محمد الجالوس - صب واي.. قصة قصيرة

في المسافة بين " برانكس " و " بروكلين " ، كنت أقف وحيداً على حافة الرصيف ، محاذيا" تماماً , لسكة القطار ، في يدي كيس بلاستيكي وفي الأخرى ، علبة السجائر .

الساعة ، تقترب من منتصف الليل ، لا احد في الجوار ، يعلو من بعيد ، هدير منتظم ، انه قطار " الصب واي " ومع اقترابه ، كان قلبي يدق ببطء ، يتعالى مع رغبتي وأمنياتي ، بعربة مكتظة بالركاب ، فبعد منتصف الليل ، تصبح العربات ، ملاذاً وبيتاً لمن لا بيت لهم ، ومكاناً خطراً ، يتجمع فيه الهاربون من القانون وقطاع الطرق . او هكذا على الاقل ، ما سمعته من قصص الشباب ومن سبقوني الى مدينة الصخب ، نيويورك .

يقترب الصوت اكثر، التفت من حولي لأجد بعض الركاب وقد تناثروا هنا وهناك على قلتهم ، لحظات ويصعدون ، كل في عربته التي اختارها له ، قطار ما بعد منتصف الليل ، هكذا بشكل عشوائي وبلا ترتيب .

لم يكن من الممكن انجاز اللوحة الجدارية، قبل هذه الساعة من الليل , وكنت احاول باقصى طاقتي ، ان اختصر الوقت اكثر ، لتكون عودتي بعد غروب الشمس بقليل ، ولكن هذا ما حدث .

في جيبي مغلف ابيض صغير، انه اليوم الاخير، وكان لا بد لي من استلام بقية المبلغ المتفق عليه مع صاحب المطعم.

قال لي وهو يسلمني النقود:

- انتبه، ولا تخرج المغلف من جيبك، المسألة خطيرة، وعليك اختيار عربة مكتظة بالركاب، ولا تكن وحيداً عند صعود القطار.

- ربنا يسهل، قلت، ومضيت في طريقي الى المحطة.


الدقائق تمر ببطء شديد، ولا يسمع في الجوار غير صوت القطار وبقايا موسيقى صاخبة، تأتي من جهة غامضة.

في الليلة الماضية وكنت قد بدأت الرسم مشعلا صوت المغني إبراهيم صبيحات , في حفلة عرس شعبي , كانت زريف الطول تحثني على البقاء في حالة النشوة , سيما وان الموضوع الذي ارسمه شعبي أيضا , عازفون على الغيتار وفتيات بفساتين ملونة , يعلو صوت الدبكة وانا ساهم في طاقية عازف الغيتار , وفجأة , ارتجفت يدي وارتجف اللون من على سطح الطاقية , انه صوت هدير القطار , فالمكان الذي ارسم فيه , يقع اسفل المحطة تماما ويبتعد بضع امتار عن سكة القطار , ومع اقتراب القطار في كل مرة , لا اعود اسمع شيئا حتى يتلاشى ببطء , فالجدران تهتز ومزاجي يتغير , وهذا يحدث لي على مدار الساعة , ( بكرة بخلص ) , همست وتابعت الرسم بعناد .

اندست يدي دون قصد الى جيبي ، حيث المغلف ، تحسسته بهدوء ، وحبست أنفاسي وانا اهم بصعود العربة ، في هذه اللحظة بالذات ، قفزت الى رأسي وصايا الرجل صاحب المطعم ، وفي اقل من ثانيتين ، كنت ارسم سيناريو للحظات القادمة ، عربة فارغة الا من هارب تلطخت يديه بدم طازج ،انين هنا وجريح هناك , اشحت بوجهي لاصرف الفكرة ، صعدت الى العربة وخطوت بضع خطوات ، لاجد رجال ثلاثة بملامح افريقية سمراء ، رمقني الأقرب الي ، بنظرة لا تبشر بالخير ، كانت عيناه الحمراوان ، تقطر شرراً ، لقد اعتقد ، كما يفعل غيره بأنني اسبانيولي ، فشعري الطويل يوحي بذلك , وبنطالي المعفر ببضع رشقات من اللون الأحمر ، كلها اجتمعت لتؤكد لهذا الرجل ذو الأنف الغليظ والشفاه المكتنزة ، إنني اسبانيولي ، وبين الأفارقة والاسبانيول ، معارك طاحنه ، وثقه معدومة .

خطوة إضافية ، وقد ساورتني رغبة عارمة بالعودة الى رصيف المحطة ، لكنه القطار ، كان قد انطلق وأغلق الباب تماماً .

امرأة عجوز في الطرف الأخر من العربة، تبتسم بهدوء وفي يدها قطعة جلدية سوداء ، كأنها تدعوني للجلوس بجانبها , تمعنت في وجهها وانا اقترب , هي شقراء سبعينية وجهها النحيف تتخلله اخاديد عميقة , تعلو قسماتها الحادة , شعرها الابيض المعفر بخطوط بنية لزجة ربما لم تلمسه الماء منذ أسابيع , فكها الأسفل يطبق باحكام على شفتها العليا , اعتقدت لوهلة انها بلا اسنان , حتى بادراتني بكلمة ( هاي ).

لما لا , قلت في نفسي ، فهي ربما تحس بالخوف ، وانا مثقل بالهواجس ، فلنكن اثنين في هذه الرحلة .

قلت لها ( هاي ) .

حرصت وانا اقترب منها ، ان اجلس بعيداً عن الكيس البلاستيكي الذي احمل ، كنت أرسل للغرباء في الطرف الأخر ، رسالة مفادها ، ان لا شيء معي يستحق الحرص ، او اخاف عليه.

القطار يسير بسرعة لم أعهدها من قبل، يدخل في منطقة " هارلم " حيث العتمة تلف كل شيء، يتوقف للحظات، في المحطة، ثم يمضي بلا ركاب جدد.

- أحسن

قلت وانا احس بارتياح.

في هذه الاثناء كنت اتبادل النظرات الخاطفة مع الرجل ذو الانف الغليظ ، أحاول ان لا استفزه بعيني, فاشيح بوجهي بين لحظة وأخرى الى زجاج النافذة , حتى يأتي صوت سائق القطار، معلناً عن اسم المحطة القادمة.

هذا اليوم ، كان حافلاً ، ومتعباً ، غادرت بروكلين منذ الصباح ، وقد قررت ان انهي العمل في الجدار ، قلت : لن اهدأ قبل ان اسلم اللوحة كاملة ، واستلم بقية المبلغ ، هكذا خططت ، وهكذا بدأت الرسم بنشاط كبير ، مبالغ فيه , ربما ، انه اليوم الأخير ، ولابد من الإشارة هنا ، االى ان صاحب المطعم المكسيكي الاصل ، كان يتوقع اياماً اطول لانجاز اللوحة ، لذلك ، لم يناقشني في السعر الذي حددته في لقائنا الأول ، ولم يخف ايضاً وهو يسلمني المغلف الأبيض ، ان أربعة أيام هي قليلة جداً ، على مبلغ ، اعتقد انه كبير ، حاول ان يجادل في الوقت والسعر ، الا انه رضخ اخيراً إمام ما رآه من جودة الشكل والمعنى في اللوحة ، لقد تحقق له ما أراد ، لوحة كبيرة ، بطول الجدار ، من أول المطعم حتى أخر طاولة ، تحمل من اسم المطعم الكثير ، أسميتها " مزاج مكسيكي " ، ولانها تتعلق بالعازفين على الجيتار والراقصات القرويات ، فقد بدت مزركشة ، متحركة بامتياز ، ومقنعة لمطعم ظل لسنوات طويلة ، بجدران فارغة ، والوان بيضاء بلا ضجيج ، لقد تجاوز الرجل المكسيكي موضوع الزمن وبقي ساهماً وهو يسلمني المغلف ، غير مصدق انه دفع ما دفعه ، لقاء أربعة أيام عمل .

ما علينا ،

القطار يمضي بسرعة ، ونعاساً خفيفاً بدأ يدهمني رغم نظراتي المتباعدة للرجال الثلاثة ، بأصواتهم العالية ، وغرابة ملابسهم ، أنها حديقة متناقضة من الأحمر الناري والأخضر العشبي وأحذية رياضية بيضاء ملوثه بالطين ، على ان الرجل الأقرب الي ، ظل يرمقني من بعيد ، ولكن دون أذى .

لعلي غفوت للحظة، او هكذا خيل لي، والمرأة العجوز تنهرني بطرف إصبعها، وهي تقبض على القطعة الجلدية السوداء، التي لم افهم ما هي، رغم فضولي الذي وصل الى أعلى مداه.


القطار يسير تحت الأرض , في النفق الطويل بين برانكس وبروكلين ، وليس هناك من مساحة علوية ، لخط سيره غير التي في أخر بروكلين ، انتبهت مذعوراً بعد نعاسي الخفيف ، لأجد القطار وقد خرج عن مساره او هكذا تخيلت ، أضواء وسيارات وبنايات متناثرة هنا وهناك يتخللها جسر اسمنتي .

يا الهي ، هل تجاوزت الشارع 73 في الجادة الثالثة في بروكلين ، بالتأكيد ، ففي أيامي الثلاثة الأولى ، كان القطار يمر بعتمة النفق ، بالتأكيد تجاوزت بيتي .

ارتبكت وانا احمل كيس البلاستيك واقف على حافة باب العربة، لاغادر القطار، كانت نظرات المرأة العجوز تلاحقني وتبتسم ، توقف القطار ، هبطت مسرعاً الى الرصيف ، النفق مظلم ، ولا احد .

التفت من حولي ، وفكرت في لحظة واحدة كيف سأنتقل الى الطريق الأخر لخط سير القطار ، وهذا حتم علي , صعود الجسر الرابط بين الممرين ، ممر الذهاب وممر الإياب ، أريد الان ان اعود الى اول بروكلين وانا الان في أخرها ، بدأ العرق يتصبب من جبيني .

وحدها العتمة ، وقصص الموت في " الصب واي " بدأت تلاحقني ، صمت القضبان الحديدية ، سكة القطار السوداء ، وحجارتها المحروقة ، أضافت لوقتي ، وقتاً اخر ، مشحونا" بالترقب ، أنها لحظات فاصلة ، أعددت نفسي فيها ، لكل الاحتمالات ، ابسطها ان افقد المغلف الأبيض او هو الموت المحقق .

كانت الساعة ، قد تجاوزت منتصف الليل بكثير ، ووقوفي في هذا الوقت ، وقوف غير محسوب النتائج ، تجمدت في مكاني ، واصخت السمع ، صمت ، ثم ضجيج بدأ يتعالى ، أصوات تشبه العراك ، العتمة حالت دون معرفة مصدر الصوت , عيني لا ترى غير السواد وجدران المحطة المحترقة .

تقترب الخطوات اكثر، ويعلو الضجيج مغموساً بشتائم بدت الان أوضح، ربما كانو أربعة رجال، او أكثر ، لم اعد أتذكر ولم تسعفني العتمة ، بتحديد هيئتهم ، كنت قد انتقلت الى الطرف الأخر من طريق القطار ، ووجهته " مانهاتن " وبالتأكيد سيمر عبر أول بروكلين ، حيث الجادة الثالثة .

لحظات من الترقب والقلق اجتاحت جسدي , وفي هذه الإثناء ، عاد صوت القطار من جديد ، انه يقترب ، يقترب ، ثم يتوقف ، تفتح العربة ، معلنة اخر المغامرة ، صعدت ، بسرعة البرق ، وأخذت المقعد الأول ، المحاذي للبوابة ، هي لحظات ، ثم يمضي القطار ، تاركاً الصوت يعلو ، ويعلو .

الان رآيتهم بوضوح يتعاركون، أو ربما يتقاسمون غنيمة ما .



* برانكس وبروكلين – مناطق في نيويورك تشكل مع ثلاثة أخرى , مساحة المدينة كاملة

كانون الأول 2016

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى