حيدر عاشور - كنت هناك عند باب الأموات

رأيته يقيناً بابا خشبيا مهيباً، وصحراء شاسعة فيما وراءه، وبوابة استقبال على نمط غرف التفتيش في دوائر الدولة. وكان كل من حولي يبكون، ويتساءلون عما اذا كنت اسمع وهم ينظرون الى وجهي المحروق؟. وكل من يضع يده عليّ ويهز كتفي كنت أحس به وعقلي يذهب اليه، وأرى كشريط سيمائي ايامي معه. والغريب رجعتُ طفلا أرى نفسي بوضوح. كيف فتحت عيناي بالكامل وأنا حديث الولادة؟.. اتفحص بنظراتي في صمت أمي وهي تبتسم ابتسامة خفيفة متجمدة على شفتيها، وأرى بعض النسوة يظهرن مشاعر مزيفة لا افهم سببها وبعضهن بولادتي جرحت قلوبهن جرحا عميقا. وحين بلغت اربعين يوماً ارادت أمي أخذي الى حمام النساء. رأيت بوضوح بعيني هاتين الحمام وهو ممتلئ بالأجساد، وهن يعترضن على دخول وليد بحجم الكف الى هذا المكان الخاص، وبين ضحكهن يمضين في التفسير العلمي لعين الطفل في محاولة لإقناع انفسهن ان الطفل يرى عورتهن، فيبدأن بثرثرة من الحمية الدرامية متواصلات الى قناعة ان حديث الولادة وان فتح عينيه لا يرى غير الملائكة وليس بوسعه ان يرى كل شيء بوضوح تام.. سلسلة حياة ماضية تمضي بي، اراها بوضوح واتذكر كل ما فيها.. فكل شخص من الاصدقاء المقرّبين ليّ أو من أفراد العائلة كانت لي معه قصة او حدث مهم كنت اراه واتذكر كل تفاصيله كما كانت. كنت افرح لأن البراءة الطفولية تعيد زمنها وهم يتفحصونني بنظراتهم في صمت بحزن خفيف متجمد على جبائهم وشفاههم التي ترتجف لما أنا فيه من تفحيم للجسد، وقلبي لايزال ينبض. ولأسباب مختلفة لم استطع ان أفهم ما في قلوبهم من مشاعر، لان مخاوفهم كانت بلا أساس، ولم تكن لديّ الاستطاعة والقدرة في معرفة ما يضمرون وحتى لو عرفت، ماذا استطيع أن أفعل وروحي في سقف الحائط تنظر اليهم وجسدي على السرير محترق...؟.
ربما رجوعي الى طفولتي وتذكري يوم مولدي بهذا الوضوح كان اساسه ذكريات سمعتها في وقت ما فحفظها عقلي الباطن، وربما مجرد تخيلات واضغاث احلام. ولكن كنت واثقا أني أرى المشاهد حقيقية بعيني هاتين. كانت تزداد مشاهدي حين يأخذونني الى حمام خاص ليسلخوا لحم جسمي المحروق.. كان ذلك الحوض الذي غسلت فيه أول مرة بحمام النساء، يبدو حوضا مصنوع من الطابوق القديم.. وسطه أملس وفوقه قبة من زجاج يدخل منها شعاع الشمس لتكون بقعة ضوئية على جسمي الغض، وكان الحوض الصغير دائري الشكل يلمع في تلك البقعة. وحين تصب أمي الماء على جسدي بطاسة من -فافون- تتدلى أطراف ألسنة من الماء وكأنها تلعق بقعة الضوء، لذا كنت لا أشعر بحوض السلخ بل كنت أرى موجات كبيرة وصغيرة تتضارب وتتلاقى رؤوسها على الاماكن المحروقة. وكل سلخة تنتفض روحي وتنطلق لتقف عند بوابة الخشب واطرق عليها بشدة.. هم يسلخون بقوة، وطرقي للباب يزاد عنفا.. لكن الباب لا تفتح فتتسلق روحي عاليا لترى صحراء ممتلئة بأشخاص لا يعدون ولا يحصون.. دققت النظر رأيت أبي يلوح لي كي أسمعه وهو يقرأ أخر قصيدة قبل أن يرحل. فما أثار في مشهد رؤياي استدعاء أبي لي لوجود أمل في عبور الباب بسهولة.. وساءت حالتي بمشهد أبي، وروحي أنتقل بها عبر فضاء حمام السلخ والباب الخشبي الذي لم يفتح لأنظم الى أبي.. كم اشتقت أن أسمع مقاطع من شعرهِ، وأن أعترف له بأنني ورثت عنه الشعر التوثيقي الذي يوثق الراحلين.. تمكنت في لحظة ان أشقّ طريقي نحو البوابة وسط وداعٍ حار من كانوا حولي من الاصدقاء والاقرباء، توقف قلبي وفرحت روحي لقلة الالم في جسدي.. فقد مات الجسد مع القلب هممت في الدخول الا أن طبيباً حريصا على بقائي اتعذب اعاد نبض قلبي من جديد.. فوجد روحي مرة اخرى محبوسة في سقف الغرفة ترى تعاني من اوجاعي بهدوء فقد زال الالم ببط وسكنت روحي من جديد في جسدي.. اسمع كل حديث ولا استطيع ان افتح عيني او اتكلم أي كلام...
وأنا منكمش من الضوء الذي كان يملأ عيني من خلال زجاج الوقاية، جاءتني قشعريرة تشبه الحمى وصداع رأس. كان الجميع لهم عيون ضخمة.. لم ار مثلها في حياتي وهم يتسألون لحظة فتح عيناي: هل انت بخير؟.. لقد رجعت للحياة بسهولة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى