بسمة النسور - روحي حين كفّت عن الهدير

هممت بإلقاء الكيس المليء بألواح الشوكولاته في الحاوية الكبيرة المجاورة لمقعدي في الحديقة العامة، حين استوقفتني المتسولة المنهمكة في نبش القمامة في اللحظة ذاتها وهي تصرخ مستنكرة : " حرام عليك ماذا تفعلين ! هاتي ، سآخذها لأولادي ، حتى وإن كانت تالفة لا يهم ، لن يصيبهم أي مكروه، إنهم أبالسة يقضمون الصخر ولا يتأثرون، على الأقل يحلون أفواههم التي شبت على المرار".

نظرت نحوي بريبة، تفحصتني مليا قبل أن تسأل: " هل الحلوى مسمومة ؟ هل كنت تنوين التخلص من أحدهم، ثم غيرت رأيك في اللحظة الأخيرة ؟ معك حق، الرجال لا يجلبون سوى الشقاء، أود لو أقتل زوجي بيدي هاتين، رجل أخرق لا يصلح لشيء ".

ناولتها الكيس بعدما طمأنتها إلى خلو الحلوى من السموم ، مضت سريعاً فرحة بالغنيمة. لعلها ظنت أنني مجنونة أو مجرد امرأة مترفة جاحدة لا تقدر معنى النعمة ، تجلس مساء في الحديقة العامة ، ترمي الحلويات باهظة الثمن في القمامة، ثم تكتب شيئا غبيا وتدق بعصبية على الكمبيوتر الصغير المستقر في حضنها ، لاهية عن نظرات الفضوليين .

لم تعطني وقتا كي أشرح لها أني أحاول التخلص من إدماني المزعج على الشوكولاته، حتما كان الأمر سيبدو لها تفاهة برجوازية، لا تثير أي تعاطف قياساً بهموم البشر الكبيرة، لكن صدقوني المشكلة جادة وحقيقية، أنا أتعذب فعلا، عليّ أن أبذل جهوداً قصوى للصمود، حين تبدأ أعراض انسحاب السكر من جسدي ، فأحس بالوهن والحزن وأفقد شهيتي للحياة .

في واقع الأمر بدأت معاناتي للتو ، ها أنا أكبس أزرار ( الكيبورد) وألاحظ في الوقت نفسه ارتجافة خفيفة في أصابعي، ودوارا خفيفاً في رأسي، وزوغاناً في بصري وتراجعاً حاداً في مزاجي.

في العادة، أرتشف بضع قطرات من "النسكافيه"، وتتحرك يدي غريزياً باتجاه علبة الشوكولاته، ألتهم ما تيسر منها فأحس ببهجة ليس لها مثيل. أتذكر الآن أني تخلصت منها، وأن أولاد المتسولة سوف يتلذذون بمذاقها المدهش. أحس بالرعب إزاء عنادي إذا ما سيطرت علي فكرة ما، تلح عليّ هواجس المكابدة والفطام و تطويع الجسد على مهارات الاستغناء ، كي تتحرر الروح من عبء التفاصيل الطينية ، التي تجعل وجودنا على هذه الأرض بليداً وثقيلاً ، أحاول ذلك بين الحين والآخر، والحق أن ثمة لذة روحية قصوى يرتبها الحرمان، أحيانا أخفق فأعيد المحاولة .

الآن، أفكر بأن الأمر ليس سهلاً، منذ غدوت هشة، سريعة الانفعال، حين صعقني حب فادح مستحيل مجنون اخترقني كشهاب خاطف في لحظة غامضة، أيقظ روحي التي كانت تغط في سبات عميق، أشعلها بالتوق الجارف، وأصابني في مقتل؟

تسألون أين وجه الاستحالة ؟ هذا ليس مهماً، قد يكون أي سبب استخدموا مخيلتكم ، ربما أكون وقعت في غرام رجل متزوج من امرأة شديدة الغيرة وهي تحصي عليه أنفاسه، أو لعله محض وهم أنجبته مخيلتي غير العاقر في ليالي الوحدة الطويلة، الباردة، من يدري ربما عشقت رجلا فائق الحسن متفرداً حنوناً ذكياً مضحكاً صعلوكاً نبيلاً لا يحدث كثيراً في هذه الحياة، وهو للمصادفة يشبه شكل أجمل أحلامي، غير أنه يقطن في قارة أخرى.

ما الفرق! المهم أنه بعيد أكثر مما ينبغي، وأنني أحتاجه الآن بالضبط فيما أكتب هذا الهذيان الخالي من السكر، وأفكر بمذاق الشوكولاته حين تذوب في فمي، فتغمرني بحلاوة باذخة تغوص عميقاً في خلاياي المتعطشة للفرح، فأصبح أكثر يقيناً بجدوى الحياة ، غير أن فمي بات مراً وقد جفَّ ريقي وتضخم إحساسي بالخذلان.

نصحني صديق قديم، أثق به كثيراً، أن أكفّ عن تعذيب نفسي بلا طائل، وأن أحاول الخروج في المساءات بصحبة أشخاص لطفاء، لا يعكرون المزاج ويجعلون الحياة أكثر سهولة، قال لا تقلقي يا صديقتي ليست أكثر من قصة عابرة ستتجاوزينها بسهولة ، أجبت بتأثر إن الحياة ذاتها عابرة يا صاحبي، لا شيء ثابتاً في هذا الوجود الملتبس، أثنى على تأملاتي الوجودية المثيرة للجدل على حد تعبيره ، ثم أضاف بأن الأمر متعلق بالشغف لأنه يضفي الألق على بداية أي حكاية حب، وحين ينتهي يصبح الأمر برمته مثيراً للخيبة.


ماذا أفعل بروحي الأمارة بالوهم إذن وهي تمضي بي على درب التعلق المضني، فأقطن مختارة في الذكريات البعيدة، أتشبث بتفاصيلنا القليلة كما لو كانت ثروة هائلة أخشى عليها من الفقدان، الشوق يحرق روحي والتوق إليه يحيلني إلى امرأة من حيرة وارتباك.

أي صليب عليّ أن أحمل في طريق الألم شديد المرارة هذا ، فيما نحن متباعدان هكذا والروح ترتجف توقاً إلى وجودك، أنت تحبني أكثر من حبك أستراليا وهذا أمر مفرح لأن أستراليا قارة شاسعة جداً، لكنك تفضل البطاطا عليّ ، هكذا اعترفت لي بالأمس، ربما لأنها لذيذة ومقرمشة، غير أني أقل ضرراًمنها ، على الأقل لن أتسبب في زيادة وزنك أيها الأحمق الجميل، بل سأجعلك تفقد بعض الكيلوغرامات لأنك ستذوب بي عشقاً.


حين قلت لي يلعن أبو المسافات أحببت أن أصدق أنك تعنيها تماماً، نعم يا حبيبي إن روحي تلعنها معك، ألعنها كل لحظة كي أبددها وأطويها مثل سجادة فائضة عن الحاجة، أحس أنك على مقربة التفاتة مني ، تحط ذراعك فوق كتفي ، أستكين كقطة، أتمنى لو أعتقل اللحظة ، أن لا أغادرها حتى الموت، نعم هذا ما أريده على وجه التحديد، أنت والليل والمطر والموسيقى والشموع الذائبة، لا بأس إن انبثق خلف النافذة بحر هائج وقطيع خيول برية سوداء استعصت على اللجام وأخذت تعدو في العتمة محمومة تلهث من فرط النشوة، ليلة مخيفة تدور أحداثها في رأسي تستدعي لو تحققت أن تعلن منظمة إرهابية ما مسؤوليتها عن حدوثها.

أستعيد كلماتك، ويرقص قلبي بين ضلوعي فرحا. كتبت لي: عيناك فاتنتان وذئبيتان في آن واحد وهذا الحب الأرعن وحش صغير يكبر داخلنا رويداً رويداً، ما الذي يحدث بحق الشياطين ! الزمن ابن الكلب يمر بسرعة والعشق يحيل القوانين إلى إشاعات، وأنا معك خرقت كل القوانين، في البداية، أقصد قبل ورطتي الكاملة بك، كان ثمة فسحة لبعض الحكمة. قلت لك : أستحلفك بمعجزة اللحظة النادرة الثمينة التي ضمتنا أن نوقف هذا الجنون، استجبت لي كرجل شديد الاعتداد بنفسه لن يفرض نفسه على أنثى تعبر عن تردد.


طار صوابي عندها، غضبت منك ومن نفسي ومن المسافات، وعشقتك أكثر.

إحساس باهظ بالفقدان حل في روحي، التي توقفت عن الهدير حين ابتعدت عني. كانت كلمة واحدة منك كفيلة بانتشالها، ربما سيقوم بالمهمة كذلك لوح شوكولاته "تويكس"، حيث البسكويت مغطى بطبقة " الكراميل" المغطسة بالشوكولاته الدسمة الشهية ، إذ لا توجد مشكلة في العالم لا تحلها الشوكولاته! هكذا قال بطل فيلم السهرة الذي نسيت اسمه الآن، لكن العبارة راقت لي كثيراً.


تذكرت الرجل المخمور الذي كان من وجهاء المدينة البارزين، قبل أن يفقد عقله ويجن تماماً، حين فقد ثروته كلها في صفقة خاسرة، وها هو يقضي ما تبقى من عمره هائماً بهيئته الرثة ، متأبطاً زجاجة خمر رديء بخسة الثمن ، متسكعاً في محطة المدينة النائية ،غير عابئ بنظرات المسافرين الفضولية وهم في طريقهم إلى جهات بعيدة، قال لحظة عبوره أمامي في تمام الساعة الثالثة صباحاً: " سوف يتعذب كثيراً كل من لم يتذوق كأس الحياة الحلوة". قال هذه العبارة البسيطة المجردة التي تشبه النبوءة ثم مضى في طريقة دون أن يدرك أن تلك العبارة لمست أخمص روحي، ظللت أرددها بيني ونفسي.

طيب أيها المجنون الغريب، هل خطر ببالك أن كل من سيتذوق تلك الكأس الحلوة لن ينجو من العذاب الحتمي كذلك، لعل عذابه أكبر لأنه تذوق الطعم اللاذع الفادح لهذه الحياة التي تبعث على الحيرة في كثير من الأحيان.

هل تصدقون أن هناك أنواع شوكولاته محشوة بالفلفل! نعم وهي غالية الثمن، لن تجدوها إلا في أفخرالمحلات السويسرية ، مذاق غامض، عجيب حارق حريف تمازجه حلاوة طارئة تماماً كما الحياة ، لكني لن أعود إليها مهما حصل ، سأصمد ولن أضعف ، سأكتفي باللذة التي يرتبها الحرمان كما تقول الصوفية.

خلت الحديقة من المارة على نحو مفاجئ، أو لعلي لم أتنبه لذلك إلا حين هبط الظلام ، انتشر ضياء أعمدة الكهرباء تباعاً، مال الجو إلى البرودة. جسدي يرتعش بقوة، تداهم أطرافي رجفة عجيبة، تتسلل لوحشة إلى نفسي غير المطمئنة ، يهبط الحزن في روحي بكل ثقله، متعبة بشكل غريب ، أحس بأني سوف ألفظ أنفاسي الأخيرة توا، سيحل موتي فيما أشتهي لوح شوكولاته لا يتجاوز ثمنه الدينار، احتضار خال من الهيبة ! أفكر بسخافة ميتة كهذه ، من المؤكد أن مواقع الكترونية وصحف محلية ستبث كنبأ عاجل وفاة امرأة بظروف ليست غامضة أثناء جلوسها على مقعد خشبي في حديقة عامة، وسوف يشير النبأ أن الراحلة كانت منهمكة في كتابة شي ما، ويؤكد أن الجهات الأمنية تستبعد أي شبهة جنائية وترجح أن الوفاة حدثت لأسباب طبيعية سيحددها الطبيب الشرعي بعد تشريح الجثة.

ترعبني الفكرة، فأنهض محتدة، أستجمع قواي بصعوبة، موظف الأمن يرمقني بامتعاض، أغلق الكمبيوتر، أضعه في الحقيبة ، أسير نحو سيارتي بخطى واهنة، أدير المحرك، أبتسم بخبث لص محظوظ أفلت من السجن، حين تتعثر قدمي بلوح شوكولاته سقط سهواً بالقرب من دواسة البنزين، أنزع الورقة بلهفة عاشق معذب، أهمهم بوحشية مثل ذئبة عثرت بعد عناء على طريدة لصغارها المتضورين جوعا، ألتهم اللوح الشهي العذب شديد الحلاوة على مهل ، أستبقي القضمة في فمي أطول مدة ممكنة، أغمض عيني انتشاء، ألعق ما تبقى على الغلاف من بقايا، أمسح فمي بمنديل ورقي، أسحب نفس ارتياح عميقاً، أثبت المرآة قبل انطلاقي، أتأمل في انعكاس وجهي بارتياب، أحس أني أصبحت أكثر جمالاً، ليس لدي أدنى إحساس بتأنيب الضمير.. أحرك السيارة وقد تملكني يقين بأن روحي تخفّفت من أحزانها دفعة واحدة وأن الحياة محتملة أكثر لأن الحبّ بات أمراً ممكن الحدوث!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى