هدى بوحمام - رفقا بالبشر

إن القلب ليشهق والروح تحتضر من كمية الآلام والمآسي التي يعيشها العالم في الآونة الأخيرة. لم يعد هنالك مفرّ من هذه الأعاصير الثائرة، فصور الأطفال تحت الأنقاض ومقاطع المنكوبين وهم يستنجدون أمام ديارهم المدمّرة غدت منتشرة في كل مكان. نحن نعيش جلطة قلبية جماعية خطيرة تكاد تذهب بكل ما نملكه من فجوات الأمل التي لطالما تمسّكنا بها لكي نواصل، لولا وجود اللّه وحفظه.

لم أعد أفهم أشياء كثيرة في هذا الزمن الغريب؛ بين وضع عدسة تصوير أمام أطفال قد نال منهم الخوف والبرد والجوع وهم عالقون تحت الأنقاض واستجوابهم عبر أسئلة بليدة لا تتطابق مع الوضع المأساوي الذي يتواجدون فيه، وعرض مصائبهم على الشاشة والحفر في جروح فقدانهم لذويهم وبيوتهم ومدارسهم ومصادر رزقهم، وبين جمهور مُتبلد ومواظب لا يتردد في نشر هذه الصور وتبادل الفيديوهات كي تُدمّرَ أكبر عدد ممكن من الأرواح، وبين “عالمي الغيب” المفسرين لكل ما يحدث على أنه غضب الله علينا وقدر مُستحق، وبين علاقات سياسية ظالمة تفتح باب المساعدات لجهة وتمنعها عن جهة أخرى لأسباب ملغومة وأنانية.

أين الإنسانية في كل هذا؟ أين الأخلاق وأين آداب الاحترام وأين الدين في كل هذا؟ ما هذا العالم الافتراضي الذي بعثَر كل شيء جميل كان يُميزنا وعرّى بيوتنا وسحب كل الستائر؟ لم يعد يُفرّق بين الواقع الأليم المُعاش وبين الشُوهات المعروضة التي يتقاضى أصحابها أجرا في نهاية الحلقة؟ ما هو أجر المنكوبين بعد تصويرهم بدون ذرة إنسانية أو مراعاة لحالاتهم الجسدية والنفسية؟ أن يتعاطف معهم العالم أكثر؟ هل هناك أكثر من معرفة أن زلزالا ضرب منطقتهم ودمّر الأخضر واليابس وقتل صغيرهم وكبيرهم على حد السواء؟

إن مخلفات الزلازل معروفة جدا لا تحتاج إلى استجواب أب منكوب لا يكاد يمشي على رجليه من شدة كسور جسمه وانهاكه بأسئلة سخيفة عن لقائه بابنه الصغير الذي ظنّ أنه مات تحت الدمار. لا نحتاج لمقطع طفلة ضحت بيدها النحيلة كي تحمي رأس أخيها الأصغر من ثقل المبنى المنهار فوق رؤوسهم، تترجى من يصورها أن يرأف بحالها ويُساعدها كي تخرج من تحت الحجر. لا نحتاج مشاهدة استجوابات لأطفال يحدّثوننا عن فقدانهم لآبائهم وأمهاتهم وإخوتهم ويشكرون العالم لأنه أرسل لهم الدواء. إن صور انهيار المباني وتشقق الطرقات وتعري الغرف كاف جدا لإيصال الصورة إلى أذهاننا وتحريك قلوبنا.

رُبّما أتقبّل مشاهدة صور ومقاطع من داخل المستشفيات، بعد انتشال الناس من تحت الأنقاض، بعد إنقاذهم وإيصالهم إلى بر الأمان حيث تُمدّ لهم يد المساعدة والمعالجة، حيث توجد بطانيات دافئة ووجبات أكل ومُحيط مُطمئن. ربّما أتقبل استجوابهم والتصوير معهم بعد النجاة وتحسُّن الحال. هكذا تطمئن قلوبنا عليهم ونعرف أن منهم من هو بخير، مما يُحفّز على التبرع أكثر على أمل إنقاذ ناس آخرين. لكنّ الصور والمقاطع المأخوذة للناس وهي عالقة تحت التراب تتوجع من شدة الثقل مرفوضة تماما أيًا كانت المُبررات، لا شيء يشفع هذا التمادي في قلة الأدب وانعدام الرحمة. لا شيء!

إنّنا نعيش نوبة فقر عصيبة؛ فقر المشاعر والأخلاق والمبادئ… لا أعرف ما الذي يُغيّرنا هكذا ويدفع بنا إلى قعر الحقارة، ولكنني أعي جيدا أنّنا نهوي بشكل سريع ومفزع ونتبنّى عادات لا تُمثلنا في شيء. إنّنا نصنع زلزالا لأنفسنا، يزلزل معتقداتنا وأفكارنا ويجردنا من إنسانيتنا. هذا المقال دعوة مفتوحة للتأنسن والسمو بالنفس والأخلاق. رجاءً لنكن أكثر رحمة بأحوال الناس ولنحترم قسوة أوضاعهم وعمق جروحهم. ضعوا عدساتكم الجائعة أمام أشياء لا تتألم ولا تتوجع واتركوا البشر في حالهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى