لطيفة باقا - فاصلة منقوطة

أخي قتل حسين عريجة ولد ريافة.

رأيته يقفز ويقرفص بجانب النافذة وهو يتلصّص بحذر كبير ليرى ما سيحدث في الزقاق...

- ماذا فعلت أ لمسخوط؟

نظر إليّ كأنّه يحاول أن يحدّد إن كان يستطيع أن يطلعني على السّر دون أن أبلغ عنه رجال الشرطة:

- لقد قتلته... قتلت حسين عريجة... استفزّني وضربته بحجر على رأسه وسقط على الأرض ميّتاً.

قفزت بدوري إلى اللحاف بجانبه وكأنّني أصبحت بمجردّ معرفتي بما وقع مشاركة في الجريمة... ثمّ أخذت أنظر إلى الحي وأصيخ السمع علّني أعرف ما يقع في الأسفل... لا شيء كان يوحي بأنّ هناك قتيلاً في الحيّ... تجاسرت أكثر ومددت رأسي لأطلّ إلى الخارج... لا يوجد أحد لا صوت بكاء ولا صراخ، كان الزقاق صامتا وفي وضع اعتيادي تماما... الظهيرة وانقطاع الحركة، التلفزيون في غرفة المعيشة يقدم النشرة الرياضية، الثانية بعد الزوال حسب توقيت غرينيتش، الذي يطابق توقيت ساعة أبي الحائطية الكبرى التي تحتلّ جزءاً مهماً من الجدار، والتي تدقّ اثنتي عشرة دقّة في منتصف الليل وتوقظ جميع الأسرة وربّما الجيران... أبي كان يأخذ قيلولته المعتادة قبل خروجه للعمل وهو لا يعلم أنّ عريجة قتل وأنّ ابنه هو القاتل... أخي يعلم أنّ أبي سوف يضربه... سينزع سرواله كالعادة ويطرحه أرضا أو فوق اللحاف ويشبعه جلداً بالحزام الجلدي على مؤخرته العارية... عندما يقتل طفل طفلاً آخر يتعرض للضرب من طرف والده... فكرت أنّ العقاب قليل نوعا ما، وغير كاف لكنّي لم أستطع أن أتخيل عقابا آخر. سوف تضربه أمّي أيضا تقرصه من "جذر" فخذه كما تفعل معي عندما أرفض غسل الأواني أو حمل الغسيل إلى سطح المنزل. كيف يمكن أن تكون عقوبة غسل الأواني مثل عقوبة قتل حسين عريجة ؟؟ سوف يتعرض لعقاب أكبر. أنا تقريبا متأكّدة من ذلك... ربّما سيتدخل أيضا والدا القتيل ويشبعان أخي ضرباً. لا أعرف بالتحديد طريقة هؤلاء الرّيفيين في ضرب الأطفال؟ أعرف فقط تقنية "البّا محماد" الشّلح جارنا في المنزل رقم 41 كان يعلّق أبناءه في سلك المصباح وسط الغرفة ويتركهم كذلك مدّة طويلة، تقول أختي يوماً كاملاً، أمّا أنا فلا أصدق أنّ ذلك ممكن... ربّما ساعة أو ساعة ونصف الساعة ليس أكثر... أمّا العروبية "فيرقّدون" الحبل المفتول في الماء ليلة كاملة قبل أن "يكتّفوا" أبناءهم ويبدأ الجلد كما كان يجلد بلال في مسلسل محمد يا رسول الله الذي غنت فيه المغنية ياسمين الخيام... أخي يدسّ رأسه في الوسادة ويبكي... سوف ينزعون عن حسين عريجة سرواله الأزرق الوحيد، تبّانه الأحمر الذي كنا نشدّ سرواله للأسفل لنراه، وقميصه البني نصف كم الذي لم يغيره أبداً خلال عمر بأكمله. المسكين سوف يلفّونه في ثوب أبيض... جديد... سوف يكون من حقّه أخيراً ثوب جديد غير مخيط وسيغسل جسده أخيراً، جسده المتسخ دائماً، كانت "أم ريافة" مريضة لا تقوى على غسل ملابس أبنائها السبعة، رأيتها بسطح منزلهم كانت تنقّي جبلاً من القمح الأصفر، حسين كان يحمل كيس القمح على ظهره رغم إعاقته إلى المطحنة في السوق الصغير المجاور لحيّنا... فجأة ألتفت لأخي:

ـ هاد الشي للي بغيتي، من يا ترى سيحمل القمح الآن إلى المطحنة؟ بسبب حجر حقير كان ملقى منذ قرون طويلة في زقاقنا، سيلتقطه أخي هذا اليوم ويسدّده إلى رأس المسكين عريجة ويرديه...قتيلاً... أمّه ولدت الكثير من الأولاد... الذكور فقط، جميعهم جاؤوا بقدمين كاملتين إلّا هو المسكين كان أعرج برجلين اثنتين، لكن للأسف غير متساويتين تماماً وأصبع صغير جدّاً زائد في يده اليسرى. عريجة أو "بوان فيركيل" (فاصلة منقوطة) قيد حياته، كان لا يشبهنا ليس فقط بسبب الرِّجل غير الكاملة ولا بسبب الأصبع الزائد بل أيضا بقدرته الخارقة على حلّ العمليات الرياضية حتّى المعقدة منها، كان ينجز لنا التمارين الحسابية علّه يصبح واحداً منا ونتركه يشاركنا اللعب. يقول أبي إنه فعلا "آنشتاين" صغير أنا لا أعرف من هو آنشتاين، لكنّي أخمّن أنّه كان مثل عريجة له رجل ناقصة ويحلّ العمليات الرياضية لأبناء حيّه في المدينة التي يوجد بها بيت أهله... كنّا نسخر من عريجة أحيانا لنقتل الوقت الذي كان يفيض عن الحاجة في زقاقنا... عندما تحلّ الظهيرة، ويخلد الآباء للنوم وتظل الأكياس البلاستيكية السوداء تتطاير في الزقاق الناشف...

ـ هل أنت متأكد من أنّه مات؟

ينظر إليّ أخي الذي كان لا يزال ينتظر مثلي بجانب النافذة.

ـ لا أحد بالحومة انظر بنفسك... من كان معكما هل شهد أحد ما حدث؟

لا يجيب... يلتفت إليّ مرّة أخرى يمرّ رأسه أكثر من النافذة... يعود لينكمش في مكانه، يظلّ يراقبني... ثمّ ينفجر باكياً مرة أخرى...

ـ لقد قتلته... قتلت حسين عريجة سوف يأخذونني إلى السجن.

السجن؟ فعلاً السجن هذا هو العقاب المناسب لمن يقتل ابن الجيران... لماذا غاب عنّي ذلك؟ لن يكون إذن حزام أبي ولا قرصات أمي ولا تعلاق ريافة ولا حبل العروبية المرقّد في الماء ليلة كاملة... إنّه السجن...

ـ هل سيأتي البوليس لاعتقالي؟ توقّف عن البكاء ورفع نحوي وجهاً اختلطت فيه الدموع بالأوساخ فبدا مثل مهرج...

ـ البوليس؟ هل رأيت البوليس ؟ أشرئب برأسي من النافذة... لا أحد، نحن نقيم في هذا الحيّ منذ كنت في القسم الأول عندما باع أبي سيارته "فيات 127" الزرقاء ودمالج أمي الذهبية، واستلف من خالي ما تبقى من المبلغ ليدفع تسبيق هذا المنزل الصغير الذي لم يكن متّسعاً بما يكفي حتّى لا تنتهك براءتنا ونكتشف قبل الأوان العملية التي يلجأ إليها الكبار لكي يأتوا بمزيد من الأطفال إلى هذا العالم القبيح... في هذا الحيّ رأيت كلّ شيء لأوّل مرّة: سرقات الصغار وخصومات الكبار، الوفيات، الولادات، الأحزان السرية والعلنية، الأعراس والفرح الجماعي، أمسيات النميمة ، عراك الأطفال الذي سرعان ما يتحول إلى عراك للأمهات وأحيانا يستمرّ حتّى عودة الآباء من "الخدمة" ليتحوّل إلى عراك للآباء... لكنّي لم أر أبداً شرطياً ببدلة ومسدس في حيّنا... كان "با أحمد" مخزني ولديه "زرواطة" كبيرة يتركها متدلية بجانبه... الشرطي كان يقف أمام منزل الباشا الذي نمرّ به كلّ صباح في طريقنا إلى المدرسة، وكان هناك آخر أراه عندما أرافق أمّي إلى القيسارية ، ينظّم المرور في الشارع الكبير ويحمل عصا بيضاء رقيقة يضرب بها الهواء... ليس هناك أيّ شرطي في الزقاق... فقط "ختي نفيسة" التي تعمل ممرضة "بالسويسي" تنزل من إحدى السيارات أمام باب منزلها تقبّل الرجل على وجهه، ترفع له يدها وتتوارى خلف باب حديقة منزلها...

ـ ليس هناك أحد... هل سيترك الشرطي مكانه أمام منزل الباشا ويأتي ليقبض عليك لأنّك قتلت بوان فيركيل؟ في هذه اللحظة بالضبط، تذكرت أنّ حسين كان يريد أن يصبح طبيباً للأطفال يريد أن يتخصص في العظام، أما أخي فقد كان سيصبح جندياً في أحسن الأحوال بالنظر إلى نتائجه المدرسية... أما أنا فسأصبح ممثلة مشهورة وسيكون لدي الكثير من الفلوس لأشتري الفساتين الجميلة وحقيبة يد بلون الذهب مثل حقيبة "ختي نفيسة" ولن أتزوج أبدا... مثلها. لن يتخرّج من حيّنا إذن أيّ طبيب عظام، فقط ممثلة وسجين والكثير من الحشاشين والعاطلين وربّما المعلمين والعاهرات والفرّاشين والمخبرين وذوي السوابق العدلية...

طرقات عنيفة على الباب... يمسح أخي الدموع من عينيه يرفع إليّ وجها أصفر شاحباً.

ـ لقد جاؤوا... جاؤوا ليأخذوني... لطم بحركة واحدة دفّرة النافذة وركض يختبئ في خزانة الملابس.

ـ أقفلي خلفي باب الخزانة... أسرعي... أنا لست هنا... أنت لم ترَي شيئاً.

أدرت بسرعة المفتاح في دفّة الخزانة ووقفت أنتظر.

ـ فاطمة افتحي الباب.

أمّي... وهي تطلب منّي أن أفتح الباب للبوليس...

ـ فاطمة... فاطمة افتحي الباب الله ينعل والديك.

البوليس... الحبس.

ـ أمّي لا أريد أن أفتح...

الخبط مستمر على الباب... يزداد شدة، أمي تصرخ... أدير المفتاح في باب الغرفة... قلبي سيسكت الآن... أجلس... أرضاً.

ـ أفينك أبنت الحرام؟ أسمع قدميْ أمّي تبحثان عن الفردة الثانية لصندل البلاستيك... أسمع خطواتها الثقيلة والمتذمرة تقترب من باب البيت...

ـ أشكون؟ تفتح أمي الباب... أسمع صوت الرّيفي أبي حسين عريجة.

ـ ألللاّ شدو ولادكم وربّيوهم شوفي آش دار ولدكم لولدي... شوفي الجرح فراسو... لقد قذفه بحجر وهرب...

ـ غي بالشوية أسي لحسن راه حنا جيران.

ـ يلا كانت غير جورتكم .. الله ينعل بوها جورة.


*قاصة من المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى