د. أحمد الحطاب - التقدم التكنولوجي، نِعمة أم نِقمة؟

التِّكنولوجيا أو علمُ التِّقنيات، هي الدراسة المنهجية للأساليب و الطُّرُق و الأدوات و الآليات الخاصة بمجال معيَّن أو عدَّة مجالات لها علاقة بالتِّقنيات techniques أو بالفنون arts أو بالحِرف métiers. فعنما نتحدَّث عن الأساليب و الطُّرق، فالأمر يتعلَّق بالمراحل التي يمرُّ منها إنتاج شيءٍ معيَّنٍ مثلا كالصابون أو دواء أو لباس أو حذاء أو مشروب…، أي انطلاقا من الماة الخام matière brute إلى المُنتَجِ المصنَّع produit fini. و عندما نتحذَّث عن الأدوات و الآليات، فالأمر يتعلَّق بالوسائط الميكانيكية أو الإلكترونية التي تحلُّ محلَّ الإنسان للقيام بمهام كانت، في الماضي، تستغرق وقتا طويلا أو جُهدا كبيرا أو طاقة كبيرة…

ما يمكن قولُه و بدون تردُّد، هو أن التِّكنولوجيا أسدت خدماتٍ عظيمةً للبشرية، و بالأخص، انطلاقا من الفرن الثامن عشر الذي تزامن مع بداية الثورة الصناعية révolution industrielle. في نفس القرن، تشكَّلت الرأسمالية و تكاثرت التِّقنيات و ازدهر الإنتاج و تطوَّرت وسائل المواصلات. كل الظروف كانت ملائمةً للتَّقدم التَّكنولوجي الذي لم يتوقف منذ ذلك القرن إلى يومنا هذا. بل إن هذا التَّقذم التِّكنولوجي تَسارعَ و بلغ مراحلَ خيالية أصبح فيها الاستغناء عن الإنسان شيئا عاديا في العديد من المجالات الصناعية على الخصوص. و قد بلغ هذا التَّقدم التِّكنولوجي دروتَه عندما اقترنت التكنولوجيا بالرَّقمنة التي لم يعد مجال من مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصاذية خاليا منها. فكم هي عديدة المجالات الاجتماعية، الاقتصادية و الصناعية التي متروكٌ تدبيرُها و تشغيلُها للذكاء الاصطناعي intelligence artificielle! فكم هي عديدة الآلات المنزلية التي لا تحتاج إلا الضغط على زرٍّ لتقومَ بمهمتها! و كم هي عديدة الآلات الصناعية و المنزلية التي تضبط نفسَها بنفسِها!

غير أن التَّقدُّم التَّكنولوجي، رغم ما أسداه و ما يُسديه من خدماتٍ للإنسان، ليس دائما خاليا من الضَّرر لنفس الإنسان الذي هو مُبدِعُه و صانعُه. فنفسُ التِّكنولوجيات من أساليب و طرق و أدوات و آليات، إنْ جنى منها الإنسانُ منافعَ، فهي، في نفس الوقت، مُضِرَّة به. أذكرُ على سبيل المثال التلوث الذي يُفرزُه العديد من الصناعات و وسائل النقل المعتمِذُ تشغيلُها على الطاقات الأحفورية. و كم هي عديدةٌ الأدوات gadgets التي يمكن الاستغناء عنها دون أن يحدثَ أي خللٍ في الحياة اليومية للإنسان. و كم هي عديدة الأشياء التي هي مجرَّد "أشياء رفاه" objets de luxe لا تُغني و لا تُسمن من جوع. و هنا، يُطرحُ سؤال طويل و عريض : "إذا أسدت و تُسدي التِّكنولوجيات خدماتٍ للإنسان، فهل للتَّقدم التِّكنولوجي معنى يقبله عقل الإنسان؟

ما هو مؤكَّد و ما بيَّنته الدراسات و الأبحاثُ، و خصوصا في مجال علم الاجتماع، هو أن التَّقدم التكنولوجي سيفٌ ذو حدَّين بمعنى أن له جوانبا كثيرة تعود بالنفع على البشرية، و في نفس الوقت، له مساوئ ليست في صالح هذه البشرية قد تقود، أحيانا، إلى الخراب و الدمار. بل قد تهدِّد بقاءَ الحياة برا، بحرا و جوا. وما تجدر الإشارة إليه، هو أن الإنسانَ هو الذي يجعل التقدم التكنولوجي سيفا ذا حدَين. بمعنى أن إرادةَ الإنسان هي التي تقرٍّر أن يكون للسيف حدان. و بعبارة أخرى، الإنسانُ هو الذي، بمحض إرادتِه، يجعل من التَّقدم التكنولوجي نِِعمةً، و في نفس الوقت، نِقمةً.

و إذا كان التَّقدم التّكنولوجي هو الذي مكَّن البشريةَ من ذلك التَّطوُّر الهائل في المجالين الاقتصادي و الصناعي انطلاقا من القرن الثامن عشر، فهل بإمكاننا أن نقولَ أن نفسَ التّقدم يسعى، في الوقت الراهن، إلى نفس التَّطوُّر؟ الجوابُ على هذا السؤال واضحٌ وضوحَ الشمس. لماذا؟ لأن التَّكنولوجيا تحوَّلت من عاملٍ يخدم الصالحَ العامَّ إلى عاملٍ للمتاجرة و الربحية profitabilité، أو بعبارة أخرى، تحوَّلت من عاملٍ لتسهيل و تلطيف شتى مناحي الحياة إلى رِهانٍ تجاري و اقتصادي. و هذا التَّحوُّل المتسارع هو الذي أدخلَ اختلالات كبرى، على رأسِها تغيُّر المناخ، على التَّوازنات البيئية و مكَّن بلدانا بأكملها من الانتقال من البداوة إلى التَّمدُّم. بل هو الذي جعلَ الإنسانَ يتساءل عن موقفه إزاءَ التَّقدم التِّكنولوجي.

ما فَطِنَ له الإنسانُ و أدركه، هو أنه لا يمكن إيقافُ أو تعطيلُ التَّقدم التكنولوجي ما دام أصبح رِهانا تجاريا و اقتصاديا و ما دام الاقتصادُ العالمي لا تهمُّه إلا الربحية التي بجنيها من هذا الاقتصادُ و بالتالي، من الإبداع في صُنعِ التكنولوجيات. و هذا هو ما يحدثُ حاليا حيث أن ما حصلَ من تقدُّم في صُنعِ العديد من التكنولوجيات، ما هو إلا مرحلةُ للانتقال إلى ابتكارات تكنولوجية أخرى في المرحلة القادمة. و كما سبق الذكرُ، فإن التَّقدم التكنولوجي سيعرف إيقاعا أسرعَ مما هو عليه اليوم و ذلك بفضل الرقمنة و الذكاء الاصطناعي و أهم من هذا و ذاك، الانتقال من التِّكنولوجيات المعروفة إلى النانوتكنولوجيات nanotechnologies التي تتحكَّم في الذرة atome و في الجّزيئات molécules. و قد يحدثُ ما ليس في الحُسبان في التَّطوُّرات التي ستطرأ في مجال التِّكنولوجيات النووية، في مجال الصناعات الكيميائية و خصوصا في عالم تُسيِّرُه ليبرابيةٌ متوحِّشة و في طور فُقدانه للقيم الإنسانية و للأخلاقيات éthique و للتَّبصُّر و بُعد النظر.

و ما قد تخشاه البشرية مستقبلا هو أن يتجرَّدَ الإنسان من إنسانيته من جراء هيمنة الرقمنة و الذكاء الاصطناعي على حياته بجميع تجلياتها. و هو ما يحدثُ حاليا في العديد من المصانع التي تُدارُ و تشغَّلُ عن طريق الرقمنة و الذكاء الاصطناعي بواسطة ربوتات robots. بل، بواسطة الرقمنة و الذكاء الاصطناعي، أصبح بإمكان الإنسان أن يقومَ بالعديد من الأعمال عن بُعد. حينها، سيقول الإنسانُ وداعا لكثير من الأعمال التي كانت تضمن التُّواصلَ الحميمي و حرارةَ اللقاء… فهل هذا معناه تراجع الأحاسيس و العقلانية و الحِكمة و كل ما هو روحاني؟

و في ختام هذه المقالة، هناك سؤال قد يكون شيئا ما مُقلِقا : "هل التَّقدم البشري المُتحضِّر سيٌختزلُ مستقبلا في التَّقدم التِّكنولوجي؟". إذا كان سيكون الأمرُ هكذا، فإن الحضارةَ لن يكونَ لها ذلك المعنى النبيل الذي، بدونه، تفقد رفعتَها و جلالَها و سُمُوَّها. فهل التَّقدم التكنولوجي نِعمة أم نِقمة؟ الجواب على هذا السؤال رهينٌ بنظرة الإنسان للكون و للحياة و للطبيعة و لنفسِه كبشرٍ فضَّله الله بالعقل على سائر المخلوقات. أما اليوم، ما دامت التِّكنولوجيا خالية من البُعد الإنساني و ما دامت رِهانٌا تجاريا و رِبحيا، فسيبقى التَّقدم التِِّكنولوجي، في نفس الوقت، نِعمةً و نِقمةً!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى