دريني خشبة - صراع مع الشيطان!

(الحوار في الأصل باللهجة المصرية. . .)

انبسطت حقول الأرز حول القرية الساكنة الشاحبة، وهدأ الليل الفضي إلا من ضفادع تنق، ونسمة ترف فتحرك أغصان (الجميزة) الكبيرة التي ترسل فروعها فوق شاطئ النيل من جهة، وفوق (الدَّوّاَر) الواسع في شرق القرية من جهة أخرى؛ وسفر البدر الجميل الساحر، ففضض عباب النيل، واختلط لجينه بمائه النجاشي، وتدفق فوق (اللسان) الحجري الأبيض الذي أقاموه ليفل من غربه فأحدث خريراً موسيقياً بديعاً.

وجلس (حماده) بن العمدة في منعزل عند ضفة النهر مما يلي الماء ينتظر فاطمة. . . الفلاحة الصغيرة الجميلة، التي رآها ابن العمدة حاسرة عن ساقيها وهي تنقي الأرز مع الفلاحات الأخريات، فجن بها جنوناً، وافتتن بها افتتانا.

لقد رشقت قلبه بنظرةٍ ماكرة حين رأته يكاد يأكلها بعينيه الجائعتين، وحين أحسَّت أنها حلت من فؤاده منزلة لا تعدلها منزلة فتاة أخرى، حتى ولا زوجته الغنية التي بني بها منذ شهر وبعض شهر، فكان لعرسها صدى أي صدى في كل القرى المجاورة، لا سيما وقد غنى فيه المطرب المشهور الشيخ عبد الإله. . والعياذ بالله. . .

ولسيقان الفلاحات جمالها الرائع، وهي دائما محاطة بظل من الفتنة، يزيده الخلخال النائم على العقبين، والملاءة السوداء القصيرة، رونقاً ورواء. وكان لفاطمة جيد بارز وقوام ممشوق، وكان لها عنق طويل أبيض، يزينه عقد كبير من الكارم الأصفر، ينتهي بحلية من النحاس المصفح بالذهب فتقر على الصدر، عند انفراج الثديين، فتزيد اهتزازات النهد خفقاناً في قلب حمادة. . . حمادة المسكين. . . الذي ربط حياته أبوه بحياة هذه الزوجة الغنية التي لم يحبها، والتي ألقاها أبوه على كاهله حملاً ثقيلاً من الهم والشقاء. . . والذهب!! والذهب لا يصلح علاجاً للهم والشقاء مهما كان كثيرا طائلاً.

لقد كان حمادة فتى ذكيا من فتيان الأزهر، فقطعه أبوه عن العلم ليزوجه هذه الزيجة الغنية قبل أن تفلت من يده، لأن أبناء العمد في القرى المجاورة كانوا قد بدءوا يخطبونها إلى والدها، وقد غادر حمادة الأزهر وفي قلبه حسرة، ولكنه خضع لمشيئة والده بعد أن خدعه بالأماني والآمال، وبعد أن زين له مستقبلاً مليئاً بالحور العين والدعة، وبعد أن بغض إليه مستقبل التحصيل الأزهري الشاق بتكرار هذه العبارة المنكرة: (الأزهر ما مستقبله؟ علومه ما قيمتها؟ أتريد أن تفقد بصرك وصحتك لتكون مأذوناً شرعيً آخر الأمر مثل الشيخ عرفه؟).

وتزوج حمادة من نظيرة، فلما كانت ليلة العرس، ودخل إلى عروسه، دارت به الأرض، وشعر كأن هواء الغرفة يخنقه، وانطفأت في عينيه الشموع الكثيرة الموقدة في (الصواني) النحاسية تحملها القرويات الصغيرات، وخيل إليه كأن جهنم بكل ما فيها من سعير تزفر من لهب هذه الشموع فتكاد تحرقه.

لقد نظر إلى عروسه فطاشت أحلامه؛ وذهبت أمانيه في الجمال الذي كان ينشده أباديد. . . حمادة، الذي كان يعبد الله في الجمال يبتليه أبوه بهذه المرأة التي فقدت نصف أذنها اليمنى، وأتلف الجدري أنفها، ونما لها في كل يد إصبع سادس ما ينفك يرقص كأنه الجلجل الصغير في عنق الدابة، ثم هي قصيرة مكلثمة شائهة، وقد زادتها الأساور والقلائد والقرط والخواتم وأرطال الذهب قبحاً على قبحها.

وتذرع حمادة بالصبر، ولم يشأ أن يجرح عزة هذه العروس التاعسة التي ليس ذنبها ألا تكون جميلة، فهي لم تخلق من نفسها شيئاً، بل هو قد رحمها وأشفق عليها رثاء لها؛ وصرف أهله وأهلها، وغلَّق الباب، وخلا إليها، ثم راح يكلمها كلام الذاهل عن تفسه، المستسلم لقضاء الله. . . ولكنها لم ترد عليه، بل تركت دمعة غليظة تنحدر على خدها فجأة، ثم استخرطت بعد ذلك في البكاء.

- (ما الذي يبكيك يا. . .)

- (لا شيء! فقط، كنت ولا زلت أعتقد أنني لم أكن أصلح لك كزوجة، ولكنهم أرغموني كما أرغموك يا حمادة، فليس هذا الذنب ذنبي!).

- (ولكنك مخطئة، فأنت امرأة صالحة وغنية!) - (وهذا هو موضع أساي وسبب بلواي. . . اسمع يا حمادة، لك مطلق الحرية في أن تُسرِّحني من الغد وأن تكون حراً بعد ذلك، وسأرد لك صداقك، بل سأرده مضاعفاً إن شئت. فإن أردت أن تستبقيني لديك فسأعيش معك عذراء إلى الأبد، ولن أنغص عليك بخلقي الشائه متاع قلبك ونعيم نفسك ولذة شبابك ونضرة صباك. فهذه أشياء لك أن تنعم بها، ومن الظلم أن أفرض عليك هذا القبح الذي رزأتني به المقادير، فأقف به بينك وبين لذات الحياة وهناءتها. . . أرسلني أشكر لك، أو استبقني أحمدك. فإن كانت الأولى تكن قد خلصت من خطأ أوقعك فيه غيرك، ولم تتكلف في سبيل الخلاص منه قليلاً ولا كثيراً؛ وإن تكن الثانية، فثق أنني سأعيش في كنفك كما تعيش الراهبة في دير ساكن هادئ على هامش صحراء، يقنعها أن قد انقطعت عن بهارج الحياة وزخارفه وآمنت ببطلان لذاتها. . . آه! يا إلهي! لم لا نتخذ نحن المسلمين مثل هذه الديور؟. . .

- (كفى يا نظيرة كفى! بل تعيشين معي على أحسن ما تعيش فتاة تفرح برجلها!. . .

وعاشت نظيرة في كنفه، عذراء كما عاهدته، وكان هو يحنو عليها ويعطف كل العطف، وكان يسامرها ويلاطفها ويهش لها ويبش، حتى كلفه أبوه بمراقبة الفلاحات إذ ينقين الأرز من الحشائش الغريبة وسائر الطفيليات، فرأى فاطمة. . . فاطمة الشابة الجميلة التي تتأرج كالزهر بشذاها وعَرْفها، وتتبرج كالدنيا بمفاتنها وظرفها. . . لقد بسمت له عن فم رقيق، وغمزت قلبه بعين خبيثة ماكرة ففجرت فيه أحاسيسه المكبوتة، وأطلقت عواطفه الحبيسة، وأحيت في صميمه مطالب الشباب فثارت كالبركان، وصعد الدم الحار يغلي في رأسه، وتدفقت في أعصابه قوى هائلة من الطبيعة البشرية بغَّضت إليه هذا الزهد المصطنع الذي فرضته عليه نظيرة، وقبحت إليه تلك الرهبانية التي عرفها وهو في ميعة الصبى وشرخ الشباب منذ الليلة الأولى التي رأى فيها زوجته الشائهة المسكينة.

وكان يرسل من يشتري له بلحاً أحمر يأكله بعد الغداء، وكان يوزع على الفلاحات بيده من ذلك البلح إذا فرغن من غدائهن؛ وكان نصيب فاطمة من هذا البلح الأحمر كبيراً منتقى، أثار في قلوب أترابها غيرة شديدة وجعلهن يهمسن بكلام كثير.

ومرت الأيام. . . وتأكد الحب بين حمادة وفاطمة، وإنه لينتظرها الليلة في هذا المنعزل الفريد عند ضفة النيل مما يلي الماء، قريباً من تلك الجميزة الكبيرة الوارفة، وإنها لتتأخر عن موعدها فيقلق حمادة ويضطرب، ويسمج في عينيه كل شيء من الطبيعة الساحرة التي حوله، حتى بدرها الذي كان للحظة قصيرة يتلو عليه مزامير الحب، يخيل إليه أنه مظلم قاتم، أو أنه جذوة من الشك السادر الحزين تجوب أقطار السماوات.

(لم لم تأت يا ترى؟ آه اللعينة! أخشى أن يكون في الطريق إلى قلبها فتى سواي. . . سأعرف. . . لا بد. . . لابد أن أعرف. . . سأسألها الليلة، لابد أن ألقاها مهما كانت ظروفها، لن تستطيع أن تنكر، ماذا تقول؟ هيه!)

وصعد إلى الجميزة لأنه لم يحتمل مرور الزمن وهو يترقب وينتظر، وجمع قليلاً من الجميز الفلكي الأحمر الكبير، وهبط ليلقى فاطمة تنتظره، فقذف بالثمر الناضج على العشب، وفتح ذراعيه وضم إلى صدره فاطمة، واحتملها كاللعبة، ويمم شطر المنعزل الهادئ القريب من الماء. . . ثم جلسا يتناجيان. . .

- (لماذا أبطأتِ عليّ يا بطة؟)

- (لا شيء، غير أنني كان يخيل إليّ أن الطريق كلها عيون ترقب جميع حركاتي، وكنت على غير عادتي أشعر بقلبي يخفق خفقاناً شديداً. . . حمادة أليس قلبك يخفق مثل قلبي؟).

- (يخفق؟ يخفق فقط؟ إنه كاد ينخلع هذه الليلة يا طمطم لأنك أبطأت كثيراً. . .).

- (حمادة، أنا خائفة. . .).

- (خائفة؟ من ماذا يا حلوة؟ هل هنا عفاريت؟).

- (لا، ليس من العفاريت، فالليلة مقمرة. . . الحمد لله. . .).

- (إذن مم تخافين؟ هل تعقبك أحد إلى هنا؟).

- (لا. . . لا أظن، ولكن. . .).

- (فاطمة. . . كفى! يجب ألا تفكري في شيء ما دمت معي. . . تعالي يا فاطمة، هاتي فمك الخمري الجميل، الله! ما أشهاه يا فاطمة! قبلة ثانية، لا والله، لابد، لابد، فاطمة، أنت ترفضين؟ آه! يا قلبي!).

- (حمادة! أنا خائفة قلت لك!).

- (خائفة من أي شيء يا طمطم؟).

- (من. . . من. . . منك. . . أنا خائفة منك يا حمادة؟!).

- (مني؟ مني أنا؟ أنت خائفة مني؟).

- (نعم أنا خائفة منك. . . خائفة جداً!).

- (لماذا؟ هل أنا عفريت؟ القمر طالع والحمد لله؟. . .).

- (حرام عليك يا حمادة!).

- (حرام علي ماذا؟).

- (شيء. . . فقط. . . زوجتك نظيرة. . . إنها لو علمت تقتلني!).

- (امرأتي نظيرة! العياذ بالله؟ نظيرة ليست امرأتي يا فاطمة!).

- (ليست امرأتك؟ امرأة من إذن؟).

- (أجل، نظيرة ليست امرأتي! إنها فريسة أبي).

- (فريسة أبيك كيف يا حمادة!).

- (فريسة أبي، لأنه تجاهل قلبي وشبابي حين اشتراها لي).

- (اشتراها لك؟ وهل العرائس تشترى! ماذا تقول يا حمادة؟).

- (اشتراها، أجل اشتراها، اشترها لأنها تملك خمسين فداناً ومنزلين وعندها نقود كثيرة، ولكنها، كامرأة. . . لا تسوى منك قلامة ظفر يا فاطمة!).

- (لمه؟ أليست جميلة؟).

- (جميلة؟ كلا! إنها شوهاء! أكل الجدري نصف أنفها وذهب الجزار بنصف أذنها، ونبت النصفان، نصف الأنف ونصف لأذن، في يديها، فكانا في كلٍ إصبعاً سادسا؟. . .).

- (ولكنك تخونها الآن يا حمادة؟ أليس كذلك؟).

- (أخونها، لقد صرحت لي ليلة الدخلة أنها لن تقف في سبيل لذاتي!).

- (ورضيت أن تعاشرها على هذا الشرط؟).

- (. . .؟. . .).

- (وأنا أرفض أن أكون مطية للذتك! هذا كثير! دعني! لابد أن أعود أدراجي!).

- (إلى أين؟).

- (ليس هذا شأنك!).

- (آه! اعترفي إذن! إلى عشيقك الثاني! الذي أخرك هذه الليلة!).

- (حمادة؟ ماذا تقول؟ أنت جبان!).

- (جبان؟ لا. . . أنا لست جباناً. . . ألذلك تخافين مني؟ ولكن لا، لن يتمتع بك أحد غيري، أنت لي وحدي، أفهمت؟ أنتِ لي وحدي! فاطمة! انزعي هذا الثوب. . . وذاك النصيف!).

- (يا حمادة عيب!).

- (عيب؟ لا، ليس في ذلك عيب مطلقاً! قد عرفتك الليلة فقط، ولابد أن أنالك رضيت أو لم ترضي! ستكونين جميلة جداً وأنت عارية!

- (حمادة! إن لم ترجع (فسأصوّت).

- (صوّتي ما شئت! لا تفضحين إلا نفسك! أنا رجل على كل حال، ماذا يهمني إذا اجتمع الناس؟. . .

وانقض عليها المسكين ينزع عنها ثيابها ثوباً ثوباً. وما استعصى عليه منها جبذة فمزقه، حتى وقفت أمامه فاطمة دمية من المرمر الناصع. . . تمثالاً! تمثالاً فاتناً خلاباً. . . ولكنه لا يتحرك! لقد ذهلت فاطمة عن نفسها فلم تدر ماذا تصنع؟ أتصوّت كما أنذرته؟ ولكنه قال لها إنها إن فعلت فلا تفضح إلا نفسها. . . جبنت فاطمة فلم تصوت إذن. . . ووقفت مشدوهة حائرة، وصب القمر على بدنها الجميل المذعور أضواءه الفضية فزادها فتنة؛ وهبت نسمات عليلة فداعبت شعرها الأسود فانتثرت على جيدها وظهرها وحول عنقها. . . وجاء دور الشيطان. . . نوبة إبليس الأكبر! فرح يصقل فخذيها ويلون خديها ويثقل ردفها وينفخ ثديها. . . وانطلق يوسوس في قلب حمادة (هلم! أهجم عليها! لماذا تنتظر! ها هي ذي! إنها لك الساعة وإذا فارقتك فلن تراها بعد! أنت شاب، وللشباب مآربه! زوجتك الشائهة! لا تخش شيئاً! اقطف الثمرة قبل أن يلتقطها عشيق غيرك! الجدري! فاطمة جميلة ساحرة؟ الإصبع السادس! هالك متاع الدنيا!. . .).

وأزله الشيطان فانقض على الفتاة البائسة. . . وطرحها على (الدريس) اليابس وأعواد البردي المنداة. . . ووقف برهة يملأ ناظريه الفاسقين من جمالها المظلوم. . . وقبل أن يتقدم فيخطو الخطوة الأخيرة، وحين أيقنت فاطمة أنه موشك أن يعتدي عليها. . . اغرورقت عيناها بدموع غليظة، وقالت له: - (حادة! والقرآن يا حمادة! القرآن الذي حفظته في الأزهر؟ نسيته؟ نسيته يا حمادة. . . بهذه السرعة؟).

- (القرآن؟ القرآن!! هه!. . .).

وجمد الفتى في مكانه لحظة. . . ثم ولى الفتاة ظهره، ونظر إلى السماء وقال:

- (ربي! غفرانك اللهم. . . فاطمة!).

- (. . .؟. . .

- (انهضي فالبسي ثيابك!).

ونهضت فاطمة وهي لا تصدق، فارتدت ملابسه، الممزق منها وغير الممزق، ثم قالت لحمادة بصوت خاشع متهدج:

- (حمادة! أنت. . . مالك يا حمادة).

ولكن الفتى ازوَرّ عنها وقال:

- (لا شيء يا فاطمة. . . عودي أدراجك إلى منزل أبيك، وسأحرسك من بعيد. . .).

وانطلقت الفتاة في الطريق المقفر الموحش، وانطلق في إثرها حمادة، وهو لا يكاد ينظر إليها. . .

- (نظيرة! هل يحزنك أن أتزوج؟).

- (يحزنني؟ بل يسرني أن تمتع شبابك كما يحلو لك!).

- (إذن فقد عقدت على فتاة فلاحة. . . فقيرة في غاية الفقر وستكون خادمة لك إذا شئت!

- (من؟ من هي يا حمادة؟ من هي بالله عليك!).

- (فاطمة بنت عم عبد القادر العتال!).

- (مبارك. . . مبارك يا حمادة

ولم تحتمل نظيرة الموسرة هذه الرهبانية التي فرضتها على نفسها في منزل العمدة الذي خدع ابنه فرجت حمادة في طلاقها. . . وذهبت بكل ما عليها من ذهب إلى منزلها الرحب الفسيح في إحدى القرى المجاورة للمنصورة!

دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 165
بتاريخ: 31 - 08 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى