على حزين - قنطرة

اقترب منه , همس في أذنه , بنبرة هادئة , قال له :
ــ أعترف ..؟!
نظر إليه , مستغرباً , تأمله , ولم يرد عليه ,
طرح عليه نفس السؤال , وهو يبتعد عنه بضع خطوات , بطريقة أخرى :
ــ الأنكار لا يفيد ..؟!
صرف نظره بعيداً عنه , وراحت الذكريات تعربد في رأسه , تذكر ..
" كانت تتعمد شد انتباهه إليه بإطالة النظر إليه , والإقبال على حديثة, والاهتمام به , وعندما كان ينظر إليها, كانت تبتسم له, ابتسامة جميلة مريحة , فكان يرتبك, ويشعر بقلبه وهو يخفق في صدره , فيهرب بعينيه بعيداً حتى لا تلاحظ شيئاً عليه, لكنها كانت تعرف بأنه لن يستطيع المقاومة أمام أسلحتها , وشباكها التي نصبتها له , وكان سعيداً جداً بهذا الاهتمام .. وكأن شيئاً ما قد جمع بينهما , لا يدري ما هو , وكانت تأخذه عيناها إلى عالم آخر, جميل, اشبه ما يكون بعالم الأحلام , والسحر, والخيال, وكان يشعر بالسعادة , ويحدث نفسه بأنه محظوظ جداً,"...
يأتيه صوت الواقف أمامه , وهو يغالب ابتسامة تريد أن تظهر , لكنه لم يفعلها ,
ــ فيما تفكر
بنبرة هادئة , اقترب منه , وهو يرد عليه ,
ــ لا شيء ..!
أخرج له سيجارة , يشعلها , دفعها له وهي مشتعلة , أمسكها منه ووضعها في فمه ,
ــ الإنكار , والهروب لا يفيدك , صدقني ...
قالها له بعدما هزه من كتفه , ونظر في عينيه نظرة ذات مغزى ,
ــ ...............
تصبب عرقاً , أخرج منديلاً من جيبه , جفف به شلال العرق المنهمر فوق جبينه , وهو يبتعد عنه خطوتين أو ثلاثة , شعر بالإعياء يفت في جسده المتهالك , يخرج سيجارة من فمه , ببطء , يقف , بجوار النافذة المطلة على الليل , سحب نفساً عميقاً , حبسه في صدره, ثم نفخه في الهواء , وهو ينظر في الفراغ الذي أمامه, يرى صورتها أمامه , وهي تبتسم له , وتستدعيه ذكرياته من جديد , يتذكر ...
" أول عهده بها, حين ظهرت فجأة في حياته , وكيف تعرفت عليه , وكيف جعلته يحبها , وكيف خدعته, ولم تخبره بأنها متزوجة برجل أخر ... وكيف ... وكيف ... "
همس في أذنه , يسحبه من تداعياته , وهو يرنو إليه , يتأمله ,
ــ هل كنت متأكداً من حبها لك ...؟..
ــ ............
يصمتْ ولم يرد عليه , يأتيه طيفها , يقترب منه ثانية , يتركه , ويتجه نجو المكتبة , يمسك كتاباً , يمسح التراب العالق به , يفر أوراقه بين يديه , بنصف عين مفتوحة , ينظر إليه ,
ــ كيف حدث هذا
ــ ............
بملامح حادة, استدار نحوه , استقبله بوجهه , أقبل عليه, من جديد غرز عيناه في عينيه, بنبرة ممطوطة خفيضة , مال عليه , وقال له :
ــ والآن ماذا ستفعل ..؟!ّ
ــ ..........
هرب من سؤاله الصعب , ومن عينيه الواسعة , نهض , ليضع الكتاب الذي في يده , مكانه , بعيداً , دون أن يلتفت إليه , ثم شاح بوجهه بعيداً عنه, ولم يجبه , ..
تستدعيه الذكريات, من جديد , تمر من أمامه , تبتسم له , فيبتسم لها , وهي تنتظره في نفس المكان , كوردة بيضاء معطرة , وهي تنظر في ساعة يدها , وقلبه يكاد أن ينقلع من صدره لما راها أول مرة , جمالها لا يقاوم , وحسنها يأخذ من يراه , وتجعل العقل يطير من الرأس, وكانت تنظر إليه وتطيل النظر, كأغنية ساحرة , وهو ينظر إليها, يتأملها , مدهوشاً من شدة جمالها , ويستمع لصوتها العزب , مجذوباً إليها بقوة خرافية خفية لا يدري ما هي, ولا كيف هي, أحبها من كل قلبه, فسكنت فيه , وهام بها " ...
يأتيه الصوت هذه المرة , من أمامه , ينتزعه من ركام تداعياته ,وذكرياته البعيدة , وهو يدنو منه , بخطوات , بطيئة , ثقيلة , قاتلة ,
ــ أتعلم أنها امرأة متزوجة ..؟!
قالها له وهو يجز على أنيابه , وقد ضغط على رابطة العنق " الكرفته " وأخفض من حدة صوته , حتى لا يفزعه
ــ ................
ترك الكتاب من يده, اقترب من المرآة لينظر فيها, راى الشعر الأبيض راح يغزو راسه , والتجاعيد أخذت طريقها للظهور بشكل ملحوظ , مسح وجهه , وتحت عينيه , وهو يتمتم :
ــ ولما لا ..!!
عبث بلحيته التي طالت, فكر في الأمر ملياً .. وهو يرنوا إليه , داعبته بنات أفكاره, أراد أن يعترف له بكل شيء , ويضع النقاط على الحروف , وأراد أن يتكلم , أن يصرخ في وجهه , ليقول له الحقيقة , لكنه لم يتكلم , ولم يصرح , لم يجبه بشيء , فقط , لاذ بالصمت, وهرب منه , ومن سؤاله , ولم يرد عليه في هذه المرة أيضاً
ــ ................
يشعل سيجارة أخرى , يقهقه , بهستيريا , ينفخ دخان سيجارته في وجهه , يدعه يهدأ قليلاً, يقترب منه أكثر, يعود يدور حوله, يضع سيجارته يدسها تحت حذائه , يدهسها تحت حذائه القديم ,
" كانت وقتها حائرة , وكانت الرؤية شاحبة , حين جلست بالقرب منه , وقد بدت له كوردة بيضاء جميلة , أو كفراشة ملونة مثيرة , جلست على أريكةٍ تحت شجرة, تنظر في عينيه , تتأمله , وهو لا يستطيع أن يتحكم في أفكاره , ولا في ضربات قلبه , ومرت دقائق لا تحسب من عمر الزمن , وهو ينظر إليها , يتأملها بحب , وسعادة غامرة , هكذا كانت البداية , وهكذا تعرف عليها وسط الخَضار, ثم دار حوار طويل بينهما , "
مرة أخرى يستدعيه , ليسأله , بعدما شبك يديه خلف ظهره, بصوتٍ فيه حزن :
ــ لماذا فعلت هذا ..؟!
قالها بنبرةٍ حادة, ليشرخ غلاف الصمت الذي أطبق على المكان, وهو ينتشله من ركام ذكرياته
في هذه المرة , بصوت منهك خفيض , بعدما جلس على أقرب أريكة , بجواره , وهو يفتش في الكتاب الذي عاد وأمسك به مرة أخرى: ..
ــ لا أدري .......
قالها له وهو يجز على أنيابه , وقد أخفض صوته بعض الشيء , ثم أكمل كلامه , بعدما أعطاه ظهره بنفس ذات النبرة الحادة ,
ــ أنا لا أعتقد أنك غبى إلى هذه الدرجة ..
بعدما ابتعد عنه بضع خطوات, واثقاً من نفسه , يضع يده على كتفه, يصن , يتطلع في وجهه , همس في أذنه
ــ منذ متى حدث هذا..؟!
التفت إليه , وهو يريد أن يقول له شيئاً , ويصرخ في وجهه , أرد أن يقول له الحقيقة لكنه لم يفعل , يعود ليقف مكانه , من جديد يأتيه صوت صديقه , مشفقاً عليه , وهو يقول له :
ــ لكنك , أذيت نفسك , أنت قتلتها ... أتعرف هذا..؟!
يبتعد عنه , وهو يحاول أن يتذكر .. منذ متى وهو هنا ..؟, وكم مضى من الزمن , وهو هارب , منها, ومن الناس , مختبئاً في هذا المكان البعيد , وقد أغلق هاتفه , حتى لا يعرف مكانه أحد ,
ولا يصل إليه أحد , فهي التي أجبرته على ذلك , بعدما عرف بأنه ما كان , بالنسبة إليها, إلا وسيلة , قنطرة , أو كبري أرادت أن تعبر عليه لتصل إلى شيءٍ كانت تريده , .........
وضع منديله على جبهته , وأشاح بوجهه بعيداً عن وجه صديقه, حتى لا يرى دموعه وهي تتساقط على الأرض , وصديقه الواقف فوق رأسه , ينظر إليه في صمت , وقد تأثر بما رآه, وينتظره أن يهدأ .....
******************
على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر
تمت مساء الأحد 12 /3 /2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى