دريني خشبة - شباب..

(الأغاني والحوار موضوعان في الأصل باللهجة المصرية. . .)


(بل لابد أن أذكر لوالدتها كل شيء!).

(يا سيدتي مالنا وللناس، حسبنا أن نأكل خبزاً ونشرب لَبناً وعسلاً!).

(آه. . . لا. . . نأكل خبزاً ونشرب لبناً وعسلاً ونترك هذا الموظف اللاهي يعبث بابنة صاحب المنزل! لا! ليست هذه أمانة يا متولي، لابد أن أنقذ عرض هذه الصغيرة. . . إن ليلى شابة، والشباب لا عقل له، وربما اعتدى. . .).

(أوه! مالك وللناس! إنهما لابد يحبان بعضهما بعضاً يا بخيتة. ألا تذكرين ما كنا نصنع، أنا وأنت، قبل أن نتزوج.؟!).

وتستحي بخيتة وتسكت قليلاً ثم تتنفس تنفسة عميقة وتقول:

(الحمد لله يا متولي، لقد كنا نحب بعضنا، هذا صحيح، ولكن، الحمد لله، لم نغضب ربنا!؟).

(مرحى مرحى! صحيح نحن لم نغضبه قط، وأحسبه قد غفر لنا الألف ألف قبلة التي تبادلناها!).

ويشتد خجلها، وتصمت لحظة ثم تقول:

(أنت دائماً مبالغ يا متولي! ألف ألف قبلة؟ إن هذا العدد لا يؤخذ في أقل من عشر سنين، ونحن لم نحب بعضنا أكثر من شهر!).

(ثم انقطع ما بيننا من حب؟ أم ماذا؟).

(بل تزوجنا!).

(وليتنا ما تزوجنا!).

(فأل الله ولا فألك يا متولي! لماذا يا شيخ؟).

(لأن قبلنا كانت حلوة جداً قبل زواجنا!).

(والآن؟ هل هي مرة؟ أم ماذا؟).

(. . .؟. . .).

(قم بنا).

(إلى أين؟).

(إلى السطح!).

(لماذا يا امرأة؟).

(لأريك ماذا تصنع ليلى مع هذا الموظف (سامي أفندي).!

وهرولا فوق الدرج ووقفا خلف (المنور) الزجاجي المطل على غرفة سامي، يريانه ولا يراهما. . .

فتي في الرابعة والعشرين ترف على جبينه سحابة من الحزن، يلونها الحب بأمواه باكية من الحنان والرحمة والهدوء. . له عينان عميقتان كأنما تخرقان حجب الزمان أو تناجيان سكان السماء؛ ينظم الشعر ويهيم بالغناء ويشغف بالموسيقى، ويجمع في مسكنه بالطابق العلوي من هذا المنزل المتوسط طائفة مختارة من التماثيل أهداها إليه أصدقاؤه المولعون به لنفر من فنانين مصريين وعرب. وهو موظف في مصرف أجنبي يتقاضى مرتباً لا بأس به، يستطيع أن يضمن به صفاءه الذي لابد منه للشعر والغناء والموسيقى. . . والحب الذي يسقي هؤلاء.

كان إذا هدأ الليل، هدأ هو إلى عوده، وطفق يمر أنامله على أوتاره في لين ورفق، كما ترى النسمات النحيلة العليلة على صفحة الغدير الصغير؛ فإذا غنى، أرسل من قلبه ألحاناً هي لا شك روحه ممتزجة بموسيقاه؛ ولم يكن يغني إلا ما ينظم هو، لا ما ينظم الشعراء؛ وكان، إذا سئل في ذلك، يتعلل بأنه يأبى أن يكون كنادبات الجنائز، يرجعن كلاماً محفوظاً ليبكين به النساء. . . فالشعر شعره، والغناء غناؤه، والموسيقى موسيقاه، وجملة أولئك صورة روحه التي تشعر وتغني، وترن وتئن على أوتار العود.

وكانت ليلى ابنة صاحب المنزل الذي يقيم فيه سامي، فتاة في الثامنة عشرة، لها لفتة وفي عينيها سحر، وملء قلبها أماني. . . ما كاد الساكن الجديد يملأ منزلها بصباه العطر، وغنائه ذي الشذى، وموسيقاه ذات المعاني، حتى رجعت هي أصداءه جميعاً، وأحست كأن الساكن الجديد لم يأت ليشغل الطابق العلوي من بيتها، بل ليحتل السويداء من قلبها؛ فكانت كلما أقبل سامي من عمله في المساء تشعر كأن كهرباء ملأ قلبها، فهو يدق ويدق، ويخفق خفقاناً شديداً، ويسري في جميع أعصابها بكل حاجات الشباب الذي أضر به كبت المحبسين: المنزل الشرقي والتقاليد!

وكانت موجات أثيرية من غناء سامي وموسيقاه تشيع في أرجاء المنزل فتهز أركان ليلى، وتذيب في عينيها دموعاً ليست كهذه الدموع التي يحتلبها البكاء، ولكنها دموع علوية لا يدري المحب من أين تنهمل، لولا ما في أغواره من معاني الهوى. . .

وانسرقت ليلى في أمسية إلى (السطح) ووقفت مختبئة في نفس المكان الذي وقف فيه هذان العجوزان - متولي وبخيتة - يتلصصان على كيوبيد، حين يرشق القلبين الحبيبين بسهامه الذهبية!

وقفت ليلى ثمة، وتلبثت طويلاً تملأ أذنيها وقلبها بغناء سامي وحبه، ثم جعلت بعد ذلك تنسرق كالمرة الأولى، حتى تنبه غافل الشباب، فراح بدوره يرسل إليها أغانيه حاملة قبله، ثم لم يجد بأساً، وقد تأكدت بينهما أواصر الحب، من أن يغافلها وينسرق إلى حيث هي، فلا يكاد يسقط في يديها وترتبك ارتباكة يسيرة حتى يقدم إليها يده المرتجفة، فتصافحه وتنفتل منه فتطوي الدرج إلى. . . حيث تكون بخيتة مصعدةً فتكتشف السر الناشئ الذي لما يكد يشب أو يترعرع. . .

كان سامي يجلس على كرسيه محتضناً عوده، وأمامه ليلى على (كنبة) تحدق فيه، وقد وضعت رجلاً على رجل، وبدا ساقاها الممتلئان طراوة ونعومة وحياة وانسجاماً، واتكأت بظهرها على المسند فنهد جيدها المرمري، وبدت انفلاقة الثديين من فتحة الثوب الوردي الذي كانت ترتديه، فاختلط ورده بوردها المتفتح في كل جزء من جسمها الناضج السوي، وأسندت فَوْدها على يمينها قليلاً، وتهدلت خصلة من شعرها الأسود الفاحم على أصابعها فزادتها فتنة.

وكان سامي يداعب عوده، ولم يكن ينظر إلى ليلى، بل كان مطرقاً برأسه قليلاً، حتى إذا استغرقته الموسيقى أرسل من عينيه عَبْرتين لمحتهما ليلى فنهضت مسرعة وتلقتهما في منديلها الحريري الجميل. . . ثم جلست إلى جانبه، وأرسلت ذراعها البضة فوق كاهله، وأدنت رأسها من رأسه. . . ولم تكلمه!

وصمت سامي لحظة، ثم شرع يتغنى أغنية مطلعها:

إيه يا ليل، وقد طاب الهوى

وصَفَتْ أنفاسُهُ للأنفس

ما لقلبي خَفِقاً؟! هل من جوى

ومُنَى نفسي معي في مجلسي؟

وكان الفتى يرسل غناءه هادئاً يترقرق في أذني ليلى، وكانت نبراته ونبرات العود تأتلف وتسري في الهواء فيرقص من أسرها لهب الشمعة التي كان سامي يؤثرها على لألاء الكهرباء كلما غنّى. . . وكلما زارته ليلى.

وفرغ سامي من غنائه، وسكنت الحجرة قليلاً، ثم نادته فتاته:

(سامي!).

(ليلى!).

(هل أسعد منا حبيبان في هذه الحياة؟).

(كنت أرجو ذلك يا ليلى. . .).

(ولم لا نكون يا سامي؟).

(آه. . . أكثر الناس يحبون على أمل. . . أما نحن. . .).

(مالنا؟).

(لاشيء. . . لا شيء مطلقاً يا ليلى، لنعد إلى أحلامنا وموسيقانا فهي غذاء روحينا. دعي هذا الحديث فإنه يزعجني. بحسبي أن أكون معك لحظة بعد أخرى فأذوب وأحترق!).

(بل سنتحدث؛ بل ينبغي أن نفكر في المستقبل، إنني لا أطيق فكرة بعدي عنك يا سامي! إغفر لفتاة عذراء مثلي أن تكلمك هكذا! لقد امتزجت روحانا فليس يضيرني أن أصارحك! لقد اقتنع قلبانا ألا غناء لأحدهما عن الآخر، فلم نجلس صامتين تلقاء المستقبل الذي يروعنا بالفراق ولا نفكر بأن نحسم مشاكله؟).

(وهل نستطيع ذلك يا ليلى؟ أنسيتِ. . .).

(نسيتُ ماذا؟ لا. . . لا تظن ذلك محالاً!).

(ليلى! ماذا تريدين أن تقولي؟).

(اطمئن!).

(أطمئن كيف؟).

(أجل، يجب أن تطمئن، لقد صممت على أمر عظيم!).

(ليلى!).

(بل لن تردني أية قوة في العالم عما اعتزمته يا سامي، أليس كل ما يقوله الأغبياء إنني انهزمت بديني أمام حبي؟).

(ليلى!).

(لينهزم هذا الدين فأنا لم أعرفه بنفسي. . . أما الحب. . .).

(أنت جريئة جداً يا ليلى! لا. . . لا ينبغي. . . هذا كثير!).

(لا ينبغي ماذا؟ ألست تتفق معي؟).

(وكيف أتفق معك يا ليلى وديني يريني الله من خلل الحب؟).

(إذن اتفقنا، إنني لم أر الله إلا يوم أن رأيتك! ويجب أن أصل إلى الله عن طريقك يا سامي. . . اهدني يا سامي. . . لا تردني بعنف هكذا، إنك مسلم رقيق القلب مرهف الحس فياض العاطفة، وإن روحك تتكلم بلسان الموسيقى يا سامي، فلا تحاول أن تكون جباراً عليَّ، لا تحاول أن تردني عما اعتزمته. . . أ. . . ألا تريد أن نأمن غائلة الفراق، والفراق الأبدي يا سامي؟).

(وكيف لا أريد يا ليلى!).

(ساعدني إذن، خذ بيدي إلى ناحيتك. . . سامي. . . سامي. . .).

وانفجرت الفتاة تبكي بين يدي حبيبها، وأخذ سامي يلاطفها ويرفه عنها، ولكنها دست رأسها الجميل في صدره، وأغفت إغفاءة هينة لم يوقظها منها إلا شدة خفقان قلب سامي. . . قلبه الكبير جداً، الذي أُشرب حب ليلى، وامتزجت كل قطرة من دمه بتقديسها!

(صحوت يا ليلى؟).

ولكنها أجابته بنظرة فاتنة من طرف عينيها المبللتين بالدموع.

(كلميني يا حبيبتي. . . ليلى؟).

(سامي. . . اسكت! إن هذه الفترة الصامتة الباكية أسعد فترات حياتي!).

وطوقها سامي بذراعيه، وأخذ ينزح أسرار عينيها الباكيتين بعينيه العميقتين، ثم أهوى على فمها القرمزي ذي الثنايا المفلجة يقبله. . . ويقبله.

(أرأيت يا متولي؟ هل صدقت ما قلته لك؟ والله لأخبرن أمها!).

(بخيتة!! أنت طالق إن فعلت! يا غبية! يا أقبح النساء!).

(أنا؟ أنا أقبح النساء؟ وأنت؟ أتحسب أنك زين الرجال؟).

(لا. . . ولكني كنت أطمع في. . . فتاة طيبة. . .).

(مثل ليلى أظن؟).

(أجل. . .).

(اسم الله عليك يا سامي أفندي!).

(أحببته؟ أم ماذا يا امرأة؟).

(صوته جميل. . . أما صوتك، فحميري خالص!!).

(اسكتي يا خنزيره. . . هلمي بنا، كاد شباب الحبيبين يتلف قلبينا العجوزين!).

ونزل الخادمان وفي قلب كل منهما غصة تزلزله.

وبعد أيام همس الناس في هذا الحي من أحياء المدينة أن ليلى ابنة (. . .) اليهودي قد صبأت. . . واعتنقت الإسلام.

وبعد أيام أخريات، تأكد هذا الهمس، لأنها تزوجت سامي أفندي بالفعل، ونقل العروسان إلى الإسكندرية ليعيشا ثمة حياة هانئة ناعمة موفورة.


دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 164
بتاريخ: 24 - 08 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى