د. أحمد الحطاب - إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق

قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، أريد أن أوضِّحَ أن الرسولَ محمد (ص) بُعِثَ للناس جميعا أو للبشرية جمعاء مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء، 107) أو مصداقا لقوله جلَّ جلالُه : "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (سبأ، 28). العالمين تعني في القرآن الكريم جميعَ البشر أو جميعَ الأمم. أما في الآية الثانية، ف"كافَّةً للناس" تعني جميع الناس.

بعد هذا التَّوضيح، تجدر الإشارةُ إلى أن عنوان هذه المقالة هو حديثٌ نبوي شريف يقول فيه الرسول محمد (ص) أن اللَّهَ بعثَه ليُتمِّمَ أو ليُكمِّلَ مكارمَ الأخلاق، أي أن يُقوِّيَ الأخلاقَ الحميدة. وهنا، لا بد من ملاحظةٍ أولى وهي أن الرسولَ (ص) لم يقل "لأنشُرَ مكارمَ الأخلاق"، بل قال ل"أُتمِّمَ" مكارمَ الأخلاق. وهذا يعني أن القومَ الذين بُعِثَ فيهم، وهم العربُ، كانت لهم أخلاقٌ حميدةٌ رغم جهالتِهم. الملاحظة الثانية هو أن فعلَ "أُتمِّمَ" فعلٌ مضارعٌ. والفعل المضارع يعبِّر عن حدثٍ يقع في الزمن الحاضر والمستقبل. فحينما قال الرسولُ (ص) "لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق"، فهذا يعني أنه يُتمِّمها في الزمن (الحاضر) الذي كان يعيش فيه وسيستمرُّ في إتمامها في المستقبل حتى بعد وفاته من خلال الرسالة السماوية التي كلَّفه اللهُ سبحانه وتعالى بنشرها بين البشر. وهذا يعني : فإن مات خاتم الرسل والأنبياء (ص)، فرسالتُه، التي يُجسِّدانِها القرآن والسُّنة، لم تَمُتْ ولن تَموتَ وستبقى حية وستبقى هي الأساس والمصدر لمكارم الأخلاق إلى أن برثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. فما هي مكارمُ الأخلاق؟

مكارمُ الأخلاق تتطلَّب، أولا وقبل كل شيءٍ، أن يُزاوِجَ الإنسانُ بين إيمانه وعقله ليُصبحَ هذا الإنسانُ كائنا بشرياً مستتيراً فكرياً وقادرا على التَّحكُّم في إيمانه كي لا يقوده غُلُوُّ هذا الإيمانُ إلى التَّعصُّب والتَّطرُّف. وهذا يعني أن هناك توازناً بين العقل والإيمان لضمان تصرُّفٍ مبنيٍّ على مبدأ "خير الأمور أوسطها". كل واحد من هذين العُنصرين يُكيِّف العُنصرَ الآخر ليتماشى مع هذا المبدأ.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، فإن مكارمَ الأخلاق عبارة عن صفاتٍ يتميَّز بها الإنسانُ المسلمُ ويجب أن تتلاءمَ مع تزاوجِ الإيمان والعقل وبالتالي، مع مبدأ "خيرُ الأمورِ أوسطُها". والصفاتُ المرتبطة بمكارم الأخلاق كثيرة و متنوٍّعة وأوَّلُ مَن تحلَّى بها هو الرسول محمد (ص). من بين هذه الصفات، أذكرُ، على سبيل المثال، البساطة، التَّواضع، الطيبوبة، الصدق، الأمانة، العدل، العفو، الإنصاف، المروءة، الإنصات، التَّعاطُف، التقدير، التَّقاسُم، التَّفتُّح، الإيثار، الفضيلة، حبُّ الخير للغير، الأخوة، البِرُّ، الإحسان، الرحمة، التَّعاون، التَّضامن، التسامح، التَّعايُش، القبول، الكرم، احترام النفس البشرية، احترام كرامتها، النظافة من الإيمان، حرية الاختيار، قول الحق، طلبُ العلم...

وباختصارٍ، مكارم الأخلاق هي كل الصفات التي تجعل من الإنسان المسلم أنساناً نافعا لنفسه ولمجتمعه. أو دعونا نقول إن مكارمَ الأخلاق هي الصفات والسلوكات والأفعال والتَّصرُّفات التي تجعل من المجتمع مجتمعا صالحا تكون فيه المعاملات بين الناس مبنيةً على تزاوجٍ تام بين الإيمان والعقل واحتراما لمبدأ "خيرُ الأمور أوسطها" مصداقا لقوله سبحانه نتعالى : "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا…" (البقرة، 143). في هذه الآية، "أُمَّةً وَسَطاً" تعني أُمَّة عادلة، أي لا غُلُوَّ في تديُّنِها.

وما يُثيرُ الانتباهَ هو أن كل هذه الصفات الحميدة (مكارم الأخلاق) هي نفسُها التي جعلت منها حركةُ الإنسانيةِ أو التيار الفكري الإنساني humanisme أساسا لنظريتها الفكرية مع اختلافين عميقين بين الإسلام وهذا التيار الفكري. الإسلام يضع الدينَ فوق كل اعتبار، بمعنى أن هذا الدِّينَ، من خلال القرآن والسُّنة، هو الذي يهدي الناسَ إلى مكارم الأخلاق، بينما حركةُ الإنسانيةِ تضع الإنسانَ فوق كل اعتبار. وهذا يعني أن هذه الحركةَ تترك الدِّينَ جانبا وتعتقد أن الإنسانَ قادر على التَّحكُّم في مصيره دون اللجوء إلى عامل خارجي سواءً كان دينيا أو خارقا للعادة surnaturel أو سياسيا. قد يتساءل القارئ لماذا لجأتُ إلى هذه المقارنة بين مكارم الأخلاق التي بُعِثَ من أجل إتمامِها الرسول (ص) وبين حركةِ الإنسانيةِ؟

لأقولَ لهذا القارئ أن مكارم الأخلاق أو القيم التي جاءت بها حركةُ الإنسانيةِ لم يعد لها وقعٌ يُذكَرُ على حياة المجتمعات المعاصرة، سواءً كانت مُتديِّنة أو غير متديِّنة، إلا مَن رحِم ربي. بمعنى أن كثيرا من الناس في، هذه المجتمعات، لا يُعيرون أي اهتمام لا لمكارم الأخلاق ولا للقيم التي جاءت بها حركة الإنسانية. أو بعبارة أخرى، لم يعد هؤلاء الناس ينصِتون لا للعقلاء ولا للحُكماء ولا للفلاسفة ولا لفقهاء وعلماء الدين. أصبحت الأهواءُ وحب المادة هما العاملان اللذان يتحكَّمان في سير حياة المجتمعات. وما زاد في الطين بلةً هو أن السياسةَ وجَدَت في هذا الوضع، أي تلاشي مكارم الأخلاق، ضالَّتَها فخرَّبت القيمَ الدينية والقيمَ الإنسانية والقيمَ الأخلاقية… وعندما أتحدَّثُ عن الأهواء، فالأمرُ يتعلَّق بميل النفس البشرية إلى ما هو خارجٌ عن نِطاق تزاوج الإيمان و العقل وما هو مُتجاوِزٌ لمبدأ "خيرُ الأمورِ أوسطها" وبالتالي، ماهو مُخالٍفٌ لمكارم الأخلاق مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ… (المؤمنون، 71).

وما تجدر الإشارةُ إليه، في هذا الصدد وفي العصر الحاضر، هو أن العالمَ، بأوساطِه وبشرِه، يُعاني من فسادٍ اجتماعي وأخلاقي وبيئي سببُه الرئيسي هم السياسيون الذين، عَلَنِياً وأمامَ الملإ، يظهرون للناس كعُقلاء وحُكماء بينما هم، عملِياً وعلى أرض الواقع، يُسيِّرون ويُدبِّرون شؤونَ العالم أو شؤونَ بُلدانِهم خاضعين لأهوائهم عوضَ اتِّباعِ صوتِ العقل والحق والصواب وحُسن التَّدبير.

لقد تفكَّكَ ثنائي "العقل والإيمان" وأصبح العقل يتيما تسيطر عليه الأهواء والأهواء تسيطر عليها الأنانية والأنانية تخدم مصالحَ السياسيين أو مصالح بلدانهم دون مراعاة مصالح البلدان الأخرى. والدليل على ذلك، الصراع القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. إنه صراعٌ جيواستراتيجي، جيوسياسي وجيواقتصادي. إنه صراعٌ يتناقض مع ما جاءت به الآية الكريمة رقم 13 من سورة الحجرات : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…". والخطاب، في هذه الآية، موجَّهٌ للناس، أي للصيني والأمريكي والروسي والفرنسي… واليهودي والمسلم والمسيحي والآفريقي والأسيوي… لتعارفوا وليس لتتنافروا. والتَّعارف يلغي الحدودَ وكل الاختلافات كيفما كان نوعُها!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى