، ويحل مجلس النواب الوفدى يوم افتتاحه، وبعد انتخاب سعد زغلول رئيسا له، وكان قد حله قبل ذلك بثلاثة أشهر ـ فى ذلك الوقت لم يتردد شوقى فى الإشادة بالملك، وبما قدمه للثقافة والفن ـ يقول له فى حفلة افتتاح منشآت الجامعة المصرية: انظر أبا الفاروق غرسك هل دنت.. ثمراته وبدت له أعلام! وهو يكرر هذا السؤال ويخاطب الملك فى حفلة افتتاح نادى الموسيقى الشرقى فيقول: انظر أبا الفاروق غرسك هل ترى.. بالغرس إلا نعمة ونماء! ونحن لا نشك فى وطنية شوقى، ولا نشك فى إيمانه بالديمقراطية، وهو ما عبر عنه بوضوح وصراحة فى مثل قوله: زمان الفرد يا فرعون ولى.. ودالت دولة المتجبرينا.. وأصبحت الرعاة بكل أرض.. على حكم الرعية نازلينا.. لكن العلاقة التى ربطت بين شوقى والقصر زجت به فى مواقف تثير الريبة وتدفع الخصوم لمواصلة الحرب التى أعلنوها عليه، خاصة من كان منهم يشارك فى النشاط السياسى ويناضل فى سبيل الاستقلال الوطنى والدستور مثل العقاد الذى كان له فى كل قضية من القضايا التى أشرنا لها فى السطور السابقة موقف عبر عنه بقوة، وخاض فى سبيله المعارك، وحوكم وسجن، كتابه عن الإمام محمد عبده تعبير عن إعجابه الشديد بفكر هذا الأستاذ وبمواقفه، وكذلك كتابه عن سعد زغلول، وقد وقف العقاد فى البرلمان يدافع عن الديمقراطية، ويهدد الملك فؤاد الذى لم يكف عن اعتدائه على الدستور حتى وصل به طغيانه إلى أن يستبدل به دستورا آخر فصل على مقاسه، وتجاهل فيه أبسط مبادئ الديمقراطية، وهذا ما تصدى له العقاد فوقف فى مجلس النواب يقول: «إننا سنحطم أكبر رأس فى البلاد إذا اعتدى على الدستور!.»، لكن العقاد الذى أنكر موقف شوقى عمم موقف هذا، فأنكر شوقى، وأنكر مواقفه، وأنكر شعره كله لم يستثن منه شيئا، فعل هذا فى كتابه «الديوان» الذى صدر سنة 1920 وكرره مع تخفيف اللهجة فى كتابه «شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضى» وفيه ميز العقاد بين ما سماه شعر الصنعة، وهو فى رأيه شعر شوقى الذى «ارتفع فيه إلى الذروة العليا» . وفى الأسبوع القادم نتابع حديثنا عن شوقى ونقاده.


5-
بعد أن تحدثنا عن شوقى كما رآه العقاد نتحدث عنه كما رآه العميد طه حسين.

والناظر فيما قاله طه حسين عن شوقى يراه مختلفا عما قاله العقاد، لكننا لو دققنا النظرة لوجدنا أنه اختلاف فى اللغة التى عبر بها كل منهما عن رأيه، لكن الأساس النظرى الذى بنى عليه كل منهما رأيه أساس مشترك رأينا أن نجعله موضوعا لحديثنا هذا الأسبوع.

ماهو هذا الأساس المشترك الذى بنى عليه العقاد وطه حسين نقدهما لشوقى؟

هو ما قاله العقاد فى مقدمة كتاب «الديوان» الذى أصدره مع صديقه المازنى يشرحان فيه مذهبهما الجديد فى الأدب وينتقدان شعر التقليديين ونثرهم. فالعقاد فى هذا الكتاب ينقد شعر شوقى ونثر مصطفى صادق الرافعى. والمازنى ينقد نثر المنفلوطى. والأساس النظرى لهذا النقد هو ما لخصه العقاد فى مقدمة الكتاب وفيه يقول: «وأوجز ما نصف به عملنا ـ إن أفلحنا فيه ـ أنه إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنسانى مصرى عربى، إنسانى لأنه من ناحية يترجم عن طبع الإنسان خالصا من تقليد الصناعة المشوهة، ولأنه من ناحية أخرى ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة. ومصرى لأن دعاته مصريون تؤثر فيهم الحياة المصرية. وعربى لأن لغته العربية.

فهو بهذه المثابة أتم نهضة أدبية ظهرت فى لغة العرب..».

ونحن نقرأ كتاب طه حسين «حافظ وشوقى» فنراه يتحدث عن المثل الأعلى للشعر وما فيه من جمال فنى يستمده «من هذا الروح الخالد الذى يتردد فى طبقات الإنسانية كلها، فيحل فى كل جيل منها بمقدار وهو يتشكل فى كل جيل بالشكل الذى يلائمه، ويتصور فى كل بيئة بالصورة التى تناسبها، وهو من هذه الناحية مصدر وحدة وفرقة للإنسانية: مصدر وحدة لأنه واحد يجمع الناس مهما يختلفوا على الإعجاب والشعور باللذة القوية. ومصدر فرقة لأن لهم أشكال الأجيال والبيئات المختلفة ما ينوعه ويخيل إليك أنه كثير».

ونحن ننظر الآن فيما قاله طه حسين وما قاله العقاد فنرى أنهما يتحدثان كل بطريقته عن أساس نظرى مشترك أو عن مدرسة واحدة هى المدرسة الرومانتيكية التى يرى أصحابها أنها ثلاثة شروط أو ثلاثة مصادر تقوم عليها الثقافة الإنسانية، هذه المصادر هى: الجنس الذى تنتمى له كل جماعة وتفكر بعقليته وتتكلم بلغة من لغاته، فالذين يتكلمون اللغات الهندوأوروبية يختلفون عن الذين يتكلمون اللغات السامية واللغات الحامية، والبيئة مصدر آخر، فالذين يعيشون فى الجنوب يختلفون عن الذين يعيشون فى الشمال، وأخيرا العصر، فالذين عاشوا فى العصور الحديثة يختلفون عن الذين عاشوا فى العصور الماضية.

هذه الشروط الثلاثة لم تتضح على هذا النحو إلا نتيجة للتطورات التى شهدتها أوروبا الغربية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فخلال هذين القرنين تغير المجتمع الأوروبى وظهرت فيه طبقة وسطى انحازت للعقل والديمقراطية والرابطة الوطنية، وقاومت سلطة الكنيسة الكاثوليكية، وشجعت إصلاح الفكر الدينى، واعترفت بحقوق الإنسان الفرد، وتحررت من التقاليد الموروثة، واندفعت فى بحر الظلمات تكشفه وتكتشف ما وراءه من عوالم كانت مجهولة، وفى هذا المناخ الذى تحرر فيه الناس من أسر الماضى وأخذوا يتطلعون إلى المستقبل مزودين بالثقة فى أنفسهم والإيمان بما يملكون من طاقات ومواهب ظهرت المدرسة الرومانتيكية فى الأدب والفكر، وفى الفنون التشكيلية والموسيقى، ظهرت أولا فى أوروبا الغربية، فى ألمانيا وانجلترا وفرنسا، وانتشرت بعد ذلك فى العالم كله وإن اتخذت فى كل ثقافة قومية صورة خاصة.

ومن الطبيعى أن تتحول مصر هى الأخرى فى النصف الأول من القرن العشرين، وخاصة فى عشرينياته وثلاثينياته وأربعينياته إلى وطن للرومانتيكية، فالتطورات التى شهدتها أوروبا فى القرنين السابع عشر والثامن عشر شهدت مصر ما يذكر بها ويتواصل معها فى القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين الاتصال بأوروبا الغربية فى مختلف المجالات، وإرسال البعثات، وترجمة ما وصل إليه الأوروبيون فى العلوم الحديثة، والانتفاع بخبرة الخبراء منهم فى مصر التى كانت تسعى للتحرر من الهيمنة العثمانية واستعادة الاستقلال الوطنى وفى هذا المناخ بدأت حركة إحياء اللغة والشعر، واستقبلت مصر جمال الدين الأفغانى وبدأت معه العمل على تجديد الفكر الدينى، كما بدأ العمل لتغيير نظام الحكم وإقامة نظام ديمقراطى. ومن شأن هذا كله أن يفتح للرومانتيكية طريقا إلى مصر.

ونحن نعرف أن شوقى كان شديد الإعجاب بالشعراء الرومانتيكيين الفرنسيين أمثال فيكتورهيجو، وألفرد دوموسيه، وهو يذكرهما فى المقدمة التى كتبها للجزء الأول من ديوانه، ويشير إلى رواية فيكتورهيجو التى يسميها «الأشقياء» وإلى كتاب دوموسيه «اعتراف ابن العصر» وقد فتن شوقى بقصيدة الشاعر الرومانتيكى لامارتين «البحيرة» وترجمها إلى العربية وقال عنها «إنها من آيات الفصاحة الفرنسية».

لكن شوقى الذى تأثر بالشعراء الرومانتيكيين فى صباه وترجم من أشعارهم، وتعرف بواسطتهم على فن الرواية وفن المسرح، وتبرأ من شعر التقليد والمدح، ودعا لشعر جديد يعبر عن الحياة الجديدة التى نعيشها فى هذا العصر ـ شوقى هذا الذى سبق غيره فى الدعوة للتجديد لم يكن وفيا لما دعا إليه، بل كان فى جانب مما قدمه تجسيدا للعيوب التى ذكرها، على الرغم مما كان يمتلكه من قدرة فذة على استخدام لغة الشعر والتصرف فيها، وهنا انفتح المجال أمام نقاده الذين تأثروا بعده بالرومانتيكيين الإنجليز والفرنسيين، لكنهم سبقوه فى الدعوة للتجديد وفى التبشير بالحركة الرومانتيكية التى ستفرض نفسها على الثقافة المصرية فى العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى.


6-
سأبدأ حديثى عن نقد طه حسين لشوقى بسطور يعترف فيها الأستاذ العميد بأنه كان فى حياة حافظ وشوقى يؤثر شاعر النيل على أمير الشعراء. يقول فى فصل كتبه بعنوان «حافظ وشوقى» وجعل عنوانه عنواناً للكتاب الذى أصدره عن الشاعرين إنه يريد فى هذا الفصل أن يكون منصفاً «ولعل أول الإنصاف أن أعترف بأنى قد عرفت الشاعرين وكان بينى وبينهما ما يكون بين الناس من قرب وبعد، ومن مودة، وإعراض». ثم يزداد صراحة فيقول «وأنا أريد أن أعترف أيضاً بأنى كنت أوثر حافظا على شوقى فى حياتهما، وكنت أختص شاعر النيل من المودة والحب بما لم أختص به أمير الشعراء، لأن روح حافظ وافق روحى، ولأن كثيراً من أخلاق حافظ وافق أخلاقى. ولكنى على ذلك أريد (وأستعين الله على ما أريد) أريد أن أنسى الآن حبى لحافظ وإيثارى إياه بالمودة الصادقة والحب الخالص، وأن أجعل الرجلين سواء أمام النقد الأدبى الذى أريد أن أعرض له فى هذا الفصل. وأنا أعلم أن من العسير جداً أن يخلص المؤرخ ومؤرخ الأدب بنوع خاص من عواطفه وشهواته ومن ميوله وأهوائه ومن ذوقه فى الأدب والفن».

هذا الاعتراف حرصت على أن أقدمه بنصه، لأنه يفسر لنا من ناحية الآراء السلبية التى سنجدها فى بعض ما قاله طه حسين عن شوقى، ولأنه من ناحية أخرى يزيدنا ثقة فيما كان يتمتع به عميد الأدب من طاقات وفضائل تمكنه من أن يراجع نفسه وأن يكون محقاً منصفاً.

وطه حسين يبدأ حديثه عن شوقى بالحديث عن الشعر المصرى عامة كما كان فى تلك المرحلة التى بدأت بالبارودى وكانت مرحلة إحياء استعاد فيها الشعر ذاكرته وفصاحته، وأكد انتسابه للعصور التى ازدهرت فيها الثقافة العربية، وهذا ما تحقق فى شعر الجيل الذى ينتمى له شوقى وحافظ ومطران، لكنه لم يضف جديداً، فى رأى طه حسين والعقاد، إلى هذا القديم الذى أحياه، وكان أقصى ما يستطيعه شعراء الإحياء هؤلاء أن يذكروا قراءهم بأبى تمام والبحترى والمتنبى. من هنا اعتبرهم طه حسين مقلدين متصنعين لا يقلدون الشعر فحسب، بل يقلدون الشعر القديم والشعراء القدماء أيضاً، فيتنكرون لشخصياتهم وللعصر الذى يعيشون فيه ويتقمصون شخصيات القديم ليتمكنوا من تقليدهم. وقد ذهبت هذه الفكرة بطه حسين فى بعض ما كتب إلى الحد الذى أنكر فيه وجود شعر فى مصر. لأن التقليد فى أحسن أحواله يكرر الأصل، بل هو لا يكرر إلا الشكل ويعجز عن تكرار الجوهر الذى لا يمكن أن يتكرر لأنه هو أعماق الشاعر وهو ذاكرته وذكرياته وشخصيته. والنتيجة التى وصل إليها طه حسين واعتبرها حقيقة واقعة هى قوله «ولابد أن يقتنع الأدباء جميعاً بأن ليس فى مصر شعر خليق أن يسمى هذا الاسم» !

وإذا كان طه حسين قد ذهب فى نقده إلى هذا الحد الذى أنكر فيه وجود شعر فى مصر فنحن لن نستغرب منه أن ينكر وجود تيارات أو مذاهب أو أفكار يؤمن بها الشعراء المصريون ويلتزمونها فيما ينظمون، وهذا ما صرح به فى الفصل الذى كتبه عن مقدمات الدواوين الأولى التى أصدرها شوقى وحافظ ومطران، وفيه رحب بمقدمة شاعر القطرين وأثنى على ما جاء فيها، لكنه نسب مقدمة حافظ لكاتب لم يذكر اسمه ولم يجد فيها ما يستحق أن يناقشه. أما فى ديوان شوقى فقد تحدث عن المقدمة التى كتبها الدكتور محمد حسين هيكل ولم يجد فيها ما كان يبحث عنه. وانتهى إلى أن يقول «الواقع أنى لا أعرف لأمير الشعراء عقيدة صريحة فى الشعر. وما أرى أنه قد حاول أن يكون لنفسه هذه العقيدة. وما أرى أنه فكر فى الشعر إلا حين يقوله. إنما هو كما يقول هيكل فى شىء من الدهاء ـ مجدد حينا ومقلد حينا آخر. وهو فى تجديده وتقليده لا يصدر عن عقيدة فنية واضحة، وإنما يتأثر بالساعة التى يتهيأ فيها لقول الشعر وبالظرف الذى يقرض فيه الشعر ليس غير» !

هنا.. نستطيع أن نعترض على ما قاله عميد الأدب العربى ولنا الحق. لا نعترض على ما قاله عن شعر شوقى، فالكلام عن الشعر مجال يتسع للرأى والرأى الآخر، لأننا فى قراءتنا للشعر نستجيب ونحتكم لحاجات وملكات وأذواق وظروف تذهب بنا فى طرق تتقارب وتتباعد وتقبل أن نناقشها دون أن ننجح دائما فى الوصول إلى اتفاق كامل، ولهذا نسلم لعميد الأدب بحقه فى أن يقول فى شعر شوقى ما يقول. وسوف نرى أنه لم يكن دائماً متفقاً مع نفسه. وأنه قد يقول اليوم ما لا يقوله غداً. لكننا نعترض بشدة على ما قاله العميد عن عقيدة شوقى فى الشعر، لأنه أنكر وجود هذه العقيدة معتمداً على عبارات من المقدمة التى كتبها هيكل ومتجاهلاً مقدمة شوقى التى كتبها لديوانه فى طبعته الأولى الصادرة عام 1898، وهذا ما لم أستطع فهمه ولم أستطع تفسيره، لأن المقدمة منشورة فى ديوان صدر قبل أن يكتب طه حسين ما كتبه عن المقدمات بأكثر من عشرين سنة، وربما كانت هناك معلومات لم أتمكن من الحصول عليها. لكن مقدمة شوقى لديوانه تسمح لى بأن أخالف الأستاذ العميد وأن أؤكد أن شوقى كانت له عقيدته فى الشعر.

وشوقى يبدأ مقدمته بحديث عن عظمة هذا الفن وعن مكانته الرفيعة التى احتلها فى ثقافة العرب وفى حياتهم، ويستشهد بما قدمه إمرؤ القيس، والمتنبى، وأبو العلاء، وأبو فراس، وابن الأحنف، وابن خفاجة، والبهاء زهير وبما قاله عن الشعر على بن أبى طالب رضى الله عنه والإمام الشافعى.

وهو ينتقل من هذه البداية ليتحدث عما تعرض له الشعر فى عصور الانحطاط على أيدى الجهلاء والأدعياء والمقلدين والمداحين الذين خرجوا من فضاء الفكر والخيال وسجنوا أنفسهم فى مضيق الصنعة والزخرفة اللفظية.

ثم إن هؤلاء أو معظمهم لم يعرفوا للشعر قدره ولم يحفظوا له جماله وجلاله وإنما حولوه إلى سلعة وتعاطوه تجارة. وشوقى بهذا يدعو الشعراء ويدعو المثقفين ويدعو المجتمع كله للعمل على إنقاذ الشعر وتخليصه من هذا المصير الذى انساق إليه وتمكينه من الإنتماء للعصر، والصدق مع الواقع والدفاع عن الإنسان. فالشعر ثقافة ورسالة.

وشوقى يتحدث فى مقدمته عن القصيدة بوصفها وحدة متكاملة وبناء متماسكاً تعاونت فيه الملكة والسليقة.

وكما تحدث شوقى عن الشعر العربى تحدث عن الشعر الفرنسى الذى عرفه وقرأ فيه وترجم منه. وهو يذكر فى مقدمته لامرتين، وألفرد دو موسيه، وفيكتور هيجو.

فإذا كانت هذه هى ثقافة شوقى، وفهمه للشعر ورسالته، وموقفه من التجديد والتقليد، فبأى منطق نقول إن شوقى ليست له عقيدة شعرية ؟! بأى منطق نفهم مقدمته لديوانه ؟ وبأى روح وبأى دافع نقرأ قصائده ومسرحياته ورواياته ؟

نقرأها بمودة، ولنرى إلى أى مدى كان شوقى وفياً للمبادئ التى تحدث عنها فى مقدمته لديوانه ؟


7-
حين نقرأ ما كتبه عميد الأدب العربى طه حسين فى نقده لأمير الشعراء أحمد شوقى نجده حيران مترددا يمدحه حينا ويذمه حينا آخر، يقرأ القصيدة المنشورة فى الصحفية أو فى الديوان فيقف أمامها معجبا مفتونا بها يعبر عن إعجابه فيصل إلى مداه، ويقرأ أخرى فيقف إزاءها ساخرا منكرا واصلا فى الإنكار والسخرية إلى مدى بعيد يعمم فيه هذا الموقف على شعر شوقى وعلى الشعر المصرى كله.

ونحن لا نشك بالطبع، ولا أحد يخالجه الشك فى أن شعر شوقى، وشعر غيره ليس درجة واحدة من الجودة، وإنما فيه الجيد الرائع، وفيه ما لم يبلغ هذه الدرجة، فمن حق طه حسين أو أى ناقد آخر أن يقرأ ويميز بين ما يراه جيدا وما لا يراه كذلك، لكن طه حسين لا يميز فقط بين قصيدة لشوقى وقصيدة أخرى له، وإنما يميز فى بعض ما كتبه عن شوقى بين موقفين يقفهما من شعره، يراه فى أحدهما مجيدا مجددا، ويراه فى الموقف الآخر ناقلا مقلدا، وهو يطلق هذا الحكم دون تحفظ أو احتياط، مرة بالسلب، ومرة بالإيجاب، فنقف نحن أيضا محتارين أمام شعر شوقى وأمام نقد طه حسين، نقرأ شعر شوقى، فنعجب فى معظم الأحيان به ونفضل بالطبع بعضه على بعض، ونقرأ نقد طه حسين فنفهم عنه ونتعلم منه، لكننا نراه فى نقده لشوقى يمدحه ويذمه، فلا نعرف بالضبط موقفه من شعره ولا ندرى كيف نصدق ونقتنع.

خذ مثلا ما قاله عن قصيدة شوقى التى حيا فيها الأتراك وزعيمهم مصطفى كمال حين تمكنوا من طرد اليونانيين الذين دخلوا بلادهم فى عقب الحرب العالمية الأولى واحتلوا مدينة أزمير وأخذوا يعدون العدة لاحتلال الأناضول كلها دون أن يحرك السلطان العثمانى محمد السادس ساكنا، فلم يتصد لهم إلا ضابط شجاع حارب فى ليبيا والبلقان، وفى أرمينيا، وفى فلسطين، وكان فى الوقت ذاته مناضلا سياسيا مثقفا يدعو لتحديث تركيا وإخراجها من ظلمات العصور الوسطى ونظمها العتيقة التى سارت بها إلى سلسلة من الهزائم دمرتها تدميرا، هذا الضابط هو مصطفى كمال الذى سيصبح اسمه أتاتورك، أى أبو الأتراك، لأنه تمكن من أن يجمع الأتراك حوله، ويدخل بهم الحرب ضد المحتلين اليونانيين، فاعتبره السلطان خارجا عليه وأصدر أمرا بقتله، لكن مصطفى كمال واصل القتال ضد اليونانيين حتى طردهم من كل الأراضى التى احتلوها، وألغى السلطنة وأقام جمهورية تركيا التى انفصلت فيها الدولة عن الدين، وأصبحت فيها السلطة للشعب، وهذا هو البطل الذى حياه شوقى أجمل تحية فى قصيدة شبهه فيها بخالد بن الوليد فقال فى مطلعها:

الله أكبر! كم فى الفتح من عجب

يا خالد الترك، جدد خالد العرب!

هذا المطلع لم يرض عنه طه حسين، بل أثار سخريته وجعله يضحك ويشعر فى الوقت نفسه بالأسى، ما الذى أضحك طه حسين فى هذا المطلع الوقور؟.

أضحكه أن مصطفى كمال يعيش فى هذا العالم الحديث، ولا يعيش فى الماضى، يعنى أن شوقى كان عليه أن يشبه القائد التركى بنابوليون مثلا أو بروميل أو سواهما ليصبح فى نظر عميد الأدب مجددا، لكنه فى نظره مقلد، ولهذا شبه مصطفى كمال بقائد عربى قديم كان يقاتل بالسيف والرمح، وليس بالدبابة والمدفع هو خالد بن الوليد، فضلا عن أن شوقى عارض بقصيدته التى قالها فى مصطفى كمال، وفى معارك الأناضول قصيدة أبى تمام التى قالها يمدح فيها الخليفة العباسى المعتصم ويهنئه بانتصاره على الروم، وفتحه عمورية ـ فى القرن التاسع الميلادى ـ فالبحر الذى قال فيه أبو تمام قصيدته، وهو البسيط قال فيه شوقى قصيدته، والقافية هى القافية، وهى الباء المكسورة، وعمورية التى فتحها المعتصم مدينة قديمة تقع فى الأناضول، أى فى الأرض التى دارت فيها المعارك بين الأتراك واليونانيين فى القرن الماضى.

لكن شوقى لم يكن يتحدث فى قصيدته عن فنون القتال، ولم يكن يريد أن يقارن بين ما فعله القائد التركى فى المعارك التى ربحها وبين ما فعله غيره من القادة الذين انتصروا فى الحروب الحديثة، وإنما كان يتحدث عما تمتع به مصطفى كمال من شجاعة وزعامة وإقدام وقدرة على انقاذ الأتراك من الهزائم التى سقطوا فيها فى الحرب العالمية الأولى، وانتهت باستسلامهم لليونانيين الذين احتلوا بلادهم، شوقى كان يتحدث عن هذه المعجزة التى استرد بها الأتراك إيمانهم بأنفسهم وبقدرتهم على انتزاع النصر فى وقت عصيب كانت فيه أوروبا كلها تقف ضدهم وتوقع بهم الهزائم وتشجع اليونانيين على اكتساح الأناضول وتدمير ما بقى من السلطنة العثمانية المنهارة، وفرض هذا الموقف على السلطان الذى استسلم للأوروبيين خوفا على نفسه، وخان بلاده، وتخلى عن شعبه وقت اشتداد المحنة، ووقف فى صف الأعداء، وفى قلب هذا الدمار الشامل، وهذا الظلام المروع وقف رجل واحد يعترض ويرفض الاستسلام، ويحيى فيمن حوله ما فقدوه، ويستثير حماستهم واحترامهم لأنفسهم، وينجح شيئا فشيئا ليس فقط فى تحرير أرض بلاده من المحتلين، وإنما أيضا فى تخليص أرواح الأتراك وعقولهم من أغلال العصور المنحطة.

هذه المعجزة تذكر بالمعجزات التى تحققت على أيدى أيطال المسلمين فى العصور الأولى، ومنهم خالد بن الوليد الذى كان يخرج من نصر ليدخل فى نصر جديد، فى دومة الجندل، وفى العراق، وفى الشام، فى دمشق، وفى اليرموك، وقد سماه الرسول (ص) سيف الله كما سمى الأتراك بطلهم القومى بعد ذلك بثلاثة عشر قرنا أتاتورك، وهو الاسم الذى أصبح به علما من أعلام التاريخ، هل نرى فى تشبيه أتاتورك بخالد بن الوليد ما يضحك؟.

لا، ولكن طه حسين ضحك، ولأن التشبيه لم يعجبه ولم يطربه فقد شعر بالأسى!.

وفى الأربعاء المقبل نكمل هذا الحديث.


8-
لم يكن عميد الأدب العربى طه حسين مجرد ناقد نافذ الرؤية مسموع الكلمة، وإنما كان أيضا فناناً مبدعاً نظم الشعر وكتب «الأيام» و«شجرة البؤس» و«دعاء الكروان» وغيرها. وقد لجأ فى نقده لشوقى إلى حيلة ذكية لا يحتالها إلا الكتاب المبدعون. وهى أن ينسخ من نفسه صورة يتخذها صديقاً له ويلقنها الأسئلة التى يشعر بالحرج من أن يفصح عنها، لأنها ليست دائما مجرد أسئلة بريئة، وإنما هى أسئلة حاملة لإجابات يعتقد طه حسين أنها حق، وأنها رسالته التى يجب عليه أن يؤديها. وبهذه الحيلة الماكرة استطاع أن يقول فى شوقى وفى الشعر المصرى عامة ما وجد أنه قد يصدم الجمهور القارئ الذى لم يكن يستطيع أن يخسره، لأنه كان فى معركة عنيفة مع المحافظين يحتاج فيها للقراء المستنيرين الذين كانوا يحبون شوقى ويفخرون بإمارته للشعر العر بى، وكانوا فى الوقت ذاته يقرأون لطه حسين ويعجبون به ويعوضونه بوقوفهم إلى جانبه عن مكانه الذى خسره فى الجامعة بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى»، ولهذا استعار وجهاً آخر يشاركه فى التعبير عن آرائه هو وجه الصديق الذى لم يكتف بتسميته، بل شخصه تشخيصا يساعده فى التنكر ويسمح لطه حسين بأن يحاوره وبينهما مسافة تساعده فى أن يقدم آراءه للقارئ لا على أنها كلام جاد يستفزه للرد أو الرفض، بل على أنها مداعبات لا يقصد بها إلا الضحك. ولهذا كان طه حسين يخاطب صديقه هذا فيقول له : «ما أرى إلا أنك عابث صاحب لهو ودعابة، أو ماكر صاحب كيد، تريد أن تثير نحواً من البحث ترى فى إثارته شيئاً من النفع، فإن تكن عابثاً فأحبب إلىّ بعبثك، وإن تكن ماكراً فأهون على بمكرك. ولو أن لى من الوقت سعة لشاركتك فى هذا العبث أو للقيت مكراً بمكر وكيداً بكيد». وبهذه الحيلة المسرحية استطاع طه حسين أن يقول عن شعر الذين عاصرهم من شعراء الإحياء إنه ليس شعراً حديثاً، وليس شعراً قديماً، لأنه لا يمثل حياتنا الحاضرة، ولأن لغته وشكله وأنحاءه فى التمثيل والتصوير لم تنشأ لتمثل هذه الحياة، كما أنه لا يمثل حياة القدماء، إذ هو لم ينشأ لتمثيلها.

وبهذه الحيلة وبهذه النظرة تحدث طه حسين مع «صديقه» عن قصيدة شوقى التى هنأ فيها الأتراك بانتصارهم على اليونانيين فقال له «وما أرى أنك نسيت ما كنا فيه من ضحك وأسى حين قرأنا منذ أعوام قصيدة شوقى التى يصف فيها انتصار الترك على اليونان فى آسيا الصغرى والتى يبدأوها بقوله : الله أكبر ! كم فى الفتح من عجب... يا خالد الترك جدد خالد العرب ! نعم ضحكنا وأسينا حين قرأنا هذه القصيدة، وأضحكنا مطلعها قبل كل شىء، فكم عجبنا من ذكر خالد (ابن الوليد) ومقارنة مصطفى كمال (أتاتورك) به..» هكذا عبر طه حسين عن رأيه فى قصيدة شوقى وفى مطلعها فلم يصرح به حتى لا يثير عليه غضب القراء الذين فرحوا بانتصار الأتراك واعتبروه انتصاراً للمسلمين على أعدائهم، وهذا هو المعنى الذى أوحى لشوقى بمقارنة أتاتورك بابن الوليد فجعله فيها بطلاً من أبطال الإسلام الأوائل، بينما رأى طه حسين أنها مقارنة بين طرفين بعيدين بعد العصور الحديثة عن العصور الوسطى التى ينقل شوقى عنها ويقلد ما كان فيها. وإلا فالبون شاسع بين الحياة التى عاشها ابن الوليد والحياة التى عاشها أتاتورك وعاشها شوقى معه ونظم هذه القصيدة الطويلة التى يصف فيها انتصار الأتراك هذا الانتصار الضخم بعد الحرب الكبرى، فلم يتعرض فى وصفها الطويل المفصل للمدفع ولا للطيارة ولا لغيرهما من أدوات الحرب فى العصر الحديث، وإنما اكتفى بالخيل والسيف والرمح والدرع، ولم يتعرض فيها للأوضاع البائسة التى صار إليها الشرق فى العصور الحديثة، وإنما تحدث عن الأيوبيين فى دمشق وعن الحمدانيين فى حلب، لأنه لا يعيش فى عصره هذا ولا ينفعل بأحداثه، وإنما يعيش فى الماضى ويقلده، وأقصى ما وصل إليه فى قصيدته معارضته لقصيدة أبى تمام فى فتح عمورية وتقليده لها ولغيرها من قصائد الشعراء القدماء الذين كانوا يتحدثون عن بيض الصفائح، و شهب الأرماح، وآساد الوغى وسواها مما نجد مثله فى شعر شوقى وفى قصيدته هذه التى يتحدث فيها عن الرياح الهوج ويقصد الخيل، وعن أسد الشرى ويقصد الفرسان المقاتلين. وينتهى طه حسين إلى هذا الحكم الظالم الذى يقول فيه عن قصيدة شوقى «إن هذه القصيدة فارغة إلا من الألفاظ ليس فيها شىء» ! لماذا هو حكم ظالم ؟ هو حكم ظالم لأن الأستاذ العميد يتجاهل فيه ما سبق له أن قاله وهو أن شوقى وغيره من شعراء عصره نشأوا فى ظروف فرضت عليهم أن يكون شعرهم إحياء وامتدادا لتراث الشعر العربى، لأنه حلقة الوصل بين الماضى الذى توقف عن الحركة والحاضر الذى سيستأنف التقدم. وهو حكم ظالم لأن طه حسين يطالب شوقى بأن يكون واصفاً مقرراً بدلاً من أن يكون شاعراً فيتحدث عن الحرب كما يتحدث عنها المراسل العسكرى لا كما يتحدث عنها الشاعر الذى تتحول الوقائع والمعلومات فى شعره إلى صور يستخدم فيها التشبيه والاستعارة والرموز التاريخية والأسطورية لأنه يخاطب الأحاسيس والمشاعر والعواطف والأخيلة قبل أن يخاطب الحواس، ولأنه يتجاوز الوقائع المحدودة ويتحدث عن التاريخ، ويتجاوز الأمكنة المحدودة والأوقات المحدودة والأسماء المعينة ويتحدث عن العالم وعن الزمان وعن الإنسان.. ويسمى القادة فيذكر الغازى أتاتورك، ويشير إلى عصمت باشا مندوب الترك فى مؤتمر لوزان.. كل هذا يتجاهله طه حسين فى حديثه عن قصيدة شوقى ويصل إلى حد القول بأن بيتاً واحداً من قصيدة أبى تمام يزن ديوان شوقى كله، ثم يضيف : «ولو أنك التمست الشعر فى قصيدة شوقى هذه لما وجدت منه شيئاً» ؟! وهذه قسوة بالغة تعرض لمثلها شعراء كثيرون منهم أبو تمام الذى ناصبه العداء عدد من نقاد عصره منهم ابن الاعرابى الذى سمع شعره فقال : «إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل» !لا ياسيادة العميد. شوقى شاعر بحق. وهو ليس شاعراً فحسب، بل هو أمير الشعراء كما رآه شعراء عصره ونقاده ومنهم أنت فى مقالات أخرى لك سوف نعرضها فى حديث قادم.


9-
فى هذه المقالة أقلب الصفحة تمهيدا لحديث عن رأى آخر لطه حسين تراجع فيه عن رأيه السابق حتى ذهب الى نقيضه أو ما يكاد يكون نقيضا له، ولكن دون أن يعلن تراجعه، وإنما اعتبر رأيه الأخير الذى أنصف فيه شوقى، واعترف له بالإجادة والاتقان تصحيحا ضمنيا لرأيه الأول الذى سخر فيه منه ومن شعره وزاد فعمم وطعن فى الشعر المصرى كله.

والواقع أنها ليست المرة الأولى التى يغير فيها طه حسين رأيه فى شوقى.

لقد بدأ فى شبابه معجبا به كما يصرح فى الفصل الذى كتبه عن قصيدة شوقى فى كشف مقبرة توت عنخ آمون. يقول: «وقد قرأت فى الشباب شعر شوقى فى الشباب فوجدت فى هذه القراءة لذة لم أجدها فى قراءة شاعر مصرى آخر» وهو حريص على أن يقول إنه ليس الذى كان معجبا بشعر شوقى فى الشباب، وإنما كان يشاركه فى هذا الاعجاب مثقفون كبار منهم أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد الذى كان يتحدث معه فى مناسبة جمعتهما فقال عن شوقى: «وكنت شديد الاعجاب بشعر شوقى أقرأه فى لذة تشبه الفتنة وأثنى عليه كلما لقيته، فمازال شوقى يكسل ويقصر فى تعهد شعره حتى ساء ظنى بشعره الأخير».

هذا الإعجاب الشديد مالبث أن تبدد فى المرحلة التى مرحلة الشباب وكان شوقى فى خلالها قد فقد حريته إذ أصبح شاعر الأمير ينظم فى الحدود التى تعينها له الوظيفة باللغة التى تتفق مع الأغراض التى يتناولها، وهى أغراض لا تخدم إلا السلطة المستبدة، ولا تعنى إلا أفرادا محدودين حرمه السير فى ركابهم من أن يكون حرا صادقا مع نفسه ومخلصا لفنه فى مرحلة كان فيها قادرا على أن يتمتع بشبابه ويمتع بفنه وينمى ثقافته، ويطعم شعره بالجديد الذى كان مؤهلا لتقديمه، لأنه يملك الموهبة المستجيبة والبديهة الحاضرة، ويملك الثقافة العربية التى تصله بتراثه القومى، ويملك الثقافة الأجنبية التى تصله بالعصر، وبهما معا كان يستطيع أن يدخل كل التجارب الفنية وأن ينشئ فى الشعر العربى ديوانا جديدا يبدأ به عصر جديد، وهو دور لم يكن يستطيع أن يؤديه لأنه كان مطالبا بالبقاء فى الدائرة الضيقة التى تسمح له بأن يكون شاعر الأمير ولسانه المعبر عنه فى المناسبات المختلفة، أى أن يكون شاعرا تقليديا يخاطب الذوق التقليدى بلغته. ولأن شوقى ضحى بحريته وبفنه ليحتل المكان الذى احتله فى قصر الأمير ويؤدى فيه هذا الدور التقليدى فقد انقلب الإعجاب الشديد به إلى سخط شديد وشعور بخيبة الأمل وحملات عليه شارك فيها طه حسين، والعقاد، والمازنى، ولم تتوقف إلا بعد أن خلع الانجليز الخديو عباس حلمى الذى وقف إلى جانب الأتراك فى الحرب العالمية الأولى، ونفوا شاعره الذى قضى سنوات الحرب فى إسبانيا، وعاد بعد أن تغيرت الدنيا وتغيرت مصر، واستعاد شوقى حريته فاقترب من الشعر ومن الشعب بقدر ما ابتعد عن القصر. وتغير منه موقف طه حسين الذى لم يكن يحمل له من المودة ما كان يحمله لحافظ إبراهيم، خاصة بعد أن رحل الشاعران، ولم يبق أمام طه حسين إلا الشعر وحده يقدم نفسه بنفسه للقراء والنقاد غير متوسل باسم أو ظرف أو منصب.

ونحن نرى أن إعادة النظر هذه فى الموقف من شوقى لم تكن مقصورة على طه حسين وإنما شارك فيها آخرون منهم العقاد الذى كان يقول عن شعر شوقى إنه لا يرى فيه «مما لم تسمعه من أفواه المكدين والشحاذين إلى ما هو أخس من بضاعتهم وأبخس من فلسفتهم» فأصبح يقول عن شوقى إنه «كان علما للمدرسة التى انتقلت بالشعر من دور الجمود والمحاكاة الآلية إلى دور التصرف والابتكار، فاجتمعت له جملة المزايا والخصائص التى تفرقت فى شعراء عصره».

هذا التفسير الذى قدمته فى السطور السابقة هو تفسير طه حسين.

ولاشك أنه تفسير جدير بالاعتبار. لكنى أظن أن هناك دوافع مختلفة وراء هذا التحول.

هناك الدافع السياسى. فالمثقفون المصريون الذين وقفوا إلى جانب أحمد عرابى يطالبون معه بالدستور والبرلمان لم يغفروا للخديو توفيق لجوءه للمستعمرين الانجليز الذين كانوا ينتظرون أول فرصة تسنح لاحتلال مصر، ولم يغفروا بالطبع لشوقى عمله المهين فى خدمة هذا المستبد الخائن، فضلا عن أن أصول شوقى العثمانلية وإلحاحه فى التعبير عن اعتزازه بهذه الأصول كانت تباعد بينه وبين المثقفين المصريين، وكانت تغريهم بالسخرية منه والطعن فى شعره، خاصة فى تلك المرحلة التى شهدت نمو الروح الوطنية التى تجددت بها الحركة الثورية المصرية وارتفعت فيها الشعارات المطالبة بالاستقلال التام والديمقراطية.

هذا المناخ لم يكن يشجع مثقفين وطنيين وليبراليين من أمثال العقاد وطه حسين على التعامل مع شوقى بمودة، بل كان يغريهم بمقاطعته والنيل منه والازدراء به، وهذا ما تحدث عنه طه حسين فى مقالة كتبها بعد رحيل حافظ وشوقى وبدأها بذكر ما كان بينه وبين الشاعرين من قرب وبعد ومودة وإعراض وخصومات باطلة تعرض للناس فى الحياة وتؤثر فى النقد، وتغرى النقاد بالغلو فى المديح والسخط. وهنا يعترف طه حسين، بأنه كان يؤثر حافظا على شوقى فى حياتهما، وكان يختص شاعر النيل بالمودة والحب بما لم يختص به أمير الشعراء ولاشك فى أن شوقى كان يعرف هذا الموقف من طه حسين وكان يرد عليه، إن لم يكن بصورة مباشرة فبالطرق التى يلجأ إليها أمثاله من أصحاب المناصب والأثرياء.

وفى هذا الضوء نقرأ ما كتبه طه حسين عن شعر شوقى فى حياته يعيبه ويغلو فى ذلك غلوا لا يحجب قيمة هذا الشعر مهما غلا. وهذا ما يجب أن ننتبه له ونميز بين ما فيه من إنصاف وما فيه من إسراف.

وإلى ختام هذا الحديث فى الأسبوع القادم.


10-
بهذه المقالة أختم حديثى عن أمير الشعراء، ومع أن هذا الحديث قد طال بعض الشيء فأنا لم أقل فيه كل ما أستطيع قوله عن شوقى، لأنى فى حديثى عن شوقى أملك أسئلة أكثر مما أملك من اجابات، والأسئلة لاتكاد تحصى، لأنها تتناسل ويولد بعضها من بعض، والسؤال يطرح فيستدعى الإجابة، والاجابة تقدم فتوحى بسؤال جديد. والموضوع الذى نتحدث فيه هو الشعر، والشعر بسؤال يتسع لكل ما يتسع له العالم أرضه وسماؤه، ولكل ما يملك الانسان حواسه، وعواطفه، وذكرياته، وأحلامه، وأمانيه، قلبه، وعقله، وخياله. ثم إن الشاعر الذى نتحدث عنه هو أحمد شوقى، وشوقى ليس شاعرا كأى شاعر تأتى به الأيام كما تأتى بغيره فلا نشعر كثيرا بحضور من حضر ولا بغياب من غاب، وإنما جاء شوقى فبدأ فى شعرنا، وفى أدبنا وفى ثقافتنا عامة عصر جديد استعدنا فيه حياتنا التى غربت شمسها ألف عام مع غياب الأسماء التى تألقت فى القرن العاشر الميلادى أمثال المتنبى، والمعرى، ولم تشرق من جديد إلا مع ظهور شوقى فى القرن العشرين مزودا بما لم يتزود به شاعر سواه، ثقافة واسعة باللغات الثلاث التى أتقنها وأولاها العربية ثم الفرنسية، والتركية. ومجال فسيح تحرك فيه بين مصر وبلاد الشام، وبين تركيا وفرنسا، وبين إسبانيا والجزائر، وموهبة مستجيبة قادرة، وإنتاج حافل ضخم. ديوان يضم مايزيد على ستة عشر ألف بيت من الشعر، وسبع مسرحيات شعرية، وواحدة، نثرية، وخمس روايات، بالإضافة إلى تأملات نثرية سماها «أسواق الذهب» وبهذه الموهبة، وهذه الثقافة، وهذا الانتاج أصبح شوقى ثروة قومية اجتمع حولها المصريون، وغيرهم من الناطقين بالعربية يقرأون شعره ويحفظونه، ويحتفلون به، ويكتبون عنه شعرا ونثرا، ويبايعونه أميرا للشعراء، ويكفى أن ننظر فيما نظمه عنه حافظ إبراهيم، وخليل مطران وبشارة الخورى، وشفيق الجابرى، وإبراهيم طوقان لنراه ماثلا حاضرا فى شعر العصر كله. تحدثنا الشاعرة الفلسطينية المعروفة فدوى طوقان عن إعجاب شقيقها إبراهيم طوقان بشوقى فتقول: «إن شوقى سيد المكان فى قلب إبراهيم من الشعراء المعاصرين». أما إبراهيم طوقان فيجعل شوقى موضوعا لعدد من القصائد أطرفها القصيدة التى شكا فيها ما يتحمله من متاعب فى عمله كمعلم، ومنها:

شوقى يقول ومادرى بمصيبتى:/ قم للمعلم وفه التبجيلا/ (اقعد) فديتك! هل يكون مبجلا من كان للنشء الصغار خليلا؟!

ويكاد (يقلقنى) الأمير بقوله:
كاد المعلم أن يكون رسولا!
لو جرب التعليم شوقى ساعة
لقضى الحياة شقاوة وخمولا!

أما فى النقد فالدراسات والمقالات والرسائل الجامعية التى كتبت حول شوقى وشعره ولاتزال تكتب إلى هذه الساعة باللغة العربية، وباللغات الأجنبية تعد بالمئات، وتعتبر بتعدد موضوعاتها ولغاتها وتنوع مناهجها ثروة أخرى.

>>>

لكن هذا التقدير العظيم الذى ناله شوقى، وهذه الشهرة العريضة التى تمتع بها لم تمنع وجود أطراف أخرى تستهين بشوقى وتسخر منه، وتطعن فى شعره وتعتبره مجرد تقليد للقدماء لم يضف جديدا للشعر العربى فى هذا العصر، ولم يضف بالطبع قديما للشعر القديم، وإنما هو مجرد تكرار ومحاكاة له، والمحاكاة تنقل السطح ولاتستطيع أن تنفذ للجوهر، ولهذا يظل التقليد فارغا لا قيمة له.

هذا الموقف السلبى من شعر شوقى تأسس على التسليم بأن هذا الشعر تقليد للشعر القديم، هذا التسليم لم يكن دائما نتيجة لفحص دقيق ،ولم يكن دائما موضوعيا، وإنما كان انطباعا لم يسلم دائما من أن يكون سطحيا، فالمعجم الذى استخدمه شوقى هو المعجم الذى كان يستخدمه القدماء، والأغراض واحدة أو متشابهة والبحور الشعرية هى هي.. والقوافى هى هي. وشوقى يعارض أحيانا أبا تمام وأحيانا البحترى، وأحيانا ابن زيدون، إذن شوقى مقلد! من هنا تردد كبار النقاد فى موقفهم من شوقى، واختلف حديثهم عنه وتناقض أحيانا بين الإنكار والاعتراف متأثرين فى إنكارهم واعترافهم بمواقفهم المختلفة من الشعر، ومن شوقى، ومن الماضى والحاضر. هولاء النقاد منهم من يتبرأ من الماضى كله ولايرى فيه إلا عصور الانحطاط، ومنهم من يتشبث به ويعتقد أنه كان كله عصرا ذهبيا اكتمل، ومضى وانقضى فلا سبيل لاستعادته، أو الاضافة له وإن أمكن تقليده والسير على خطاه، وبهذه الثقافة قرأ عدد من النقاد المحافظين شوقى واعتبروا تقليده ميزة وفضيلة، لأنه تقليد للمثل الأعلى فى الشعر يتعاملون معه كما يتعاملون مع من يقلدون السلف الصالح. وفى المقابل وقف دعاة التجديد ضد شوقى ورأوا شعره كله تقليدا فى تقليد، ومنهم من ميز بين مرحلة فى مسيرة شوقى ومرحلة تالية وبين قصائد من شعره وقصائد أخرى، وفى مقدمة هؤلاء عميد الأدب العربى الذى كان أقرب نقاد شوقى إلى الاعتدال والإنصاف. طه حسين بالغ أحيانا وتطرف فى التنديد والسخرية مما اعتبره عيبا أو عجزا كما فعل فى حديثه عن قصيدة شوقى فى انتصار الأتراك على اليونانيين، لكنه لم يقصر فى الاشادة بما رآه جميلا ممتعا، كما فعل فى حديثه عن قصيدة شوقى فى كشف مقبرة توت عنخ آمون التى لم يجدها كما قال «آية من آيات شوقى، وإنما هى قصيدة من قصائده الجيدة، ولعلك إذا أردت أن تتلمس مصدر ما فى هذه القصيدة من جودة لم تتجاوز شيئا واحدا، وهو أن شوقى لم يتكلف فى هذه القصيدة لفظا ولا معنى، وإنما شعر وأحس وجرى قلمه بما أحس وما شعر، وليس هذا بالشىء القليل، ولعل هذا هو كل شىء». هذا التردد وهذا التطرف لم يكن موقف طه حسين وحده، وإنما هو موقف طه حسين وآخرين وإن انتهوا كلهم أو معظمهم إلى الإشادة بشوقى والاعتراف بحقه فى المكانة التى احتلها، كيف نفسر هذا التردد؟ هل هو تعدد المستويات الفنية فى شعر أمير الشعراء؟ أو تعدد القراءات النقدية واختلاف الظروف التى أحاطت بها؟

أظن أنهما معا.

وإلى لقاء قريب فى حديث عن شاعر النيل حافظ إبراهيم
أعلى